هرم “ماسلو”: عن التحرير والجوع…

مدة القراءة 7 د

هل يكون الجائعُ حُرّاً؟

نهتف في التظاهرات: “خبز وعلم وحريّة”.الخبز، ثم التعليم، ثم الحريّة.

فهل ينتخب الجائع بحريّة؟ أو ينتخب من يحمل الرغيف؟ أو من يحمل مشروعاً لإدارة البلد؟ أو من يحمل السلاح؟

1- بحسب “هرم ماسلو”، فإنّ الإنسان يتدرّج في أولوياته، من تأمين حاجاته الجسدية، بالتنفّس والأكل والشرب والنوم والجنس، ثم ينتقل إلى حاجات السلامة الجسدية والأمن الصحّي والأسري والوظيفي، وبعدها تأتي الحاجات الاجتماعية والعلاقات والصداقات والعواطف، وصولاً إلى “قلق السعي إلى المكانة” في المجتمع، بحسب كتاب آلان دوبوتون، ونختم بـ”تحقيق الإنجازات” والإبداع.

2- يقول الرئيس نبيه برّي مُمازِحاً: “سألوا جائعاً: 1 + 1 يساوي كم؟ فأجاب: رغيفين”. وهذه ليست نكتة. هذه حقيقة. فكيف نرسل الجائعين إلى صناديق الاقتراع؟

3- في اللغة العربية، واحدة من معاني “التحرير”، هي “المراجعة النقدية”. كأن نقول “تحرير المقال”. و”تحرير المسألة”، أي إزالة الالتباس عنها. وحرّر الإنسان، أي عتقه، فحرّر رقبته. وتحرير السجين، أي إطلاقه من “الأسر”. والفعل الأساسي هو “حرّر”، أي أعطى الحريّة. وطبعا هناك تحرير الشعب والأرض من الاحتلال الأجنبي.

“معجزة” جنوب لبنان

إذا انطلقنا من “اللغة”، بما هي الحامل الأساسي للثقافة، والكيس المشترك الذي فيه نضع مشتركاتنا، فإنّ التحرير لا يكون دون “نقد”. والنقد هو “إزالة الإلتباس”. والالتباس هنا هو السؤال الصريح: هل تحرير الأرض من الآليات العسكرية المعادية، هو “الهدف النهائي”؟ أم أنّ مشروع التحرير كان يجب أن يرافقه مشروع للنهوض بالناس، وتطوير البلاد، وتحويل الانتصار المعنوي في 25 أيّار إلى نهضة اقتصادية واجتماعية تقدّم لبنان على خريطة المنطقة؟

حين ننظر، نحن أهل الجنوب، إلى المستوطنين في فلسطين المحتلّة، على مرمى أبصارنا، فنرى الكهرباء 24 على 24، والمياه الوفيرة للزراعة المحترفة، ونتابع الأخبار عن الصناعات والتطوّر التقني الهائل في الجهة الأخرى، ثم ننظر إلى شوارعنا المعتمة وبيوتنا التي عادت إلى ضوء الشموع، وإلى خزّاناتنا الفارغة من المياه، وإلى الأفران التي تبيع الخبز بالقطّارة وفي “السوق السوداء”، وإلى المستشفيات تقفل أبوابها بوجوهنا… هل نشعر فعلاً أنّنا “أحرار” وأنّنا “تحرّرنا”؟

خارج السياسة والتراشق: أهل الجنوب لا مياه في خزّاناتهم، فيما يمرّ أضخم الأنهار من تحت أرجلهم، نهر الليطاني، ملوّثاً بسبب سوء الإدارة السياسية. وأهل الجنوب بلا كهرباء، فيما الحلف الذي يديره حزب الله وحركة أمل كانت وزارة الطاقة وشركة الكهرباء تحت إدارته منذ بداية التسعينات وصولاً إلى اليوم. وأهل الجنوب بلا خبز، لأنّ الأزمة الاقتصادية المندلعة منذ 2019، بدأت تصير شديدة العدوانية، مع فقدان الطحين، فيما “الحكم” في يد الحلف الذي يديره حزب الله، منذ 2011.

