تقدِّر تل أبيب أنّ إطلاق صاروخ من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل ليس بعيداً عن حماس-فرع لبنان. هكذا تقول الرواية الإسرائيلية. صحيح أنّ الصاروخ سقط في منطقة مفتوحة شمالي إسرائيل من دون التسبّب بإصابات، وردّاً على ذلك قام الجيش الإسرائيلي بقصف مدفعيّ باتجاه مناطق مفتوحة جنوبي لبنان. لكنّ المحلّل الإسرائيلي يوني بن مناحم يرى أنّ من الواضح أنّ حماس تسعى في الوقت الحالي إلى إظهار قدرتها على تشغيل كلّ الجبهات ضدّ إسرائيل عبر صواريخها.
حماس التي نصّبت نفسها “حامي جنين” ووسّعت من معادلة غزّة لتشمل القدس والضفّة الغربية، أضافت إليها جبهة لبنان على ما يبدو، وذلك بالنظر إلى تصريحات قادة حماس في الفترة الأخيرة بأنّه لن يتمّ الاستفراد بساحة غزّة في المعركة المقبلة، وستنضمّ إليها الضفة الغربية، ومدن الداخل، وجبهة لبنان.
يبدو أنّ حركة حماس قد قرّرت أن لا يتمّ الاستفراد بساحة غزّة وبها، حتى في المعركة الاقتصادية. فبعد ساعات على إغلاق معبر بيت حانون-إيريز أمام حركة العمال الغزّيّين الذين يدرّون ملايين الشواقل على القطاع وعلى حركة حماس، بعد عودة الفصائل الفلسطينية إلى سياسة تنقيط الصواريخ من غزّة، جاء إطلاق الصاروخ من لبنان.
تعتبر إسرائيل أنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي غير قابل للحلّ، وهي تضع شعباً بكامله بين خيارَيْ الاستسلام والخضوع مقابل حوافز مالية، أو حرب بلا هوادة
تكبير حماس.. مقابل الهدوء
لقد اتّخذت حكومة نفتالي بينيت سياسة تقول ببساطة: نعطي تسهيلات اقتصادية في القطاع، نسمح بدخول العمّال، وحماس من جهتها تحافظ على الهدوء. وهكذا تحقّقت عمليّاً فترة الهدوء الأطول منذ فكّ الارتباط عن غزّة. لكنّ الثمن الذي تدفعه إسرائيل ليس اقتصادياً فقط، إذ يدور الحديث عن موافقة صامتة على أن يكون بوسع حماس التعاظم تحت رعاية هذا الهدوء.
قبل شهر رمضان والأعياد، طوّرت إسرائيل سلالة جديدة من المفاوضات يمكن تسميتها “مفاوضات وقائية” مع حركة حماس عبر الوسيط المصري، هدفها كما يبدو تقديم علاج استباقي لأيّ جولة تصعيد عسكرية محتملة، والتحذير من الضربة الشديدة التي ستتلقّاها غزّة إذا بدأت الصواريخ تنطلق منها نحو القدس. لقد تبنّى نفتالي بينيت هذه الاستراتيجية لمنع أيّ انفلات عسكري للأمور في شهر رمضان الذي يتزامن مع عيد الفصح اليهودي كما حدث العام السابق.
على كلّ حال، تحتاج حركة حماس إلى فترة طويلة نسبيّاً استعداداً لِما تعتبره “الملحمة الكبرى”. لكن بطبيعة الحال، وربّما بشكل أكبر، تخطّط لأن تكون بديلاً للسلطة الفلسطينية وحركة فتح. وهي ترى أنّ رسائل نارية من حين إلى آخر، وخطابات شعبية رنّانة عن حماية الأقصى والدفاع عنه، ومصطلحات مزلزلة كـ”أيدينا على الزناد”، و”صواريخنا لن تسمح للمستوطنين باستباحة الأقصى”، هي جزء أصيل من صناعة المشهد البديل، بديل لفتح والسلطة.
في الصورة التي يُراد لها أن تكون توثيقاً بصرياً، سبع رايات لحماس، وراية يتيمة لفلسطين في تظاهرة في المسجد الأقصى تصدّرت شاشات التلفزة، وعلى صفحات جريدة “يديعوت أحرونوت”. وكما نعلم فإنّ التقاط الصورة المعنيّة، واختيارها، ونشرها، والتعليق عليها، يفتقر إلى أدنى قدر من البراءة. وثمّة رساله سياسية يُراد منها القول إنّ حركة حماس هي التي تقود الساحة الفلسطينية.
