أن يلتقي مجدّداً كبار العلماء الشيعة في لبنان، الذين امتدّ نفوذهم العلمائي على امتداد مساحات واسعة في لبنان والعالم، وأن يجدّدوا موقفهم من نظرية “ولاية الفقيه” التي تحكم إيران منذ العام 1979، لها الأمر أهميّة استثنائية في المرحلة الراهنة على المستوى الشيعي في لبنان وخارجه.
يأتي هذا اللقاء في أحرج الظروف التي تمرّ بها هذه الطائفة بسبب الأزمة المزدوجة التي تعانيها:
– فهي من ناحية مأزومة بسبب هذه الأحاديّة المفرطة التي فرضت لرئاسة المجلس النيابي منذ 30 عاماً شخصية واحدة تتأهّب لولاية جديدة لأربع سنوات، وهو ما يجعل الرئيس برّي صاحب الرقم القياسي في منصب عامّ.
– الطائفة الشيعية مأزومة أيضاً بسبب “حزب الله” الذي يتربّع على رأسه السيد حسن نصرالله منذ أعوام مماثلة لتلك التي قضاها برّي في رئاسة المجلس. ما زال هذا الحزب يقود الاتجاه المعاكس للإجماع اللبناني الذي يتمسّك بالدولة مرجعية واحدة، فيفرض سلاحه المرتبط بإيران سلطة فوق سلطة الدولة. وهكذا صار لبنان عمليّاً بين فكّي كمّاشة هما “وليّ فقيه” سياسي هو برّي، و”وليّ فقيه” عسكري هو “حزب الله”.
الطائفة الشيعية مأزومة أيضاً بسبب “حزب الله” الذي يتربّع على رأسه السيد حسن نصرالله منذ أعوام مماثلة لتلك التي قضاها برّي في رئاسة المجلس
من هم هؤلاء العلماء الشيعة الكبار الذين التقوا في الزمن الشيعي المأزوم اليوم؟
إنّهم الإمام موسى الصدر، السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين. هذه القامات الروحية الشيعية التي غابت عنّا، التقت مجدّداً في كتاب كريم مروّة “أضواء على روّاد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث”، الصادر في أيّار الجاري عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، وقدّم له نقيب المحامين السابق رشيد درباس.
بالطبع، لم يكن الكتاب مقتصراً على هؤلاء المرجعيّات الثلاث، بل كان شاملاً لـ38 رائداً في الإصلاح الديني، مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وطه حسين وغيرهم في العالم الإسلامي. وشمل أيضاً حسن الأمين ومصطفى الغلاييني وصبحي الصالح وآخرين في الفضاء اللبناني. لكنّ ما يسترعي الانتباه أنّ مروّة أضاء في سيرة الصدر وفضل الله وشمس الدين على ما يهمّ لبنان جدّاً في مرحلة ما زال يكابد فيها عناء فقدان الدولة لقدراتها بسبب نفوذ إيران المتمثّل بـ”حزب الله”.
ماذا كتب مروّة عن موسى الصدر؟
جاء في الكتاب: “كانت الأزمة السياسية والاجتماعية في النصف الأول من سبعينيّات القرن الماضي في لبنان تتفاقم في صورة مطّردة إلى أن بلغت في عام 1974 ذروتها… وكان الصدر في تلك الفترة قد أسّس إلى جانب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حركة المحرومين”. ولفت الكاتب إلى أنّ من بين المستشارين للصدر في ذلك الوقت، كان الرئيس تقي الدين الصلح وغسان تويني والوزيران ميشال إده وبيار حلو. وأبلغ تويني مؤلّف الكتاب أنّ مستشاري الصدر كانوا يلتقون في جريدة “النهار”. وتابع: “اتّخذ الصدر قرارَيْن كانا في شكلهما نقيضيْن لبعضهما، تمثّل الأوّل في إصراره على اللاعنف كوسيلة عمل ونضال لتحقيق المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتمثّل الثاني في تشكيل حركة أمل ليس للقتال الداخلي، بل لمشاركة الشعب الفلسطيني في الكفاح ضدّ إسرائيل… وما إن اندلعت الحرب الأهليّة (1975) حتى باشر اعتصاماً مفتوحاً في أحد مساجد العاصمة قريباً من مواقع القتال احتجاجاً على بدء المعارك المسلّحة ورفضاً لجعلها وسيلة في الصراع”.
