أوكرانيا: IN البحر الأبيض OUT البحر الأسود

مدة القراءة 9 د

المؤكّد هو أنّ شكل النظام العالمي الجديد لن تحدّده نتيجة الحرب في أوكرانيا. لكنّ هذه الحرب هي التي فتحت الطريق أمام بناء معادلات واصطفافات إقليمية ودولية جديدة مغايرة لِما كانت عليه التوازنات قبل تاريخ 24 شباط المنصرم يوم انطلاق العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية.

هناك قناعة أخرى تعزّز طرح مغادرة المعجون للأنبوب وصعوبة إعادته إلى مكانه، وهي عجز المجتمع الدولي ومؤسّساته السياسية والحقوقية والاجتماعية عن الدفاع عن التوازنات التي أفرزتها تفاهمات “وستفاليا” عام 1648، وتبنّي قاعدة سيادة الدول فوق أراضيها بمواجهة روسيا. إذ بعد مرور 7 أسابيع على تحريك القوات الروسية في العمق الأوكراني، سقطت كلّ محاولات دفع موسكو إلى إيقاف هجومها وإلزامها باحترام السيادة الأوكرانية. وستكون ذروة العجز مع تعميم الكرملين لميثاقه الدولي الجديد تحت عنوان “لا سيادة لأحد فوق أراضيه” بعد الآن. وكلّ الجغرافيا مباحة أينما كانت ما دامت القوّة والمصالح تسمحان بذلك. ستبدأ الكارثة الحقيقية عندما تتحرّك بقيّة الدول لحسم خلافاتها في إطار هذا الميثاق الروسي الجديد وبالعقليّة والأسلوب نفسَيْهما.

قالت تقارير المخابرات العسكرية البريطانية إنّ القوات الروسية تواصل إعادة تنظيم صفوفها بهدف تركيز هجومها في منطقة دونباس شرق أوكرانيا

ليس بالضرورة أيضاً أن تشتعل عسكرياً كلّ الجبهات في مناطق تقاطع النفوذ الغربي الروسي لنقول إنّ الحرب العالمية الثالثة بدأت. فالحرب انطلقت منذ لحظة إعطاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره لقوّات بلاده باقتحام المدن الأوكرانية، وبعدما تصلّبت كييف بدعم وتشجيع غربيَّين في رفض توقيع اتفاقية الاستسلام والهزيمة في القرم وإعطاء بوتين ما يريد. قد تكون ساحة العمليات محصورة اليوم في المجال الأوكراني في إطار رغبة أميركية روسية بعدم توسيع رقعتها بانتظار معرفة ما الذي ستقود إليه المفاوضات السياسية القائمة بين طرفَيْ النزاع واحتمالات تراجع أحدهما عن تصلّبه وتمسّكه بما يقول. لكنّ الحرب الاقتصادية والأمنيّة والماليّة العالمية انطلقت وكلّ مؤشّراتها توحي أنّها لن تتوقّف أو تنتظر قرار التصعيد العسكري بين الأطراف وانتقال المواجهات إلى ساحات جديدة.

أعلنت قيادات حلف شمال الأطلسي أنّ المرحلة الثانية من الحرب الروسية الأوكرانية ستكون أوسع في المساحة وكثافة العمليات القتالية. يقول الرئيس الروسيّ كلاماً مشابهاً وهو يتحدّث عن قرار موسكو مواصلة عملياتها العسكرية لأنّ المفاوضات الروسية الأوكرانية وصلت إلى طريق مسدود نتيجة عدم التزام الجانب الأوكراني بما تمّ الاتفاق عليه في لقاءات إسطنبول.

إذاً يتّضح اليوم التالي:

1 – موسكو وكييف كانتا تستعدّان لهذه المواجهات العسكرية منذ أشهر طويلة.

2 – الاستعدادات كانت أساساً روسيّة غربية في الإعداد والتجهيز والتنفيذ حتى لو لم تشارك قوات حلف شمال الأطلسي في المعارك حتى الآن.

3 – المواجهات ستتواصل على مراحل وستتّسع رقعتها من الدائرة الأوكرانية إلى دائرة البحر الأسود ليس بحسب نتائج المفاوضات الروسية الأوكرانية، بل في ضوء عروض المقايضة التي تقدّمت بها موسكو أكثر من مرّة لواشنطن وما زالت الأخيرة ترفضها: تقاسمات للنفوذ في منطقة حوض البحر الأسود مقابل تفاهمات أميركية روسية في منطقة البحر المتوسط.

