قد يكون مستقبل العلاقات المصرية-الخليجية أحد ضحايا فاتورة الحرب الروسية-الأوكرانية.
هناك 25 مليار دولار أميركي زادت بين ليلة وضحاها على الموازنة المصرية الطموحة بسبب ارتفاع فاتورة الطاقة ومشتقّاتها والحبوب والغلال والسلع التموينيّة الأساسية.
زادت فاتورة مصر الشهرية في استيراد الطاقة بـ700 مليون دولار بعدما ارتفع سعر برميل النفط من 70 إلى 119 دولاراً. وقد يتعدّى 150 دولاراً في حال زيادة الطلب في أوروبا وزيادة طلب المصانع.
تُعتبر مصر المستهلك الأوّل في العالم للقمح، حيث إنّها تستورد سنويّاً ما يزيد على 12 مليون طن.
ونتيجة الحصار البحري المفروض على أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا ارتفع سعر طن القمح ما يزيد على 80 في المئة من قيمته التقديرية.
ترك الحالة المصرية كما هي من دون تدخّل اقتصادي وماليّ عاجل لمواجهة فاتورة الحرب الروسية-الأوكرانية هي كارثة بكلّ المقاييس
هذا الوضع الطارئ، الذي يأتي عقب الفاتورة الصحية والاجتماعية الباهظة، التي تحمّلتها مصر بشجاعة خلال العامين الماضيين لمواجهة آثار فيروس كورونا، شكّل ضغطاً متزايداً على العملة المحلّية مقابل الدولار الأميركي، وهو ما أدّى إلى خفض الجنيه المصري مقابل الدولار بما لا يقلّ عن 20 في المئة، الأمر الذي ألقى بآثاره على كلّ أسعار السلع والخامات الأساسية والوسيطة لبلد يستورد أكثر من ثلثَيْ احتياجاته من الخارج.
يحدث ذلك في ظلّ نظام رعاية اجتماعية توفّره الدولة لأكثر من 65 مليون بطاقة تموين مدعومة لغير القادرين، تشكّل أكثر من ربع موازنة الدولة.
باختصار هذا وضع استثنائي لا يُطاق ولا يمكن لاقتصاد مثل الاقتصاد المصري أن يتحمّل تبعاته ولا تكلفته.
موقف القيادة المصرية
يشعر صنّاع القرار في القاهرة بظلم شديد بنتيجة هذا الوضع المأزوم لأنّه لم يأتِ نتيجة سوء إدارة الحكومة أو فساد في المنظومة أو خطأ في التوجّهات الاستراتيجية الاقتصادية أو خلل في السياسة النقدية، بل جاء نتيجة أزمتين هما الكورونا والحرب الروسية-الأوكرانية، وهما أزمتان هبطتا من السماء على رأس البشرية.
تقارير صندوق النقد الدولي والمؤسّسات الماليّة الدولية خلال السنوات الثلاث الماضية كانت كلّها إيجابية، بل أشادت بأسلوب الالتزام الصارم للحكومات المصرية المتعاقبة بـ”روشتّة” الصندوق، إلى حدّ جعل دفعات المساعدات والقروض لا تتوقّف عن إمداد الاقتصاد المصري الملتزم بدقّة بإجراءات الإصلاح المطلوبة.
أزمة الاقتصاد المصري الآن هي في تدبير الموارد اللازمة لتغطية الزيادات الضخمة التي طرأت على الطاقة والغذاء.
هذا لا يمكن أن يتمّ بالدرجة الأولى إلا بحقن العملات الصعبة في جسد الاقتصاد المصري.
يؤكّد خبير ماليّ مصري أنّ “أسلوب الدعم الكريم من الأشقّاء العرب عبر ودائع دولارية في البنك المركزي المصري هو بمنزلة حلّ مسكّن للآلام، لكنّ الحلّ الجذري يكمن في توفير شحنات من الطاقة بأسعار مقبولة وبتسهيلات في الدفع مع فترة سماح، ويكمن أيضاً في دخول استثمارات خليجية في الاقتصاد المصري وتخفيف العبء عن كاهل الحكومة التي تحارب بسيفين في آن واحد:
– الأوّل تحارب به الفقر والحاجات الاجتماعية الملحّة.
