في مشهديّة بدت وكأنّها خارج الزمان والمكان، نجح جبران باسيل في تحقيق نصر انتخابي كبير في دائرة الشمال الأولى (عكّار)، غداة حصول اللائحة المدعومة من قِبله على 3 مقاعد من أصل 7. وهو العدد الأكبر الذي غَنِمه باسيل في دائرة انتخابية واحدة، في حين أنّه كان يعاني في باقي الدوائر، ولا سيّما في عرينه البترونيّ الذي احتفظ فيه بمقعد نيابي بشقّ الأنفس. ولولا اتّكاؤه على حزب الله لكانت كتلته النيابية تقلّصت بنسبة النصف تقريباً. فكيف فعلها وحقّق هذا النصر المبين؟
صنابير المال الانتخابيّ
في عكّار التي يبلغ عدد ناخبيها 377,000 ناخب، كانت العملية الانتخابية باردة جدّاً. إذْ لم تتجاوز نسبة الاقتراع 26% حتى الرابعة عصراً. لكنْ، قبيل إقفال صناديق الاقتراع، شهدت هذه الدائرة زحفاً جماهيرياً كبيراً أدّى إلى اكتظاظ مراكز الاقتراع بالناخبين.
هذا التحوّل كان المال الانتخابي هو العامل الأبرز فيه. فقد فتحت صنابير المال وانطلقت عملية “ريّ” ماليّ لسهل عكّار وجرده، حيث بلغ سعر الصوت مليون ليرة، وكلّما اقتربنا من موعد إقفال صناديق الاقتراع كان يرتفع أكثر حتى وصل إلى عتبة 5 ملايين ليرة لكلّ صوت.
في عكّار التي يبلغ عدد ناخبيها 377,000 ناخب، كانت العملية الانتخابية باردة جدّاً. إذْ لم تتجاوز نسبة الاقتراع 26% حتى الرابعة عصراً. لكنْ، قبيل إقفال صناديق الاقتراع، شهدت هذه الدائرة زحفاً جماهيرياً كبيراً أدّى إلى اكتظاظ مراكز الاقتراع بالناخبين
نتيجة لذلك ارتفعت نسب الاقتراع في عكّار من 26% إلى 40%، وبسبب الضغط الهائل في مراكز الاقتراع، استمرّت العملية الانتخابية في عدد كبير منها إلى ما بعد العاشرة ليلاً، أي بعد إقفال صناديق الاقتراع بثلاث ساعات. لذلك تأخّرت عمليات الفرز، التي سارت ببطء شديد جدّاً، وانتهت في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء، وهو ما يدعو إلى الاستغراب والتساؤل عن سرّ هذا التأخير في ثلاث دوائر فقط: عكّار، الشمال الثانية، بيروت الثانية.
هناك من يعزو الأمر إلى النقص في القضاة ولجان القيد، لكنْ ثمّة الكثير من الشكوك التي تساور المواطنين في حصول تزوير، ولا سيّما مع انتشار أنباء تؤيّد هذا المنحى. ومنها الخبر الذي نشرته “العربية الحدث” نقلاً عن مصادر تفيد بحصول تغيير في بعض صناديق اقتراع المغتربين في الشمال الأولى والثانية ووصول بعض منها فارغة كلّيّاً، الأمر الذي أدّى إلى تأخُّر الفرز في تلك المناطق، وبأنّ التزوير هدفه هو إعطاء أصوات لباسيل لرفع عدد مقاعده بعد خسارته في دوائر أخرى.
نعيم قاسم وجولاته العكّاريّة
كان تفوُّق باسيل في عكّار صادماً جدّاً، إذ لا يُعقل أن يمنحه أحد معاقل السُنّة انتصاراً كان بأمسّ الحاجة إليه، وهو المعقل الذي أشبعه باسيل وتيّاره حرماناً وطغياناً وصولاً إلى اتّهام أبنائه بالإرهاب وبأنّهم قتلوا أنفسهم في انفجار “التليل”.
بيد أنّ هذا الانتصار ليس وليد اللحظة ولا ابن ساعته، إنّما هو نتاج عمل مكثّف لأشهر خلت. فحزب الله وضع السيطرة على محافظة عكّار على رأس أولويّاته نظراً لأهمّيتها الجغرافية بالنسبة إلى خطوط التهريب وشبكاته، وهو الذي خبِر أهميّتها إبّان موجة التهريب الهائلة إلى سوريا أيّام حكومة الرئيس حسان دياب. تسلّل حزب الله إلى الساحة العكّارية تارّة عبر المساعدات، وطوراً عبر المازوت الذي شمل حتى البلديات، مستغلّاً الفقر والحرمان، والأهمّ انكفاء تيّار المستقبل الذي جعل من عكار سهلاً مكشوفاً أمام الجميع.