خارج السياسة، وفي قلبها: أهل القرى المحرّرة في العام 2000، باتوا جائعين.  مثلهم مثل بقية اللبنانيين. والشيعة منهم تحديداً رفضوا التصويت لقوى التغيير، فيما صوّت المسيحيون والسنّة والدروز من أهل الجنوب ضدّ الثنائي الشيعي.

الحكم بالسلاح هو مأزق حزب الله. السلاح الذي “حرّر” أراضي القرى الحدودية، بعدما حرّرت جبهة المقاومة الوطنية – جمّول 75% من الأراضي المحتلّة

منع “المشاركة في الحكم”

منع حزب الله فتح اللعبة الديمقراطية أمام القوى المعارضة في المناطقة الشيعية، كما فتحت الأحزاب الأخرى المجال في الجبل وبيروت والشمال والبقاع. فهل هناك “تحرير” خارج “الحريّة”، السياسية تحديداً؟

هل شارك حزب الله في تحرير أرض الجنوب، ليحكم أهلها بالحديد والنار ويمنع العمل السياسي فيها؟ وهل “امتلك” هذا الحزب تلك الأرض، بقوّة السلاح؟ فبات أهلها “من بقية ممتلكاته”؟

فشل هذا الحزب في تجربة الحكم. منذ دخول مندوبيه إلى الحكومات المتعاقبة بعد العام 2005، وصولاً إلى حكومات “اللون الواحد”، من حكومة نجيب ميقاتي في 2011 إلى حكومة حسان دياب في 2020. وإحكام قبضته على الرئاسات الثلاثة أطلق الانهيار الكبير بعد انتخابات 2018، وضرب اقتصاد لبنان، واستطراداً جوّع الجميع، بمن فيهم أهل الجنوب.

السلاح كأداة حكم

الحكم بالسلاح هو مأزق حزب الله. السلاح الذي “حرّر” أراضي القرى الحدودية، بعدما حرّرت جبهة المقاومة الوطنية – جمّول 75% من الأراضي المحتلّة. هذا السلاح بات شديد الشراهة على “الحكم السياسي”. ما عاد يكتفي بحماية الأراضي من إسرائيل. وسّع صلاحياته إلى دول مجاورة، وقبلها إلى “السراي الحكومي” ثم مجلس النواب، ورئاسة الجمهورية. شراهة بلا حدود للسلطة والحكم.

في الوقت نفسه يخشى أن يفتح اللعبة الديمقراطية أمام خصومه السياسيين داخل الطائفة الشيعية. يعرف أنّ منطقه ضعيف، فيحمل السلاح دفاعاً عن فكرته. ومشروعه عسكريّ مرتبط بالخارج، ويعرف أنّ أهل الجنوب يعرفون هذه الحقيقة.

سريعاً نستعرض “سقطات” استعمال السلاح في صناعة السياسة:

– في العام 2005 اغتيل رفيق الحريري وأثبتت المحكمة الدولية أنّ عناصر من حزب الله نفّذت عملية الاغتيال.

– طوّر الحزب ترسانته العسكرية وأثبت قدرة عالية على الردع خلال حرب تموز 2006. لكنّه بعد الحرب “احتلّ” وسط بيروت في الاعتصام الأطول عمراً في تاريخ لبنان لمنع “الأكثرية النيابية” من الحكم.

– بين 2006 و2008 خاض حروب شوارع متفرّقة توّجها باجتياح بيروت والجبل في أيّار (يا للمصادفة) 2008.

– في 2011 شارك في الحرب الأهلية السورية.

– في 2011 أيضاً نفّذ مناورة “القمصان السود” لتعيين حكومة نجيب ميقاتي.

– بين 2014 و2016 عطّل انتخاب رئيس الجمهورية ليضمن انتخاب مرشّحه ميشال عون.

