أقرّ لبنان أوّل قانون لسريّة المصارف عام 1956، ومنذ ذلك الوقت تحوّل مبدأ السريّة المصرفيّة إلى أحد أسباب الانتفاخ السريع في ودائع وسيولة المصارف اللبنانية، خصوصًا في ظل اعتماد البلاد على نظام مالي منفتح ومتحرّر في محيط حكمته الأنظمة الاقتصاديّة الموجّهة. لكن منذ 2014، بدأت مجموعة من التحولات على المستوى الدولي تفرض نفسها لتقلّص هامش السريّة التي تمنحها المصارف اللبنانيّة لعملائها المقيمين في الخارج، اتجاه السلطات الضريبيّة الأجنبيّة التي تتعقّب ثرواتهم. وهو ما بدأ بإبطال جزء من مفاعيل مبدأ السريّة المصرفيّة الذي قام على أساسه النظام المصرفي منذ الاستقلال.
أمّا اليوم، وكجزء من شروط صندوق النقد الدولي، التي يُفترض أن يمتثل لها لبنان قبل توقيع التفاهم النهائي مع الصندوق لدخول برنامج القرض الموعود، يبدو أن البلاد تتجه إلى إحالة مبدأ السريّة المصرفيّة إلى التقاعد النهائي، من خلال تعديلات قانونيّة تفتح السجلّات المصرفيّة امام السلطات الضريبيّة والقضائيّة المحليّة، وتبطل البنود التي كانت تسمح بفتح حسابات مصرفيّة “مرقمة” تمنع معرفة صاحب الحساب الفعلي.
ما يطلبه صندوق النقد من جهة الخروج من حقبة السريّة المصرفيّة ليس سوى مواكبة للتحولات العالميّة المصرفيّة، التي باتت تتجه منذ سنوات إلى مسارات تسهيل تبادل المعلومات المصرفيّة
مع الإشارة إلى أن جميع هذه التعديلات تم طرحها على طاولة مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير يوم الخميس الماضي، من ضمن مرسوم مشروع قانون يهدف إلى تعديل بعض بنود قانون سريّة المصارف، فيما يفترض أن يقوم الوزراء بدرس هذه التعديلات قبل مناقشتها مرّة جديدة خلال جلسة مجلس الوزراء المقبلة. وفي حال إقرار مرسوم مشروع القانون في الحكومة، ستكون الكرة في ملعب المجلس النيابي، الذي يفترض أن يصوّت على مشروع القانون من ضمن “سلّة” شروط التي طلبها صندوق النقد، والتي تحتاج إلى تشريعات من المجلس النيابي لإقرارها.
التعديلات المقترحة على قانون سريّة المصارف، والتي جاءت بحسب نتائج مباحثات الوفد اللبناني المفاوض مع بعثة صندوق النقد، شملت تحديدًا النقاط التالية:
1 – حظر الحسابات المرقّمة، وهي الحسابات التي سمح قانون سريّة المصارف النافد حاليًّا بفتحها. مع الإشارة إلى أن هذه الحسابات تخفي هويّة صاحب الحساب الفعلي، من خلال تسجيل الحساب المصرفي برقم معيّن بدل الإشارة إلى إسم صاحبه، فيما لا تُعلن هويّة صاحب الحساب إلّا لمدير المصرف أو وكيله. وبحسب التعديلات المطروحة حاليًّا، يفترض أن يتم تحويل هذه الحسابات إلى حسابات عاديّة بإسم أصحابها خلال مهلة ستّة أشهر، يُحظر خلالها القيام بأي عمليّات مصرفيّة مرتبطة بهذه الحسابات.
2 – السماح للسلطات القضائيّة أو هيئة التحقيق الخاصّة أو أي سلطة أخرى ذات صلاحيّة بإلقاء الحجز على الأموال المودعة لدى المصارف. مع العلم أن قانون سريّة المصارف يحظر هذا النوع من الحجوزات إلا بموافقة صاحب الحساب، فيما يحصر قانون مكافحة تبييض الأموال هذه الصلاحيّة بهيئة التحقيق الخاصّة.
3 – إعطاء صلاحيّة رفع السرية المصرفية وطلب الداتا المصرفيّة لكل من: السلطات القضائيّة التي تنظر في جرائم الفساد والجرائم الماليّة، والهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، ولجنة الرقابة على المصارف، والمؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، ومصرف لبنان، والسلطات الضريبيّة المختصّة، بالإضافة إلى هيئة التحقيق الخاصّة. مع العلم أنّ القوانين تحصر هذه الصلاحيّة حاليًّا بهيئة التحقيق الخاصّة، أو في حالة الدعاوى المرتبطة بحالات الإثراء غير المشروع.
4 – تمكين السلطات التي تملك صلاحيّة الحصول على المعلومات المصرفيّة من تبادل هذه المعلومات في ما بينها.