لذلك كان نائب الأمين العامّ لحزب الله الشيخ نعيم قاسم يُكثر من زياراته السرّيّة لعكّار لحلّ الخلافات بين أبناء الخطّ الواحد، ولإعداد الأرضيّة لتحقيق مثل هذا الانتصار. قام الشيخ قاسم بالتنسيق مع النظام السوري بالضغط على العشائر عبر مصالحها في سوريا كي تصبّ أصواتها لمصلحة محمد يحيه، وهو ما ظهرت تجلّياته في الرقم الذي ناله، حيث حصد يحيه 15,142 صوتاً، أي ضعف الرصيد الذي ناله عام 2018، وكان القاطرة التي عبّدت طريق الانتصار العونيّ.
محمد بدرة يقارع وحيداً
حلّت لائحة الاعتدال الوطني (حلفاء المستقبل) في المركز الأوّل، ونالت 41,848 صوتاً، تليها لائحة “عكّار أوّلاً” (التيار العوني + حلفاء حزب الله) 41,761 صوتاً. وهما اللائحتان الوحيدتان اللتان نجحتا في تجاوز العتبة الانتخابية، التي لم تنجح لائحة القوات في تجاوزها، وكذلك اللوائح المدعومة من الرئيس ميقاتي وبهاء الحريري وقوى التغيير.
يُشار إلى أنّ المرشّح الدكتور محمد بدرة من لائحة “عكار التغيير” حصل على 9,302 صوت، وهو رقم مهمّ ويُبنى عليه في المستقبل. فالرجل غير المدعوم منْ أيّ جهة سياسيّة، ولا منْ أيّ منصّة، والذي اعتمد فقط على محبّة ناس عكّار وأهلها، هو الرابع في ترتيب الأصوات، سواء سنّيّاً أم على صعيد المحافظة كلّها، متقدّماً على مرشّح القوات، وعلى مرشّح الجامعة المرعبيّة، وعلى نائبين سابقين هما خالد الضاهر وطلال المرعبي، وعلى المرشّح المدعوم من ميقاتي، ويفصله عن النائبيْن المنتخبيْن وليد البعريني ومحمد سليمان ألفا صوت فقط. ربّما لو تحمّس أهل عكّار بعض الشيء وآمنو بقدرتهم على إحداث التغيير لانقلب المشهد برمّته رأساً على عقب.
مقاطعة المستقبل ولعبة سجيع
على الرغم من ذلك، لم يكنْ هذا الانتصار ليتحقّق لولا مقاطعة تيار المستقبل. صحيح أنّ المستقبل بدا محايداً على الساحة العكّاريّة، إلّا أنّ الأرقام التي نالها نوّاب كتلة المستقبل تكشف حجم التأثير الذي خلّفه انكفاؤه.
فقد تراجع رصيد وليد البعريني 9 آلاف صوت تقريباً، ومحمد سليمان ألفي صوت، وكِلا المرشّحَيْن من آل المرعبي طلال ووسيم انخفض مجموع أصواتهما 6 آلاف صوت عن 2018، وخسر النائب هادي حبيش 5 آلاف صوت جعلت جيمي جبّور يتفوّق عليه في الصوت التفضيلي.
إقرأ أيضاً: الشمال 1و2: “عروس الثورة”… لماذا اعتكفت؟
بيد أنّ خسارة حبيش ليست نتيجة عدم دعم تيار المستقبل فقط. فحسب المعلومات المتداولة قام زميله في اللائحة سجيع عطية، المرشّح عن المقعد الأرثوذكسي، بتجيير أصوات مارونية وغير مارونية لجيمي جبور، خصم حبيش على اللائحة المنافسة، بهدف رفع رصيد جبّور من الأصوات التفضيلية كي يسبق حبيش، وبالتالي يؤول الحاصل المفترَض أن يناله حبيش إلى عطية الذي نال بالمقابل أصواتاً أرثوذكسية جيّرها له جبّور.
عند المقارنة بين جبّور وزميله في التيار أسعد درغام، نجد أنّ الفارق بينهما يناهز 3 آلاف صوت، مع أنّ التركيز هذه المرّة كان على درغام أكثر منه على جبّور في توزيع أصوات التيار العوني، لأنّ فرصه في الفوز أعلى في ظلّ وجود مقعدَيْن أرثوذكسيَّيْن. وتكشف المقارنة مع 2018 أنّ جبّور زاد رصيد أصواته بنحو 300 صوت، في حين أنّ درغام تراجع بنحو 1,700 صوت.