ليس خافياً على أحد أنّ حركة حماس تشجّع على عسكرة الهبّات الشعبية في الضفة الغربية، التي تحدث نتيجة الاستفزازات الكبيرة التي يتعرّض لها الفلسطينيون من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. وهي تستعيد بذلك تجربة الانتفاضة الثانية التي صعدت خلالها حركة حماس إلى صدارة المشهد الفلسطيني والانتخابي على أسنّة الرماح ووهج العمليات الفدائية في العمق الإسرائيلي.
دفعت حركة حماس إلى عسكرة الانتفاضة الثانية مبكراً، وبشكل مدروس. لكن أطاحت الانتفاضة المسلّحة بكلّ النتائج الإيجابية الي راكمتها الانتفاضة الشعبية الأولى التي حصدت تعاطفاً عربياً ودولياً واسعاً، وعاد المجتمع الدولي إلى أسئلة مشروعة عن شرعيّة العنف وقتل المدنيين بدلاً من أسئلة الاستقلال الوطني وإنهاء الاحتلال. ومن سوء الحظ أنّ الانتفاضة الثانية والعمليات الفدائية تزامنت مع هجمات الحادي عشر من أيلول التي غيّرت العالم، وألحقت ضرراً كبيراً بالنضال الفلسطيني، الذي أصبح يُوسم بالإرهاب.
انتفاضة “تفكيك السلطة”
كانت الانتفاضة الثانية المسلّحة مدخلاً إلى تفكيك السلطة الفلسطينية في قطاع غزّة، بعدما تعرّضت مقرّاتها الأمنيّة للقصف، الذي كان مقدّمة ضرورية لطرد السلطة الفلسطينية لاحقاً من قطاع غزّة.
لهذا السبب تحذّر النخبة الفلسطينية الوطنية من تكرار أخطاء الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية، التي انتهت بهزيمة عسكرية وسياسية، ناهيك عن فواتير أخلاقية وسياسية كثيرة مستحقّة ومؤجّلة لم نتمكّن من تسديدها كاملة بعد.
يبدو أنّ حركة حماس قد قرّرت أن لا يتمّ الاستفراد بساحة غزّة وبها، حتى في المعركة الاقتصادية
ترى النخبة الفلسطينية أن لا سبيل لتحريك الجمود القاتل في عملية السلام ومواجهة انغلاق الأفق السياسي وعرقلة تسمين الاستيطان في الضفة، وبالطبع دفع الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي إلى الانخراط في جهود حلّ الدولتين، بدلاً من إرسال وفود لتهدئة الخواطر بين الحين والآخر وكأنّنا في مهمة عشائرية، إلا بهبّة شعبية سلمية، والاحتكاك مع قوات الاحتلال على طول نقاط التماس في الضفة الغربية، وليس تحميل قطاع غزة أكلاف معركة غير متكافئة وقودها الناس والحجارة.
خير مثال على ذلك، ما حدث في العام الماضي، عندما نشأت هبّة شعبية واسعة في القدس، وأخذت تنتقل إلى مدن الضفة، حتّى وصلت إلى داخل الخط الأخضر، وكانت على وشك التحوّل إلى انتفاضة شعبية شاملة في كلّ فلسطين. لكنّ دخول صواريخ على الخط حوَّل المواجهة الشعبية إلى حرب على غزّة دفعت أكلافها غالياً، من اللحم الحيّ.
لكن كيف السبيل إلى ذلك في ظلّ الانقسام الفلسطيني المريع، وانعدام الثقة بين حركتَيْ فتح وحماس، والتنافس المحموم بينهما على السلطة؟
إقرأ أيضاً: هل نجحت حماس في “ربط” الأقصى بغزّة؟
في الوقت نفسه تعتبر إسرائيل أنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي غير قابل للحلّ، وهي تضع شعباً بكامله بين خيارَيْ الاستسلام والخضوع مقابل حوافز مالية، أو حرب بلا هوادة، أو كما قال قائد لواء ما يُسمّى بالسامرة العقيد روعي تسيفيك أثناء إشرافه على ترميم “قبر يوسف” على مدخل مدينة نابلس: “ليس كسرّاقين في الليل، بل كأبناء ملوك نحن نأتي”.
*كاتبة فلسطينية مقيمة في غزّة..