يخطبون ودّ السعوديّة “الضعيفة”؟

مدة القراءة 5 د

‏السعودية دولة ضعيفة. انتهى الدور السعودي الإقليمي. المملكة العربية السعودية محكومة بالقبول بالدور الريادي للّاعبين الآخرين غير العرب في الشرق الأوسط. السعودية مهدّدة من الداخل. انتهى عصر النفط وانتهى معه الدور السعودي والموقع السعودي في العلاقات الدولية.

‏لعقود خلت لم تتعب هذه الدعاية السياسية الموجّهة ضدّ المملكة وأسرتها الحاكمة. ‏ركب القوميون هذه الموجة، وركبها الإسلاميون، وركبها اليسار العربي وكلّ مَن لا يريد أن يعترف موضوعيّاً بموقع هذه الدولة الكبير، لا في العلاقات الشرق أوسطية وحسب، وإنّما في مجمل العلاقات الدولية والسياسات الدولية ومصالح الأمم المتشابكة والمتداخلة.

ثلاث عواصم “اشتباكيّة” مع الرياض تسعى الآن لخطب ودّها: طهران، أنقرة، وواشنطن.

لا يحتاج المرء إلّا إلى استعراض هذه التطوّرات في علاقات ثلاث عواصم كبيرة بالرياض ليدرك حجم البهتان في الدعاية المعادية للسعودية، ‏وليفهم أنّ مكامن القوة شيء والادّعاءات الشعبوية شيء آخر

أعلنت إيران عن جولة خامسة من المفاوضات مع المملكة العربية السعودية، في بغداد، بعد أن كان سبق ذلك تسريبات وتصريحات تفيد بأنّ إيران راغبة في إنهاء الحوار، من دون أن تصدر عن الرياض أيّ ردود فعل. التقارير في أعقاب الجولة الأخيرة ركّزت على إيجابية المباحثات التي تطرّقت إلى ملفّات عامّة وثنائية محورها الرئيسي أمن الخليج، وأنّها تمهّد لجولة سادسة قريبة. ما يمكن ملاحظته هنا أنّ السعودية، وعلى لسان أكثر من مسؤول فيها، ‏عبّرت مراراً عن أنّ نتائج المفاوضات لم تصل بعد إلى نقطة تفيد بأنّ متغيّرات حقيقية وجديّة في السياسة الإيرانية قريبة التحقّق، ما يعني أنّ أيّ اختراقات قد نشهدها في الأسابيع المقبلة، تفيد بتراجعات إيرانية رئيسية.

أمّا تركيا فأعلنت من جهتها وبحماسة لافتة عبر التصريحات السياسية والتغطية الإعلامية عن زيارة الرئيس رجب طيب إردوغان للسعودية في حين التزمت السعودية الصمت إلى حين حصولها. و‏كانت أنقرة أعلنت قبل ذلك عدّة مرّات، وبحماسة مماثلة، عن زيارات مرتقبة لإردوغان من دون أن تحصل في الواقع.

سبق الزيارة إعلان أنقرة عن نقل ملفّ التحقيق في جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي إلى السعودية، أي إسدال الستار على القضية في تركيا، وإنهاء المتاجرة السياسية والإعلامية بها. وأعقب الزيارة إعلان قناة “مكملين” الإخوانية الفضائية في بيان رسمي، قبل نحو أسبوعين، وقف بثّها نهائياً من تركيا وإغلاق استديوهاتها بعد ثمانية أعوام. وتمثّل هذه الخطوة استجابة لمطالب سعودية ومصرية وإماراتية، ‏وإقراراً بهزيمة أخرى لمشروع الإخوان المسلمين عبر تفكيك منصّة إضافية من بنية التنظيم التحتية الدعائية، وتراجعاً تركيّاً عن توظيف ملف الإخوان المسلمين في سياسات تركيا الخارجية.