4 – ساحة الاختبار المرتقبة في التعامل مع الميثاق الروسي الناسف لقواعد السيادة، ستكون على خطّ حوض البحر الأسود والبحر المتوسط، حيث تتشابك وتتداخل الحسابات الإقليمية والدولية. روسيا مؤثّرة وقادرة على المواجهة حتّى النهاية في المكان الأوّل، لكنّها في البقعة الجغرافية الثانية لا تملك سوى الورقة السورية والخدمات التي قد يقدّمها لها حزب الله عبر القرار الإيراني في السواحل اللبنانية.

5 – بين أهداف تحييد إيران إقليمياً، إمّا عبر التفاهم معها في الاتفاقية النووية أو من خلال تلويح الإدارة الاميركية بالبديل الإسرائيلي، محاولة قطع الطريق على أيّ تقارب روسي إيراني في شرق المتوسّط.

6 – من الممكن توصيف التشجيع الأميركي للعديد من دول المنطقة على ترك خلافاتها جانباً عربياً وتركيّاً وإسرائيلياً، بأنّه تحرّك أميركي في إطار حرمان روسيا من فرصة تسجيل اختراق استراتيجي يعطيها الثقل الذي تريده في شرق المتوسط كما هي الحال في البحر الأسود.

7 – العقبة الواجب تجاوزها هي النظام في دمشق الذي يرفض توقيع أيّة اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع دول الجوار في شرق المتوسط بقرار روسي وإيراني. وقد يكون البديل تفاهمات تركية إسرائيلية بتشجيع أميركي وتفهّم إقليمي لإزالة هذا العائق.

 

حرب البحر الأسود

8- أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ أنّ الحلف يخطّط لوجود عسكري كامل على حدوده بهدف التصدّي لأيّ عدوان روسي في المستقبل. يربط ستولتنبرغ بين هذا القرار وبين تطوّرات المشهد العسكري في أوكرانيا أو ما سمّاه هو “واقع جديد للأمن الأوروبي”. لكنّ نشر قوات عسكرية جديدة على كامل أراضي التكتّل يعني الاستعداد لمواجهات محتملة مع روسيا في أماكن أخرى غير أوكرانيا حيث تتداخل المصالح والنفوذ. والمقصود هنا هو منطقتا شرق المتوسط وحوض البحر الأسود بكامله.

9 – قالت تقارير المخابرات العسكرية البريطانية إنّ القوات الروسية تواصل إعادة تنظيم صفوفها بهدف تركيز هجومها في منطقة دونباس شرق أوكرانيا. وأشارت التقارير إلى أنّ مدينة ماريوبول الساحلية الأوكرانية المحاصَرة ستكون هدفاً رئيسياً للعمليات العسكرية الروسية الجديدة لأنّها ستوفّر ممرّاً برّيّاً من روسيا إلى أراضي شبه جزيرة القرم المحتلّة. تتحدّث تقارير غربية مشابهة عن استعدادات روسية لمهاجمة مدينة أوديسا أهم مدن الساحل الأوكراني الواقعة على البحر الأسود وتدميرها. الهدف هنا قد يكون أوديسا السياحية في العلن، لكنّ موقع المدينة الاستراتيجي، إلى جانب ما يُقال عن مخطّط ماريوبول، يبيّن أنّ الهدف هو السيطرة الروسية على كامل الساحل الأوكراني. وهذا مؤشّر آخر إلى أنّ الحرب في البحر الأسود تقترب يوماً بعد آخر.

10 – يردّد وزير الدفاع التركي خلوصي آكار أنّه من دون أدلّة ثبوتية على الجهة التي ألقت بالألغام البحرية أمام المضائق التركية فلن تتّهم أنقرة أحداً، وأنّ التحقيقات مستمرّة بهذا الخصوص. آكار نفسه هو الذي كان يتساءل قبل أيام عن “الوصول السريع” للألغام المرميّة إلى منطقة المضائق التركية، وعن الجهة التي لها مصلحة في افتعال أزمة من هذا النوع؟ هل الهدف هو إنهاء الوساطة التركية بين طرفَيْ الصراع ودفع أنقرة إلى إصدار قرار إغلاق المضائق أمام حركة عبور السفن التجارية؟ وما هي مصلحة روسيا أو أوكرانيا في ذلك؟ أم الهدف هو تسريع إقحام دول البحر الأسود في المواجهات العسكرية، وتحديداً تركيا، إذا ما تقدّم سيناريو وقف حركة العبور في المضائق التركية لأسباب أمنيّة؟ المحصّلة واحدة، وهي تفعيل مسألة نقل الجغرافيا الحربية إلى منطقة البحر الأسود بكاملها، وفتح الطريق أمام دخول حلف شمال الأطلسي المباشر في المعارك.

