بلغ شدّ العصب مداه على مسافة ساعات من فتح صناديق الاقتراع. لا تُشبِه هذه الانتخابات بشيء الاستحقاقات السابقة منذ العام 2005، لكنّ جامعها المشترك الأوحد تقريباً هو “فتّ” المال الانتخابي بكثافة، باعتراف رئيس الحكومة نفسه حين كَشَف أنّ “كميّات دولارات غير مسبوقة دخلت لبنان خلال الأيام الماضية”.
المال الانتخابي الذي يُستخدَم بوقاحة مُفرطة، ومنذ أشهر وليس أيّام فقط، يتداخل مع تحريض وتعبئة سياسية من جانب جميع رموز المنظومة والمرجعيّات الدينية في محاولة لإرساء السيطرة داخل مجلس النواب العتيد الذي ستكون أولى مهامّه انتخاب نبيه برّي رئيساً له، ثمّ انتخاب رئيس الجمهورية، وربّما الإشراف على آخر مراحل الانهيار التامّ.
بَلغ عدد اللوائح الانتخابية التي سُجّلت في وزارة الداخلية 103 لوائح و718 مرشحاً “هرّ” بعضهم على الطريق قبل فتح صناديق الاقتراع، إمّا تحت الضغط أو التهويل أو “قرفاً” أو إفساحاً في المجال لدعم لوائح أخرى، خصوصاً على مستوى لوائح المعارضة. بينما بلغ عدد اللوائح في الانتخابات الماضية 77 فقط.
في بيروت الثانية معركة حقيقية لها امتداداتها “الطبيعية” صوب الشمال والبقاع وصيدا في ضوء النداءات المتضاربة من جانب الحريري ودار الإفتاء والضغط الخليجي الواضح لمشاركة السُنّة
من بيروت إلى الشمال والجنوب مروراً بالبقاع سيُرسَم “بروفيل” مجلس نواب جديد يقدّر الخبراء الانتخابيون بأنّه سيُطعَّم بالعديد من الوجوه الجديدة التي لن يكون لها تأثير يُذكَر على قلب موازين القوى، مع شبه سيطرة “عدديّة” لفريق حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر وحلفائهم في “الخطّ”، على حساب “الخطوط” الأخرى المفكّكة.
يكفي أن يُعلِنها الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصرالله “حرب تمّوز سياسية” حتى يُستنفَر الشارع الشيعي. هذا الشارع الذي تقول “الأرقام” إنّ النسبة الكبرى فيه توالي حزب الله وليس حركة أمل.
قبالة هذا الفريق أخصام يسهّلون له الدور ومشروع السيطرة: تحالف مصطنع بين القوات والتقدمي الإشتراكي واستمراريّته غير موثوقة. تيّار المستقبل صار “من الماضي” ورئيسه يُدير ظهره لأهمّ معركة انتخابية منذ التسعينيّات. كباش سنّيّ-سنّيّ حول المشاركة في التصويت في بيروت فقط. خصومة علنيّة غير قابلة للترميم، أقلّه حتى الآن، بين القوات والكتائب. معارضة التهت بنشر غسيلها و”خوزقة” بعضها للبعض الآخر بدلاً من “كسر رأس” السلطة بلوائح موحّدة كان يمكن أن تشكّل الانعكاس الأقوى والأهمّ لثورة 17 تشرين.
المصير والصوت السنّي
هي الانتخابات التي ستحدّد مصير الصوت السنّيّ بـ”الأرقام” بعد تعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي، ومصير قوى التغيير والثورة المشتّتة في الدوائر الانتخابية الـ15، ومصير التحالف الانتخابي بين التيار والثنائي الشيعي في ضوء المعارك المقبلة في مجلس النواب.
المعركة الأمّ من دون منازع ستكون في بيروت الثانية. “جارتها” بيروت الأولى لا تخرج عن خطّ التنافس المسيحي-المسيحي كما في كسروان والشمال الثالثة والمتن وجزّين وبعبدا وزحلة، حيث يحاول التيار الوطني اقتناص مقاعد تُخرج جبران باسيل من المعركة بأقلّ الخسائر الممكنة. وتحاول القوات أن “تُدجّج” حصّتها بنوّاب “بلاس” وتجنّب نكسة خسارة مقاعد “استراتيجية”، كالمقعد الماروني في بعلبك-الهرمل. وقد تُدخل هذه الانتخابات إلى البرلمان وجوهاً جديدة تحت لافتة “التغييريّين”…
في بيروت الثانية معركة حقيقية لها امتداداتها “الطبيعية” صوب الشمال والبقاع وصيدا في ضوء النداءات المتضاربة من جانب الحريري ودار الإفتاء والضغط الخليجي الواضح لمشاركة السُنّة في الانتخابات.