أميركا وبايدن “العائد”

على ‏الضفّة الأخرى من العالم نرى واشنطن التي تعهّد رئيسها في جعل المملكة دولة مارقة في عيون العالم تحاول جاهدةً طيّ صفحة الخلاف مع الرياض والبحث عن صيغة مشتركة لخدمة المصالح المتبادلة بين البلدين بعد أن أدرك بايدن الدور الكبير الذي يمكن للسعودية أن تلعبه في إطار خدمة المصالح الأميركية المباشرة في الاقتصاد والأمن والسياسة.

فبعد اتّصالات رئاسية أميركية بالرياض وأبوظبي لم يتمّ الردّ عليها، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنّ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، ويليام بيرنز، زار السعودية منتصف نيسان والتقى وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان في جدّة.

 

لفتني في هذا السياق حجم الكتابات الصادرة عن أقلام وأصوات في العاصمة الأميركية معروفة بعدائها للمملكة وبسلبيّتها تجاه كلّ ما له علاقة بالسعودية، والتي باتت تدعو اليوم إلى الهدوء ‏والتعقّل والتسوية والإقرار بالدور السعودي المركزي في معالجات ذيول عدد من الأزمات الدولية المندلعة، ولا سيّما الأزمة الأوكرانية.

لا يحتاج المرء إلّا إلى استعراض هذه التطوّرات في علاقات ثلاث عواصم كبيرة بالرياض ليدرك حجم البهتان في الدعاية المعادية للسعودية، ‏وليفهم أنّ مكامن القوة شيء والادّعاءات الشعبوية شيء آخر.

الصين وتركيا وفرنسا وبريطانيا

يتزامن كلّ ذلك مع استعراض سياسي ودبلوماسي يجعل من السعودية عاصمة الدبلوماسية العربية والإسلامية والدولية. فالمملكة التي يتهيّأ الرئيس الصيني لزيارتها قريباً، كانت استقبلت على التوالي رئيس وزراء باكستان شهباز شريف، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أي زعيمي ثاني وسادس أكبر دولتين إسلاميّتين في العالم. وزارها على التوالي كلّ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ما يعني تفكيك الشقّ الأوروبي من محاولة العزلة التي روّج لها وسعى إليها كلّ أعداء المملكة طوال السنوات الأربع الماضية.

على الرغم من ذلك لا يجدر التقليل من الخطورة السياسية للدعاية المعادية للمملكة، بدافع من نشوة انتصار خيارات الرياض، أو تحسّس نتائج ثباتها السياسي وصلابة إدارة الأزمات التي واجهتها.

‏إنّ التموضع الذي يقدم عليه خصوم المملكة الآن، مدفوع بحسابات واقعية يقوم بها صانع السياسة في إيران أو تركيا أو الولايات المتحدة ولا ينبئ بالضرورة بمتغيّر جوهري في العقل العميق لمنظومة الحكم في أيٍّ من هذه الدول الثلاث، ‏ما يعني أنّه ما يتغيّر الآن قد يتغيّر إلى عكسه إذا كانت خدمة المصالح التي أشرنا إليها تتطلّب ذلك.

إقرأ أيضاً: هيدا نحن وهيدا جوّنا

إنّ الدروس المستفادة من هذه التحوّلات ومن احتمالات التحوّل المستقبلية هي مادّة مهمّة برسم النخبة السعودية بشكل خاصّ والخليجية والعربية بشكل عامّ. يجب أن لا نفوّت استثمار ما هو أمامنا الآن من معطيات بغية تحسين الوعي وتطوير الثقافة السياسية في الاتجاه الذي يحمي سلامة الدولة الوطنية في الخليج ومصر والمغرب وأبعد.

ما نعيشه الآن ليس سوى حلقة لصالحنا، في مسلسل الصراع الطويل مع إيديولوجيات وأفكار ستظلّ كامنة وتتحيّن فرصة الظهور مجدّداً والضرب بقسوة أكبر.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…