أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية اللبنانية بشكل رسمي عام 1990، إلا أن عمليات الخطف الحالية في لبنان تعيد ذكريات تلك الحرب التي شهدت انتشارا كبيرا لـ”حوادث الخطف”.
تركت تلك الحقبة في ذاكرة اللبنانيية أكثر من 17 ألف مفقود ممن اختطفوا أثناء الحرب، أو اختفوا. فيما سجّلت لجنة التحقيق للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين عام 2000، وجود 2046 حالة لمفقودين من جنسيات مختلفة (لبنانية وسورية وفلسطينية ومن جنسيات أخرى) وكذلك من انتماءات سياسية مختلفة. منهم من تم اختطافه من منزله أو مكان عمله، ومنهم من أخفي قسرًا إما داخل لبنان، أو في السجون السورية أو تلك الإسرائيلية.
لكن حتّى الآن، لم يكن هناك أي جهود ملموسة لكشف مصير أولئك المختطفين. وهو ما جعل حوادث الخطف الحالية تزيد من مشاعر الخوف من تنامي ظاهرة باتت تنتشر بشكل واسع، بهدف الحصول على فدية مالية.
بحسب التحقيقات، فإنّ عصابات الخطف تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لاستدراج ضحاياها
قوى الأمن الداخلي تعلن بين الحين والآخر إلقاء القبض على مجموعات “تمتهن الخطف” في البلاد، كما تعلن عن تحرير مخطوفين. كان آخر هذه العمليات تحرير ثلاثة شبان (سوري، لبناني، ويمني) قرب الحدود السورية – اللبنانية من خاطفيهم. إلا أن الكثير من التساؤلات بقيت دون إجابة، خاصة تلك المتعلقة بهوية الجماعات الخاطفة.
بحسب التحقيقات، فإنّ عصابات الخطف تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لاستدراج ضحاياها، مثل استخدامها تطبيق “TikTok”. وذلك عبر الإعلانات التي ينشرها أفرادها عليه، مدّعين أنّهم يمتلكون مكتبًا للمساعدة على الهجرة إلى دول أوروبية، وعن تسهيلات كبيرة تصل إلى حدود عدم دفع المبالغ المطلوبة إلا بعد الوصول.
لكن إلى أين يتوجّه الخاطفون؟
بحسب مصادر أمنية معنية لـ”أساس”، فإنّ عمليات الخطف التي شهدها لبنان في الفترة الماضية كان واضحاً أنّها تستهدف جميع الفئات النساء كما الرجال، سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، رجال أعمال ومغتربين سابقين، وأبناء عشائر وحتى أقارب مسؤولين لبنانيين، كلهم وقعوا مؤخراً ضحايا عمليات الخطف.
ليست عمليات الخطف مقابل فدية ظاهرة طارئة على المشهد اللبناني إلا أنّ للانفلات الأمني في كل من سوريا ولبنان دور كبير في ازدياد ظاهرة الخطف والتعذيب والفدية، ولا سيما خلال سيطرة عناصر “حزب الله” على كامل المنطقة الحدودية الممتدة من منطقة الهرمل شمالا وصولا إلى الحدود الموازية لقرى البقاع الأوسط.
في الجهة المقابلة تسيطر قوات “الفرقة الرابعة” المدرّعة في قوات النظام السوري، وهي وحدة النخبة بقيادة ماهر الأسد، الأخ الأصغر لرئيس النظام السوري بشار الأسد، على كامل المنطقة الحدودية، والتي تمتهن عمليات الخطف و صناعة المخدرات.
حدود خارج السيطرة
تكشف مصادر أمنية في حديث لـ”أساس” أنّ العصابة تستدرج الضحية لتنقلها إلى منطقتي شتورا و زحلة، و منهما إلى الهرمل والبقاع، حيث تنشط عمليات الخطف ومراكز الخاطفين. أو تُنقل في بعض حالات الخطف إلى مناطق قريبة من الحدود اللبنانية – السورية في البقاع الشمالي، أو يتم إدخالها عبر المعابر غير الشرعية، إلى داخل الأراضي السورية.
يعمد أفراد العصابة إلى طلب فدية مالية من ذوي الضحية، مقابل الإفراج عنها. وغالبًا ما تتعرض الضحية للتعذيب، وترسل العصابة صورًا ومقاطع فيديو لذوي المخطوف، للإسراع في عملية دفع الفدية المالية.
كذلك بات عدم تبليغ الأجهزة الأمنية بعملية الخطف شرطاً من شروط هذه عصابات الخطف مقابل الفدية. إذ يجري ربط مصير المخطوف وسلامته بعدم تقديم شكوى أو بلاغ لدى السلطات. وهو ما رصدته القوى الأمنية وأشارت إليه لدى نشرها تسجيلات مصوّرة من أحدث عملية تحرير مخطوفين.
حديث الصورة: قدمت السلطات البريطانية 100 مركبة مدرعة هبة إلى الجيش اللبناني، لضبط حدود بلاده مع سوريا، وهي من نوع “Land Rover RWMIK”.