– والثاني هو سيف البناء والإصلاح المتوسّط والطويل المدى الذي يتركّز في البنية التحتية والمشروعات العملاقة ذات التوظيف الكثيف العمالة.
في المقام الأوّل تنتظر القاهرة من أشقّائها في الخليج ألّا تُترك وحدها في مجابهة هذه الأزمة الاستثنائية الضاغطة التي لا تهدّد الاقتصاد المصري فحسب، بل تهدّد صلة الاستقرار السياسي في البلاد على أساس أنّ رضاء المواطنين، أيّ مواطنين، مرتبط بقدر عظيم بمدى توافر ضرورات المعيشة بيسر وسهولة.
فاتورة الزيادة البالغة 25 مليار دولار، أي ربع أكثر من تريليون جنيه مصري، هي تحدٍّ قاسٍ وجدّيّ لا يتحمّل التأجيل أو المزاح في تلبيته الفوريّة.
الصمود حتّى 2023
في المقام الثاني يستطيع الاقتصاد المصري أن يدبّر أموره حتى الربع الأخير من عام 2022 بفضل تحرّكات ذكية وراعية تمّت أخيراً، لكن تبدأ الضغوط والتحدّيات القاسية بترك آثارها على البلاد والعباد في الربع الأول من 2023.
يحدث هذا والضغط شديد لتلبية هذه الأكلاف الإضافية في حين تلتزم الدولة أمام المواطنين منذ سنوات بعاصمة إدارية جديدة و12 محافظة مصرية ومشروعات زراعية وصناعية في كلّ المجالات لفتح أبواب الرزق.
ويحدث ذلك فيما يكبر حلم المصريين بعلاج أفضل وتعليم أكثر جودة.
ويحدث ذلك وشعب مصر بحاجة إلى 60 ألف فصل دراسي كلّ عام، وبحاجة إلى مليون و700 ألف سرير في المستشفيات وجسور تحتية لا تقلّ كلفتها عن 12 مليار دولار سنوياً.
فاتورة الإصلاح في البنية التحتية، إضافة إلى فاتورة دعم السلع والخدمات العلمية والصحية لـ104 ملايين مصري، هي عبء ومسؤولية أكبر من قدرة أيّ اقتصاد في المنطقة على تحمّلهما.
يبقى احتمالان في هذا الشأن:
– الأوّل أن يتمّ تدبير موارد من الدولارات الطازجة لتنعش الاقتصاد المصري لمواجهة هذه الفاتورة المستجدّة عن طريق مشروع دعم عربي-دولي منظّم ومحسوب بدقّة، وبرعاية مؤسّسات ماليّة دولية. هذا هو الاحتمال الآمن.
– الاحتمال الثاني هو، لا قدَّر الله، السيناريو القائم على استفحال الأزمة والضغط الشديد على حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي في مصر. وهو احتمال كارثيّ يفتح أبواب جهنّم ليس على الأوضاع في مصر وحدها، لكن على أربعة محاور:
1- سوف يصبّ لمصلحة الدول غير العربية الشرق أوسطية، أي لمصلحة إيران وتركيا وإسرائيل.
2- سوف يؤدّي إلى حالة من عدم الاستقرار في مصر تعيد حالة الفوضى التي صاحبت سابقاً أحداث كانون الثاني 2011، وساعتئذٍ لا أحد سيتمكّن من توقّع ردود فعل القوى الشعبية الداخلية.
إقرأ أيضاً: نهاية علاقة “الشوغر دادي” بين الرياض وواشنطن
3- سيبدأ كابوس النزوح البرّي الكبير عبر الحدود مع ليبيا وفلسطين والسودان.
4- سيبدأ سيناريو كابوس الهجرة بالملايين عبر البحر المتوسط إلى أوروبا، وعبر البحر الأحمر إلى دول الخليج.
ترك الحالة المصرية كما هي من دون تدخّل اقتصادي وماليّ عاجل لمواجهة فاتورة الحرب الروسية-الأوكرانية هي كارثة بكلّ المقاييس.
ولك الله يا مصر.