هل تفوز “لائحة المقاطعة” التي شكّلها سعد الحريري من خلف مكتبه في الإمارات؟
نسبة تصويت المقترعين السُنّة ومدى تجاوبهم مع اللوائح المدعومة من الرئيس فؤاد السنيورة ومع “نداء” المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان سيشكّلان الإجابة المباشرة على اللغز الأكبر في انتخابات نهاية العهد.
المال الانتخابي الذي يُستخدَم بوقاحة مُفرطة، ومنذ أشهر وليس أيّام فقط، يتداخل مع تحريض وتعبئة سياسية من جانب جميع رموز المنظومة والمرجعيّات الدينية في محاولة لإرساء السيطرة
مع العلم، وفق خبير انتخابي، أنّ انخفاض نسب التصويت المتوقّعة في كلّ الدوائر الانتخابية لن يكون سببها الأوحد، تحديداً في المعاقل السنّيّة، اعتكاف الحريري، فهذا المعطى يتداخل بقوّة مع عوامل نفسية وماليّة واجتماعية قد تدفع جزءاً من اللبنانيين، على الرغم من غزارة المال الانتخابي، إلى المقاطعة من دون قدرة حتى على مواكبة مجريات الانتخاب من خلف الشاشة بسبب عدم توافر “كهرباء الدولة” ولا حتى الموتورات.
الحريري وبيروت الثانية
لا يمكن فعليّاً الحديث عن “وراثة” سعد و”مقعده” إلا في بيروت الثانية. 10 لوائح لـ 11 مقعداً و45 مرشّحاً سنّيّاً. أين ستذهب أصوات تيار المستقبل الذي نالت لائحته عام 2018 حوالي 63 ألف صوت من أصل 142 ألف مقترع في بيروت، بنسبة مشاركة لم تتعدَّ 28% وكانت الأقلّ مقارنة مع الدوائر الأخرى؟
خليط بيروتيّ من فلول تيار المستقبل ومؤيّدين له والعائلات البيروتية و”سُنّة 8 آذار” والمجموعات المعارضة ومستقلّين سيفرز رابحاً وخاسراً ومستفيداً ومتضرّراً.
حين يكون سعد الحريري أكبر الخاسرين في انتخابات 2018 بنيل تياره خمسة من أصل 11 مقعداً، و4 مقاعد لتحالف 8 آذار والتيار الوطني الحر، ومقعد للإشتراكي، وآخر لفؤاد مخزومي، يمكن فهم ما ينتظر سعد الحريري.
هل يَفعَل الغياب ما لم يفعله حضوره شخصيّاً على أرض المعركة منذ أربع سنوات في ذروة “استثماره” في التسوية الرئاسية؟
تنحصر المعركة على وراثة حصّة المستقبل في بيروت الثانية بلائحة حزب الله والتيار والقومي وطلال أرسلان، ولائحة الأحباش، واللائحة المدعومة من الرئيس فؤاد السنيورة، واللائحة المدعومة من الجماعة الإسلامية ونبيل بدر، ولائحة فؤاد مخزومي، ولائحة “بيروت التغيير”.
تتقاطع التقديرات الانتخابية عند تأكيد نيل حزب الله مع حلفائه، أي التيار الوطني الحر والقومي والأحباش، أربعة مقاعد (شيعيان، إنجيلي، وربّما أرثوذكسي). ويبقى احتمال نيل هذا الفريق مقعداً سنّيّاً إضافيّاً من حصة جمعية المشاريع، لكنّ ارتفاع نسبة التصويت السنّيّ يحدّ كثيراً من هذا الاحتمال.
إقرأ أيضاً: “أساس” ينشر نتائج الانتخابات النهائيّة.. توزيع المقاعد: 70 – 39
يُتوقّع أن تفوز لائحة الجماعة الإسلامية ونبيل بدر بمقعد في حال انخفاض الحاصل إلى ما دون تسعة آلاف، واللائحة المدعومة من فؤاد السنيورة بمقعد خالد قباني، ولائحة مخزومي بمقعدين، ويكون الثاني هو السنّيّ أو الأرثوذكسي، وفي هذه الحال يؤول المقعد إلى زينة المجدلاني في منافسة مع رمزي المعلوف على لائحة الثنائي، وخليل برمانا على لائحة نبيل بدر.