ترتبط السمة الأبرز لهذه الحوادث بشكل أساسي بالحصول على الفدية المالية، التي تقدّر في معظمها بآلاف الدولارات، كما حصل مع عدد من المختطفين من بينهم (حسن ع.) الذي اختطف من محيط بلدة كفررمان في قضاء النبطية، ونقل إلى منطقة البقاع حيث تم احتجاز الشاب والاعتداء عليه، ومن ثم لاحقاً دفعت عائلته فدية مالية لقاء الإفراج عنه.
رغم أنّ الجيش اللبناني والقوى الأمنية في منطقة البقاع تتصدى لهذه العمليات وعصاباتها إلا أنّ هناك مخطوفين مجهولي المصير حتى اليوم، عالقين في دوامة ابتزاز مالية بانتظار دفع فديتهم بحسب متابعين لهذه القضية.
لا يخفي المصدر الأمني الذي تواصل معه “أساس” ازدياد هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة، مشيراً إلى أنّ مساعي الشباب للهجرة خارج لبنان سهلت من عمليات الخطف عبر الإعلانات الخاصة بالهجرة.
وتعتقد الباحثة السورية هلا الناصر أنّ عودة عمليات الخطف تأتي في ظل غياب القانون في المنطقة الحدودية اللبنانية السورية والفلتان الأمني السائد هناك، ولاسيما على شريط القرى الحدودية المتداخلة مع سوريا. وقد تحوّلت هذه المناطق إلى ملجأ للمطلوبين والفارين من العدالة والأجهزة الأمنية والقضائية، والتجارة غير المشروعة والتهريب، حيث لا سلطة مفروضة لأحد في هذه المناطق لا من جهة النظام السوري ولا من الطرف اللبناني. وهذا ساهم في ازدياد عمليات الخطف الحالية كما سيصعّب من عملية ردعها في المستقبل.
تصاعد عمليات الاختطاف في لبنان
تظهر الإحصاءات الصادرة عن الدولية للمعلومات، أن بداية العام 2022 قد سجل ارتفاع فوق المعدل في حوادث الخطف التي أعلنت عنها قوى الأمن الداخلي عبر حساباتها، حيث رصدت الشبكة 16 حادثة خطف في شهر شباط (خلال شهر واحد)، بينما كان العام 2021 في الشهر ذاته قد سجل حادثة واحدة. وهو ما يشير إلى وتيرة تصاعدية في عمليات الخطف. بينما بلغت العمليات الموثقة في في العام 2020 من الشهر ذاته 7 حالات.
حديث الصورة: جدول يبين عدد جرائم السرقة والقتل والخطف والانتحار خلال الشهرين الأولين من الأعوام 2018-2022 من إعداد الدولية للمعلومات استناداً إلى الأرقام الصادرة عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
تعمل عصابات الخطف حديثا على تجنيد أفراد سوريين ولبنانيين عبر إغراءات مالية وفق ما كشفه (ي. س.) وهو سجين سوري سبق كان قد أوقف بتهمة الانضمام لعصابة خطف في لبنان.
ويضيف السجين في حديثه مع “أساس” أنّ العصابات تعمل على تجنيد مطلوبين أو هاربين ومدمني مخدرات وعاطلين عن العمل للقيام بهذه الأنشطة، فتقع المسؤولية على عاتق المنفذين على الأرض عند انكشاف أمرهم ويبقى الشخص المسؤول بأمان بعيداً عن الواجهة.
حديث الصورة: مخطوفون سوريون أعلن الجيش اللبناني تحريريهم من عصابة مسلحة في وقت سابق، بعدما تم اختطافهم وقتها كرهائن، شرقي لبنان.
ينصّ القانون اللبناني في المادة 569 على معاقبة كل من حرم شخص آخر حريته الشخصية بالخطف أو بأي وسيلة أخرى، بالأشغال الشاقة المؤقتة، وتصبح مؤبدة في حال تجاوزت مدة حرمان الحرية الشهر، أو أنزل بمن حرم حريته تعذيب جسدي أو معنوي. كذلك إذا وقع الجرم على موظف أثناء قيامه بوظيفته أو بسبب انتمائه إليها، وإذا كانت دوافع الجريمة طائفية أو حزبية، وإذا استعمل الفاعل ضحيته رهينة للتهويل على الأفراد أو المؤسسات أو الدولة بغية ابتزاز المال أو الإكراه على تنفيذ رغبة أو القيام بعمل أو الامتناع عنه.
وتشدد العقوبة وفقا للمادة 257 إذا نجم عن الجرم موت إنسان نتيجة الرعب أو أي سبب أخر له علاقة بالحادث.
إقرأ أيضاً: “المرتزقة” السوريون في أوكرانيا: شحن 300 مقاتل يومياً
من الجدير ذكره أنّ الاستعانة بوساطات محلية وحزبية سياسية ودينية بهدف التدخل لدى الخاطفين وبالتنسيق مع القوى الأمنية بهدف الإفراج عن المخطوفين قد حقّق نتائج ملموسة. وشكّلت هذه الوساطات مفتاح الحل في قضايا عدة. إلا أنّ المطلب الأهم هو الكشف عن الجهات المرتبطة بعصابات الخطف وهويتها ومن يديرها كخطوة أولى ومن ثم تجري ملاحقتهم وفق القانون.