لكي لا يظهر تابعاً ويعمل في ملف الكهرباء لصالح مرجعيّته السياسية (التيار الوطني الحر)، اختار وزير الطاقة وليد فياض، خلال إطلالته الأخيرة في برنامج “صار الوقت” مع الزميل مارسيل غانم على قناة mtv، أن يعترف بأنّه متسرّع ومندفع، وأنّه ببساطة يمكنه أن يوقّع ويتراجع عن توقيعه. أي أنّه اختار تصوير نفسه على أنّه “أحمق”، ليبرّر سحبه البندين المتعلّقين بملف الكهرباء عن جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة. أو قل إنّه اختار أن يكون وفيّاً لمن سمّاه لتولّي حقيبة الطاقة، بدل أن يعمل للصالح العام. وارتضى أن يكون رابع “الثلاثي المرح”، من أسلافه ونهجهم، الذي أوصلنا إلى العتمة التي نعيشها.
قبل الدخول في مضمون الحلقة، وفي حقيقة ما حصل، فإنّ فياض قد وافق من حيث الشكل على مضض وبعد إحراج أمام عدسات الكاميرات على أن يشارك في الحلقة بحضور مستشار رئيس الحكومة نقولا نحاس، بعدما كان شرطه أن يكون بمفرده من دون مشاركة أحد. وخرج رئيس إدارة المناقصات جان العلّيّة ومعه مدير الاستثمار والصيانة السابق غسان بيضون من الحلقة، فيما أصرّ نحاس على البقاء على طاولة الحوار لكي يواجه فياض. هذا الذي أراد أن يخرج على اللبنانيين ليبرّر عرقلة ساهم فيها لعدم وضع لبنان على سكّة الحلّ في قطاع الكهرباء.
وفق مصادر وزارية لـ”أساس”، فإنّ طلب الرئيس عون تأجيل البندين يعود إلى ما لهما من تبعات انتخابية على تياره السياسي، الذي يرأسه صهره جبران باسيل
الإيجابيّة الوحيدة في المقابلة هي نفسها الإيجابية في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء قبل تحوّله إلى حكومة تصريف أعمال، وهي ظهور وزير الطاقة وليد فياض على حقيقته، وتبيان كيفيّة معالجة رؤسائه لملفّ الطاقة. وهو الذي وصل معه اللبنانيون إلى صفر تغذية بالتيار الكهربائي بسبب عدم توافر مادة الفيول.
حاول فياض في الحلقة التلفزيونية أن يطلّ بدور الحريص على المال العامّ، مبرّراً سحب البنود بارتفاع أسعار الغاز، إلا أنّ الحقيقة في مكان آخر، وقد برزت معالمها بعدما فجّر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قنبلة بإعلانه أنّ وزير الطاقة وليد فياض سحب بندين سبق أن طلب إدراجهما في جدول أعمال الجلسة، ويتعلّقان بملف الكهرباء:
– الأول: دفتر شروط لإطلاق مناقصة لاستقدام محطة غاز سائل لمعمل الزهراني.
– الثاني: مشروع عقد بالتراضي مع مؤسسة كهرباء فرنسا EDF)) لإعداد دفاتر الشروط وملفّات التلزيم لإنشاء معملين جديدين لإنتاج الطاقة الكهربائية في الزهراني ودير عمار.
ما هو أصل الحكاية؟
هذان البندان تقدّم بهما فياض في 4 و5 أيّار ليكونا على جدول أعمال الجلسة الأخيرة قبل الانتخابات النيابية، التي كانت محدّدة في 12 أيّار. إلا أنّ اتصالاً ورد من رئيس الجمهورية ميشال عون إلى رئيس الحكومة في 10 أيّار، طلب خلاله إلى ميقاتي عدم وضع البندين على جدول أعمال جلسة ما قبل الانتخابات. ولأنّ جدول الأعمال يُتّفق عليه بالتنسيق بين الرئيسين، ولكي لا ينشب خلاف على الجلسة، لبّى ميقاتي الطلب على أن يُدرج البندان في جلسة الحكومة الأخيرة بعد الانتخابات النيابية، وقبل أن تصبح في حكم تصريف الأعمال.
وفق مصادر وزارية لـ”أساس”، فإنّ طلب الرئيس عون تأجيل البندين يعود إلى ما لهما من تبعات انتخابية على تياره السياسي، الذي يرأسه صهره جبران باسيل، لأنّ البند الأول يتعلّق بمحطة غاز لمعمل الزهراني، والثاني يتعلّق بتوقيع عقد مع كهرباء فرنسا بخصوص وضع دفتر شروط لمعملين في الزهراني ودير عمار، وبالتالي لا وجود لمعمل في سلعاتا، وهو ما كان فياض قد وافق مكرهاً على سحبه من الخطة التي أقرّتها الحكومة.
هذا قبل الانتخابات. إلا أنّه قبل الجلسة الأخيرة أرسل فياض إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء كتابين يطلب فيهما سحب البندين، اللذين كانا محلّ اهتمام وأرجأ إدراجهما رئيس البلاد، وهنا وقع فياض في فخّ توقيعه، وهو ما يظهر عند التدقيق في تفاصيل الكتب المرسلة التي تراجع فيها وزير الطاقة عن توقيعه. (الكتب مرفقة بالنصّ).