5 – إعطاء لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان صلاحيّة مراقبة تطبيق القانون، لجهة امتثال المصارف لطلبات المعلومات المصرفيّة الواردة إليها، وإحالة المصارف غير الممتثلة للهيئة المصرفيّة العليا، على أن يكون لدى الهيئة مهلة أسبوعين لاتخاذ الإجراءات القانونيّة بحق المصارف المخالفة.
من الناحية العمليّة، وبخلاف التهويل الإعلامي الذي يحيط بهذه التعديلات، ما يطلبه صندوق النقد من جهة الخروج من حقبة السريّة المصرفيّة ليس سوى مواكبة للتحولات العالميّة المصرفيّة، التي باتت تتجه منذ سنوات إلى مسارات تسهيل تبادل المعلومات المصرفيّة بين الدول، وداخل كل دولة على حدة، لمكافحة التهرّب الضريبي وتبييض الأموال وحالات الإثراء غير المشروع.
“فاتكا” و”غاتكا” وما بينهما
من جهة لبنان، من المعلوم أن المصارف اللبنانيّة إلتزمت منذ العام 2014 بمتطلبات قانون “فاتكا” الأميركي، الذي يفرض على جميع المصارف حول العالم تقديم المعلومات المصرفيّة المتعلّقة بالمواطنين الأميركيين، عند طلبها من قبل السلطات الضريبيّة الأميركيّة، لمكافحة التهرّب الضريبي. كما التزمت المصارف اللبنانيّة منذ العام 2017 بمتطلبات معاهدة “غاتكا”، التي تفرض عليها أن تسلّم إلى السلطات الضريبيّة الأجنبيّة – للدول المنضوية في المعاهدة – المعلومات المصرفيّة المتعلّقة بالمقيمين لدى هذه الدول، عندما تطلبها. مع العلم أن تطبيق قانون “فاتكا” ومعاهدة “غاتكا” جرى فرضهما على الأنظمة الماليّة المختلفة حول العالم، تحت طائلة التضييق على علاقات المصارف بالمصارف المراسلة، وهو ما يفسّر مسارعة لبنان للإلتزام بهذه القواعد المستجدة لتبادل المعلومات المصرفيّة.
تجدر الإشارة إلى أن لبنان احتاج عام 2016 إلى تمرير قانون خاص يسمح بتبادل المعلومات المصرفيّة مع الدول الأجنبيّة للغايات الضريبيّة، ما فتح المجال أمام التزام المصارف بتقديم المعلومات إلى السلطات الضريبيّة الأجنبيّة على هذا النحو. وبهذا المعنى، باتت السريّة المصرفيّة أساسًا مرفوعة أمام سلطات الدول الأجنبيّة، في ما يخص حسابات المقيمين لديها، حتّى من المغتربين الذين يحملون حصرًا الجنسيّة اللبنانيّة. وما يطلبه صندوق النقد من الإصلاحات الجديدة، ليس سوى تمكين السلطات الضريبيّة اللبنانية من مطابقة الداتا الموجودة لديها بداتا الحسابات المصرفيّة، عند وجود شكوك في حالات التهرّب الضريبي، وهو حق تملكه أصلًا الدول الأجنبيّة في ما يخص الحسابات المصرفيّة الموجودة في لبنان.
أمّا إعطاء القضاء صلاحيّة الحصول على المعلومات المصرفيّة عند النظر في دعاوى الجرائم الماليّة، فيعالج إشكاليّة حصر هذه الصلاحيّات سابقًا بهيئة التحقيق الخاصّة، التي لا تقبل قراراتها أي طريقة من طرق النقض أو المراجعة، وهو ما مثّل طوال الفترات السابقة عائقًا أمام تقصّي الأدلّة المرتبطة بملفات الفساد.
إقرأ أيضاً: سلامة: لا توحيد لسعر الصرف.. قبل “التسوية الكبرى”
في كل الحالات، لا يوجد حتّى اللحظة ما يؤكّد أن هذه التعديلات في قانون سريّة المصارف ستمرّ بسلاسة داخل المجلس النيابي، حتّى لو قامت الحكومة بإقرارها في الجلسة المقبلة، التزامًا بتعهداتها أمام صندوق النقد الدولي. فرفع السريّة المصرفيّة على هذا النحو، وخصوصًا أمام السلطات الضريبيّة، سيعني المسّ بكتلة كبيرة من المصالح المرتبطة بالنخبة النافذة ماليًّا في البلاد، والتي تتشابك مصالحها مع الأحزاب السياسيّة النافذة في البرلمان. لكل هذه الأسباب، قد يكون التصدّي لهذه التعديلات، تحت ذريعة رفض المساس بالاقتصاد الحرّ وتحرّر النظام المصرفي اللبناني، إحدى الأسباب التي يمكن أن تعرقل الوصول إلى التفاهم النهائي مع صندوق النقد.