وخلص مروّة في كلامه عن الصدر إلى أنّ الأخير كان في مواقفه وفي حركاته يؤسّس لدور المرجعيّات والأحزاب الدينية في لبنان، وقد خلفه في ذلك فضل الله وشمس الدين “اللذان أعلنا بوضوح اختلافهما مع الجمهورية الإسلامية في ولاية الفقيه التي اعتبراها بحقّ بدعة إيرانية لا صلة لها بالشيعة الإمامية”. ولفت الكاتب إلى أنّ “حزب الله” الذي احتلّ “الموقع الأساس في الطائفة الشيعية بفضل دوره في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي”، قد تراجع “بعد استخدام السلاح داخل لبنان وفي دعم النظام السوري”.
هذه القامات الروحية الشيعية التي غابت عنّا، التقت مجدّداً في كتاب كريم مروّة “أضواء على روّاد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث”
فضل الله المستقلّ عن إيران
قال مروّة عن فضل الله: “كان للقاءاتي بالراحل، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أثر كبير عندي. وهو كان بادرني في أوّل لقاء بيننا بالقول: “نحن مفكّران مختلفان… أنت مفكّر ماركسي مستقلّ عن مرجعية الاتحاد السوفياتي، وأنا مفكّر إسلامي مستقلّ عن مرجعية الثورة الإسلامية في إيران”…. لقد أذهلني موقفه هذا”. وأضاف أنّ “أهميّة فضل الله لا تنحصر بالدعوة إلى الإصلاح في الدين، بل هو لم يترك قضية وطنية في لبنان والعالم والعربي، ولا سيّما في فلسطين والعراق ومصر، إلا وقدّم فيها رأياً صريحاً وجريئاً”.
عاد مروّة إلى حديث صحافي أدلى به فضل الله ردّاً على سؤال عن التعصّب والتطرّف، قال فيه: “نحن نعيش واقع هذا الأفق الذي شمل العالم الإسلامي، وتحوّل إلى حالة تكفيرية تؤدّي إلى أن يستبيح المسلم دم المسلم الآخر، وحتى إلى أن يستبيح المسلم دم غير المسلم… حتى في داخل المذهب الشيعي، هناك بعض الشيعة يكفّرون بعضهم بعضاً، والأمر ذاته في داخل المذهب السنّيّ”. وخلص الكاتب إلى القول: “ما ورد عن السيّد فضل الله لا يعطيه حقّه… ولن أدخل هنا في المؤسسات التي بناها وتركها بقيادة نجله السيد علي فضل الله”.
شمس الدين خارج “ولاية الفقيه”
أمّا الإمام شمس الدين فكتب عنه مروّة أنّه واحد من “أكثر رجال الدين المسلمين في تاريخ لبنان الحديث انفتاحاً على الأديان الأخرى”. وأشار إلى أنّ معرفة شمس الدين بالصدر تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي عندما التقيا في النجف و”أصبحا صديقيْن، وساهم معه في تأسيس مجلّة “أضواء”. وعندما عاد شمس الدين إلى لبنان، تابع تعاونه مع الإمام الصدر، وأسّسا معاً عام 1969 “الجمعية الخيرية الثقافية”. وانضمّ إلى الصدر في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى…”.
وقال: “من أبرز وأهمّ مواقف الإمام شمس الدين في تحوّلاته الجذرية، أنّه تمايز عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ وقت مبكر… وكان من معالم تمايزه، أنّه لم يؤمن بولاية الفقيه التي هي في الأساس من صنع إيراني قديم مستحدث”. أضاف: “وكان في بعض مظاهر تمايزه في أواسط الثمانينيات عن القرار السوري رفضه الانجرار في الحرب التي أعلنتها القيادة السورية ضدّ منظمة التحرير الفلسطينية”. وانتهى إلى القول: “أمّا في ما يتعلّق باتفاق الطائف، فقد عاد عن مشروعه الخاص بالديمقراطية العددية، معتبراً أنّ ذلك كان سيخلق خللاً في وحدة المجتمع اللبناني التعدّدي الذي يشكّل فيه المسيحيون قوّة أساسية لا يجوز المسّ بدورها التأسيسي للكيان الوطني اللبناني”.
إقرأ أيضاً: الإمام محمد مهدي شمس الدين: “ولاية الأمّة” في مواجهة “ولاية الفقيه”
هذا غيض من فيض كتاب مروّة، ومن صفحاته اللبنانية التي تعيد إلى الواجهة زمن الكبار من القادة الروحيّين في الطائفة الشيعية التي تمرّ حالياً بمنعطف مصيري.