11 – تعوّل الطروحات الغربية في تعاملها مع ملفّ الأزمة على مسألة إيقاف حركة لجوء مئات الآلاف باتّجاه العواصم الأوروبية، وإنشاء “مناطق آمنة” لهم في العمق الأوكراني بحماية عسكرية دوليّة. لكنّ الطروحات الأخرى لحسم ملفّ اللجوء تطالب بإرسال قوات أطلسية بحرية إلى المياه الدولية في البحر الأسود، وتحذير روسيا وتنبيهها إلى ضرورة وقف قصف مدن السواحل الأوكرانية أو مواجهة العواقب. قد يكون المعنيّ هنا هو منطقة البحر الأسود التي يجب تسريع تجهيزها عسكرياً لمواجهات أكبر مع روسيا.

الإجابات على الكثير من هذه التساؤلات والسيناريوهات سنراها قريباً في ضوء مسار العمليات العسكرية في أوكرانيا ومدى سرعة انتقالها إلى حوض البحر الأسود، ودخول الأطلسي بشكل مباشر إلى مسرح العمليات، أو احتمال اقتناع الأطراف بضرورة عدم التصعيد العسكري أكثر من ذلك وقبول عروض التهدئة والحلول التي تحمي قدر الإمكان مصالح الجميع.

لم يحن وقته بعد الحديث عن تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا. فموسكو وواشنطن تستعدّان لحرب طويلة الأمد متعدّدة الجوانب والأهداف. والساحات والأماكن الأقرب والأكثر سخونة بينهما اليوم هي حوضا البحر الأسود والبحر المتوسط. وستكون حرباً إقليمية أوسع إذا لم يتراجع بوتين عن شروطه ومطالبه في أوكرانيا، ولم يقرِّر التوجّه نحو طاولة حوار حقيقية تجنّبه ما ينتظر روسيا من أزمات ماليّة وسياسية أكبر مع المجتمع الدولي.

 

إنهاء هيمنة أميركا

يقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إنّ العملية الخاصة التي تنفّذها القوات الروسية في أوكرانيا لن تتوقّف لأنّ بين أهدافها إنهاء سياسة هيمنة أميركا على العالم. يتحدّث لافروف من منطلق فشل موسكو في الحسم السريع لمعركتها والوصول إلى الأهداف التي كانت تريدها في القرم.

حرب أوكرانيا هي مكسر العصا في المواجهة الأميركية الروسية. وتلويح بوتين المبكر بجهوزيّة السلاح النووي لا يمكن تلقّيه وتفسيره إلا على أنّه حلقة في استراتيجية تتمدّد باتجاه البحر الأسود وشرق المتوسط لإشعال المكانين معاً إذا لم يأخذ ما يريده من كييف.

البحر الأسود لا يمكن مقارنته بالبحر الأبيض المتوسط لا من حيث المساحة ولا أهميّة وعدد الدول المطلّة عليه أو لناحية تمدّده الجغرافي وثرواته الباطنية. تتشارك 7 دول البحر الأسود بين شرق أوروبا وغرب آسيا، وأبرزها روسيا وتركيا وأوكرانيا وبلغاريا، وتبلغ مساحته 440 ألف كلم مربّع. أهمّ خصوصيّاته هي اتصاله عبر المضائق التركية ببحر إيجه والبحر المتوسط في أقصى الغرب والجنوب التركي. أمّا البحر الأبيض المتوسط فهو حالة استراتيجيّة مختلفة تماماً، إذ يجمع 21 دولة آسيوية وأوروبية وإفريقية حول مساحة جغرافية تتجاوز مليونين ونصف مليون من الكيلومترات المربعة. يقرّبها ويباعدها مليارات الأمتار المكعّبة من الغاز المدفون تحت المياه والتي تنتظر استخراجها في ضوء خرائط ترسيم الحدود البحرية لتسهيل تقاسم الثروات. وهو مجال بحري شاسع يحتضن الثروات السمكية الضخمة والفرص السياحية الكبيرة والبعد البحري العسكري الذي يمثّل فرصة للشركاء لتعزيز قدراتهم الحربية.

إقرأ أيضاً: الشاطر بوتين!

من الذي سينقذ نفسه من المعركة: البحر الأسود أم البحر الأبيض؟

من بين الاحتمالات أنّ الألوان لم يعد لها قيمة، فكلّ البحار بكلّ ألوانها هي في دائرة الخطر.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…