استحضار الدّماء هو طقس انتخابيّ ينحو إلى أنْ يكون راسخاً في الأدبيّات الانتخابية اللبنانية لِما له من تأثير في شدّ العصب الطائفيّ أو المذهبيّ أو المناطقيّ، ولكثْرة الدّماء البريئة التي سالت في هذا الوطن المُعذَّب.
بيد أنّ هذا الاستحضار إنْ يدلّ على شيء فعلى ضُعف حُجّة مستخدمه وهشاشة خطابه السياسي. لذلك نراه ينهل من أنهار الدماء لتغطية النّقص وتورية الضعف، ولضرب صورة منافسيه وتهشيمها، طمعاً في مكسب انتخابي، من خلال نيل مقعد أو حفنة أصوات.
في رحلة الدماء الانتخابيّة يحتلّ حزب الله مكانة لا ينازعنّه فيها أحد. فمنذ عام 1992 قامت حملاته الانتخابيّة على استثمار الدماء ولمّا تزل
باسيل وجراح الحرب
أوّل ما يحضر إلى أذهاننا هو سلوكيّات رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل وغرامه الدائم بنبش مواضِع معيّنة في الحرب الأهلية، واقتطاعها من سياقها لخدمة مآربه الخاصّة والضيّقة، وضرب صورة الخصوم وإظهارهم وحدهم في صورة المجرمين والقتلة.
ليس الأمر قاصراً على هجماته ضدّ رئيس حزب القوّات اللبنانية سمير جعجع. فمن ينسى حادثة قبرشمون حيث نبش القبور، وخطابه في منطقة الكحّالة، والتّلويح الدائم بالذّكريات المريرة لحرب الجبل، سواءً بلسانه أو على ألسنة قيادات عونية مثل غسان عطالله. تلك الذكريات التي بذلت الكنيسة المارونية جهوداً مُضنية لطيّ صفحتها. لكنّ الأهداف الانتخابيّة الضيّقة حتّمت العودة الدائمة إليها، فمنْ تنْقُصه الحُجّة يذهب إلى استحضار الدّماء لشحن المشاعر المذهبية والطائفية للتغطية على عوراته السياسية.
حزب الله واستحضار الدماء
في رحلة الدماء الانتخابيّة يحتلّ حزب الله مكانة لا ينازعنّه فيها أحد. فمنذ عام 1992 قامت حملاته الانتخابيّة على استثمار الدماء ولمّا تزل. جلّ حملاته إنْ لم تكن كلّها تنطلق من العزاء واحتفالات التأبين، وحتى إطلاق المواقف السياسية لقياداته ونوّابه خارج الزمن الانتخابي. لا مشروع سيّاسياً اقتصادياً اجتماعياً للحزب ما خلا الدعوة إلى زراعة الشرفات، وبعض العروض “الخُلّبيّة” التي تُغدِقها علينا إيران ببناء معامل كهرباء في الهواء.
دائماً الهدف من الانتخابات هو “حماية ظهر المقاومة”. لذلك يعتبرها الحزب “حرب تمّوز انتخابيّة”، كما وصفها هاشم صفي الدين رئيس مجلسه السيّاسي. وللفوز بهذه الحرب يتمّ استحضار الدّماء بكثافة للتغطية على ضعف الخطاب السياسي وفَقْره. وقافلة الدّماء هذه تمتدّ من صنعاء إلى بغداد مروراً بدمشق وصولاً إلى بيروت. المفارقة أنّ شعار حملته الانتخابيّة المستمرّ منذ عام 2018 هو “نحمي ونبني”، ولا نعلم عن أيّ بناء يتحدّث وهو الذي له اليد الطولى في هدْم الدولة وتفتيت بُنيانها وتصديع مؤسّساتها الواحدة تلو الأخرى.