– اتُّهِمَ بتنفيذ اغتيالات متفرّقة لقادة رأي وسياسيين لبنانيين بين 2005 و2021.

في الخلاصة، بعد “تحرير” الجنوب، تفرّغ حزب الله لتطويع مؤسسات الحكم في لبنان، ولتدعيم حاكم سوريا بشّار الأسد (لن نتحدث في هذه العجالة عن العراق واليمن والأرجنتين وقبرص والكويت…) ومنذ 2006 لم يعد يلتفت ليخوض حرباً مع الاحتلال الإسرائيلي.

بعد 22 عاماً من التحرير، لا يملك الأمين العام مشروعاً للحكم. لا يملك غير بعض الإعاشات لأنصاره، والخوف، الكثير من الخوف

سؤال أخير

إذا سألنا مواطناً جنوبياً، من القرى الحدودية التي اندحر عنها الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيّار من العام 2000، أسئلةً تقليدية عن المياه والكهرباء والخدمات العامة، وعن شعوره إذا كان “حرّاً”، خارج الإنشاء والعواطف، هل سيكون جوابه: “كل شي تمام”.

الأكيد أنّه منذ 2000، لم تشهد المنطقة “المحرّرة” بناء جامعة، أو مصنع، أو مشروع سياحي. كان المطلوب أن يكون شبّان هذه المنطقة “عسكراً” في جيش توسّع من بضعة آلاف، إلى أكثر من 100 ألف مقاتل. فإذا كان معدّل العائلة الواحدة 5 أشخاص في لبنان، وهناك مليون شيعي تقريباً يتوزعون على 200 ألف عائلة، فإنّ نصف عائلات الشيعة على الأقلّ قدّمت “مقاتلاً” لحزب الله.

100 ألف مقاتل هو رقم يزيد عن عديد الجيش اللبناني وأجهزة الأمن اللبنانية، مجتمعةً. وهو رقم وضعه نصر الله في مواجهة القوات اللبنانية بعد “معركة” الطيونة.

في خطابه الأخير، لمناسبة “عيد التحرير”، حدّثنا الأمين العام لحزب الله عن أنّ المقاومة هي “الأقوى” منذ 40 عاماً. فهل تلك القوّة تتيح لأهل الجنوب أن يستعيدوا كرامتهم في الخدمات الأوّلية بحسب هرم “ماسلو”؟

ثم، بعد نظرية “زراعة البلاكين”، أخبرنا أنّ مشكلة لبنان تحلّ باستخراج النفط والغاز. وهو الملفّ الذي يمتنع عن “فكّ أسره” لأسبابه العابرة للبلاد. وأعلن أنّه مستعدّ لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية، بعدما خوّن كلّ من تحدّث عنها. ثم أبلغنا أنّ هناك احتمالاً لتفجير المنطقة، أي لتحويل لبنان إلى ساحة معركة مجدّداً كما في 2006.

بعد 22 عاماً من التحرير، لا يملك الأمين العام مشروعاً للحكم. لا يملك غير بعض الإعاشات لأنصاره، والخوف، الكثير من الخوف. يخيفهم من الشطر الثاني في هرم “ماسلو”: الأمان، كي ينسوا الشطر الأساسي: الأكل والشرب والراحة.

إقرأ أيضاً: الحزب يخسر الجنوب: 92% من غير الشيعة.. ضدّه

المشرورع هو “الخوف” من العدوّ. الخوف من الحرب. الخوف من عين الرمانة والتهديد بـ100 ألف مقاتل. الخوف من “العملاء”. الخوف من “تفجير المنطقة”. لا يوجد مشروع للمياه أو الكهرباء أو استخراج النفط أو استعادة ودائع الناس.

التحرير يحتاج إلى “تحرير”، بالمعنى السياسي، والشعبي. والسلاح لا يمكن أن يبني الدولة. ولنًعُد إلى هرم “ماسلو” ونكتة الرئيس برّي ومعجم اللغة العربية.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…