حجّة أوكرانيا… الكاذبة
في ما خصّ البند الأول الموقّع في 4 أيار، والمتعلّق بدفتر شروط لإطلاق مناقصة استيراد الغاز إلى معمل الزهراني، أشار فياض إلى أنّه بناء على موافقة مجلس الوزراء على توفير الغاز، وبعد إعداد الوزارة مسوّدة دفتر شروط، ولمّا كان البنك الدولي يتابع بصورة حثيثة ملف توريد الغاز من جمهورية مصر العربية، ويعمل لتأمين قرض بقيمة 300 مليون دولار لتمويل العملية، وحرصاً على عدم تأخير توافر الغاز لِما يشكّله من وفر كبير في تكلفة الإنتاج، طلب فياض إلى مجلس الوزراء الموافقة على إطلاق دفتر الشروط.
لم يجد فياض ذريعة أكثر إقناعاً من ارتفاع الأسعار في العالم، علماً أنّ كتابه الأول يعود إلى 5 أيار، وهو قد تراجع بعد أسبوع لم يُسجَّل خلاله أيّ تطوّر في أسعار الغاز العالمية
تبدّد هذا الحرص الكبير على الاستعجال بعد الانتخابات، إذ طلب فياض في كتاب وقّعه في السابع عشر من أيار تأجيل إطلاق المناقصة، متذرِّعاً بارتفاع أسعار الغاز عالمياً بعد الأحداث الجيوسياسية التي ضربت أوروبا.
لم يجد فياض ذريعة أكثر إقناعاً من ارتفاع الأسعار في العالم، علماً أنّ كتابه الأول يعود إلى 5 أيار، وهو قد تراجع بعد أسبوع لم يُسجَّل خلاله أيّ تطوّر في أسعار الغاز العالمية، وأزمة أوكرانيا عمرها أكثر من شهرين.
تكمن الطامة الكبرى في البند الثاني المتعلّق بتوقيع العقد مع كهرباء فرنسا لإطلاق مناقصة إنشاء معملين في دير عمار والزهراني، إذ إنّ طلب فياض إدراجه في جدول أعمال الحكومة موقّع في 5 أيار، ويشير إلى أنّ كهرباء فرنسا قد أعدّت المخطّط التوجيهي للنقل عام 2017، وأعدّت أيضاً خطة إنتاج للكهرباء هي الأقلّ تكلفة في أيلول من عام 2021، ونظراً إلى علاقة الشركة التاريخية بكهرباء لبنان، وإلمامها بتفاصيل نظام الإنتاج والنقل والتوزيع في لبنان، أعطاها ذلك أفضليّة لإعداد دفتر الشروط بحرّيّة عالية.
بحسب الكتاب فإنّه بناء على طلب وزارة الطاقة طلبت الشركة مليونين و104 آلاف يورو، وبعد مباحثات قدّمت الشركة عرضاً معدّلاً بقيمة تصل إلى نحو مليون و600 ألف يورو شرط دفع مستحقّاتها المترتّبة على الدولة اللبنانية قبل توقيع عروض جديدة.
يقول فياض إنّه نظراً إلى الصفة العاجلة والضرورية لإعداد دفاتر الشروط وملفّات التلزيم، يطلب الموافقة على توقيع العقد مع شركة EDF .
تبدّدت الصفة العاجلة أيضاً بعد أسبوع، وتحديداً في كتاب الوزير الموقّع في 17 أيار، الذي طلب فيه سحب البند عن جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء، وهو بذلك ناقض ما وقّعه، وادّعى أنّ العرض غير مكتمل ولم يجرِ الاتفاق مع كهرباء فرنسا طالباً استرداد الملف.
ماذا حصل بين 4 و17 أيّار؟
كلّ ما وقّعه فياض في 4 و5 أيار، تراجع عنه في 17 منه. ذلك أنّه في هذا الأسبوع الفاصل بين التوقيع والتراجع حصل تدخّل من رئيس الجمهورية لسحب الملف قبل الانتخابات، وهو أمر لم يُثِره فياض في حلقته التلفزيونية، ولم ينفِه القصر الجمهوري بعد إعلان الأمر.
كان من شأن هذين البندين أن يضعا لبنان على سكّة الحلول في قطاع الكهرباء، التي لم تعد موجودة في عهد ميشال عون، خصوصاً أنّ لدى البنك الدولي توجّهاً للمساعدة في تشغيل المعامل على الغاز، وأنّ شركات قدّمت عروضاً لضمان تشغيل المعملين خلال 18 شهراً وبتكلفة لكلّ كيلواط تقلّ عن عشرة سنتات، وفق المصادر الوزارية.
إقرأ أيضاً: ميقاتي و”فضيحة” الكهرباء: باب العودة إلى السراي؟
وعلى عكس ما حاول إظهاره في إطلالته، تقول هذه المصادر لـ”أساس” إنّ فياض أذعن لطلب مرجعيّته في التيار الوطني الحرّ، أو للوزير الفعليّ للطاقة، جبران باسيل، الذي وضع لبنان أمام احتمالين:
– ما دام هذان الحلّان لمشكلة الكهرباء لا يتضمّنان أيّ دور لمعمل في سلعاتا، وبالتالي القرار عرقلة حلّ أزمة الكهرباء.
– وإمّا أنّ جبران لا يريد حلّاً على يد حكومة الرئيس ميقاتي، فأرجأ التوقيع طمعاً في وصوله مرّةً أخرى إلى حقيبة الطاقة، ليكون الحلّ عبره في المرحلة المقبلة، بعدما عرقل الحلول أكثر من اثني عشر عاماً بذريعة “ما خلّونا”.