نجحت عموماً القوات، التي يشيّد البعض حواجز مناطقية في وجهها، في التفوّق على التيّار العوني وتشكيل لائحة في قلب طرابلس، بالتحالف مع الوزير الأسبق ريفي وشخصيّات أخرى
القوّات وذكريات الحرب الأهليّة
لعلّ أكثر الشعارات “دمويّة” في رحلة الدم الانتخابيّة هذه السنة، هو الاستحضار المكثّف لذكريات القوّات في الحرب الأهلية، خاصّة على الساحة السنّيّة التائهة، ومن قِبَل جمهور تيّار المستقبل بالذّات. ولضمان نجاح الحملة على القوّات وتأثيرها في الوجدان السنّيّ، عادت ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي إلى الواجهة من جديد، بالإضافة الى حملة تذكير بمفقودين من زمن الحرب الأهلية عبر تعليق صورِهم في الشوارع، وهو أمر لمْ يحدث سابقاً.
بدأت هذه الحملة تجد بعض الأصداء في الشارع الطرابلسي الذي لا يزال حتى اليوم يفتقد الرشيد، ولا سيّما مع قيام الوزير الأسبق أشرف ريفي بارتكاب “فاول” سيّاسي بالتطرّق إلى هذه القضية في خطابه وتبرئة القوّات من الجريمة. وهو ما استتبع ردّات فعل كثيرة على كلامه بالوقائع التي تدين القوات. فبكلامه هذا أكّد ريفي مدى تأثير هذه الحملة في السباق الانتخابي. خطأ سارعت كلّ القوى السياسية المتنافسة انتخابياً إلى تصيّده، سواءً كانت من المحسوبة على يمين السلطة أو من القوى التغييريّة، وذلك بهدف نيلِ قصب السّبق في اصطياد قلوب الناس وأفئدتهم أملاً في تقريش هذه الاستمالة أصواتاً في صناديق الاقتراع.
من باب التدليل على النفاق السياسي، حتّى على صعيد الدماء، ثمّة مسؤول سوري كبير أصدر القضاء اللبناني بحقّه مذكّرة توقيف لضلوعه في جريمة تفجيرَ مسجدَيْ “التقوى” و”السلام”. لكنْ يبدو أنّ هذين التفجيرين قد طواهما النسيان وإلّا لكان الجميع قد تسابق إلى المطالبة بتنفيذ حكم العدالة في هذه القضية ضمن برنامجهم الانتخابي.
تسونامي قوّاتيّ؟
ثمّة أبواب كثيرة يمكن ولوجها لِمنْ يريد النيل من القوّات سياسياً أوانتخابياً. يكفي التذكير بالاتّفاق الفئوي العنصري الذي أبرمته القوّات مع الجنرال ميشال عون، الذي لا يقلّ سوءاً عن اتّفاق “مار مخايل” بين عون والحزب. خاصّة شعار “أوعا خيّك” الذي يقطّر طائفية. وبالتالي تتحمّل القوّات المسؤولية عمّا وصلنا إليه بالقدْر نفسه الذي تتحمّله باقي القوى السياسية المشاركة في السلطة. فاتّفاق معراب كان معبراً رئيسياً نحو عهد جهنّم، ولا تجدي التبريرات نفعاً للتبرّؤ منه. فالطريق إلى جهنّم معبّدة بالنوايا الحسنة.
إقرأ أيضاً: حكومة ما بعد الانتخابات: كلمة السرّ سعودية؟
لكنّ اجتماع غالبية القوى السياسية، وخاصّة المسلمة، على استحضار الماضي الحربيّ للقوّات قد ينعكس إيجاباً عليها. ومن المفيد التذكير بأنّ هذه الحملات دائماً ما تعود بنتائج عكسية. ومنْ يدري فقد يؤدّي ذلك إلى حصول تسونامي انتخابيّ مسيحي قوّاتيّ شبيه بالذي أحدثه الجنرال عون عقِب عودته من منفاه الباريسي عندما شعر المسيحيّون أنّ المسلمين يتآمرون عليه بحِلفهم الرباعيّ.
نجحت عموماً القوات، التي يشيّد البعض حواجز مناطقية في وجهها، في التفوّق على التيّار العوني وتشكيل لائحة في قلب طرابلس، بالتحالف مع الوزير الأسبق ريفي وشخصيّات أخرى. وتشهد مكاتبها الانتخابية في المدينة حضوراً لافتاً، في حين أنّ حلفاء التيّار العوني استعرّوا من التحالف معه، وهذا في حدّ ذاته مؤشّر يستحقّ التوقّف عنده طويلاً.