بدايةً: لا فرق بين “مودع كبير” و”مودع صغير” إلّا بالتقوى…
أن تملكَ حساباً مصرفياً بـ10 آلاف دولار أو 1 مليون دولار، فالأمر سيّان في نهاية الشهر، لأنّك ستحصل على مبالغ متقاربة مطلع كلّ شهر، بناءً على حجم وديعتكَ. بل أكثر من ذلك، أنت مهدّد بأن تجوع أو تبحث عن موارد أخرى غير مدخولك من وديعتك المصرفية، خصوصاً بعدما توقّفت المتاجر عن قبول الدفع بالبطاقات البلاستيكية، أو اشتراط مَن استمرّ في العمل بها دفع نصف الفاتورة بالليرات الـ”كاش”. وهو ما ألزم الكثير من المودعين الذين وجدوا في هذه البطاقات سبيلاً لسدّ حاجاتهم اليومية، بخفض استهلاكهم إلى النصف وربّما أكثر، أو لأن يسحبوا من “دولارات المنزل”، فيصرفون دولاراً من مدّخراتهم، مقابل كلّ دولار (ما يعادله بالليرة الكاش، أي 24 ألف ليرة بسعر الصرف الحالي) سيدفعونه ببطاقة الليرة.
مصدر في مصرف لبنان كان كشف لـ”أساس” قبل نحو شهر، أنّ “المركزي” طرح حلّاً على الحكومة من أجل ضبط أسعار السلع والحدّ من جشع التجار، من خلال فرض تسعير السلع كافّة بالدولار، وبيعها بالليرة اللبنانية على سعر منصة “صيرفة”
يوم أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 601 ورفع سعر اللولار (الدولار المصرفي) من 3,900 إلى 8,000 ليرة، فرح المودعون، على اعتبار أنّ سعر دولار السوق كان يمثّل ستّة أضعاف سعر الدولار المصرفي، وأصبح بحجم ثلاثة تقريباً. إلّا أنّ مصرف لبنان والمصارف خنقتهم بواسطة حجب الليرات اللبنانية الكاش: حصّتك من السحوبات مقنّنة برقم محدّد (بحسب كلّ مصرف). فمن كان يقبض ألف دولار على 3900، أي 3 ملايين و900 ألف ليرة، صار يقبض 4 ملايين، لكن باتت قيمتها 500 لولار بدلاً من ألف. هكذا هربت المصارف من دفع “الكاش”، وفتحت باباً في التعميم 601، اسمه “سحوبات POS (point of sale)”، أي يمكن الدفع بواسطتها عبر تلك البطاقة، إلى حدود تصل إلى 3 آلاف دولار شهرياً لذوي الودائع الكبيرة. وهذا ما بات معطّلاً اليوم بقرار أصحاب السوبرماركت القبول بدفع 50%، مقابل 50% “كاش”
لم تتوقّف الطامة عند هذا الحدّ، فبعد هدوء دام لأسابيع في سعر صرف الدولار عند 20 ألفاً، حلّت الحرب الروسية – الأوكرانية قبل ما يزيد على شهر، فأعادت سوق الصرف إلى الاضطراب. فقد انعكس ارتفاع سعر المحروقات والسلع الغذائية الرئيسية، مثل الزيوت والقمح وغيره من الحبوب، مزيداً من الطلب على الدولارات لاستيراد الكميّات نفسها من السلع وربّما أقلّ.
كان سعر صرف الدولار قبل الحرب قرابة 20 ألفاً، أمّا اليوم فيراوح بين 24,000 للمبيع و24,500 للشراء، وتعتبر مصادر صيرفية أنّه آيل إلى الاستقرار عند هذا الهامش إذا لم تطرأ متغيّرات أو خضّات جديدة من الآن حتى الانتخابات النيابية، خصوصاً في حال اتفقت الحكومة مع حاكم مصرف لبنان على تفاصيل المرحلة وترتيب الخلاف القضائي.
ضرب سعر الـ8000
عمليّاً هذه الآلاف الأربعة (الفرق بين السعريْن) هي الفرق في أسعار السلع الذي تحمّله المواطنون عموماً. مَن يحصل على راتبه بالليرة اللبنانية شعر بالزيادة التي أكلت القدرة الشرائية لراتبه، لكنّ مَن يعتاش من سحوبات وديعته المصرفية بات بحاجة إلى ضعف المبلغ وأكثر، بسبب جشع التجار الذين أبقوا أسعار سلعهم عند دولار 30 ألفاً، وعادوا اليوم ليرفعوا الأسعار نفسها من جديد.
تخطّت أسعار السلع في الأسواق دولار الـ35 ألفاً بكلّ سهولة، ولا من حسيب ولا رقيب.
لا أحد يتحدث عن دولارات، بل عن رفع سقوف السحب بالليرة الكاش، لزوم العيش والحفاظ على ما تبقّى من القدرة الشرائية التي أصلاً هي متدهورة منذ عامين ونصف العام
على سبيل المثال: من كان يحصل على 4 ملايين من وديعته، على سعر صرف 3900، وبات يحصل على الملايين الأربعة نفسها، على سعر 8000 للولار، هو نفسه كان يشتري كيلو اللبنة بـ60 ألف ليرة، وصار يشتريه بـ90 ألف ليرة تقريباً (مع تسعير التجّار على 30 بدلاً من 20 ألفاً). أي أنّ السيولة بالليرة “الكاش” بين يديه لم ترتفع مع رفع سعر صرف اللولار، لكنّ البضائع ارتفعت أسعارها إلى الثلث تقريباً. والباب الخلفي الذي كان مفتوحاً منذ نهاية كانون الأوّل 2021 إلى منتصف آذار الجاري، للدفع عبر POS، أقفل نصفه. وبالتالي من يملك دولارات في المنزل بدأ يصرفها، ومن لا يملك دولارات في المنزل بدأ يدخل أكثر فأكثر في بوابة الجوع والعوَز. وهذا ليس تفصيلاً.
مصدر في مصرف لبنان كان كشف لـ”أساس” قبل نحو شهر، أنّ “المركزي” طرح حلّاً على الحكومة من أجل ضبط أسعار السلع والحدّ من جشع التجار، من خلال فرض تسعير السلع كافّة بالدولار، وبيعها بالليرة اللبنانية على سعر منصة “صيرفة”، بدلاً من السماح للتجّار بالاستنساب في التسعير بالليرة. وتتمّ المراقبة على أساس السعر بالدولار.
لكنّ الحكومة لم تتبنَّ هذا الخيار. وقلّة التنسيق بين “المركزي” ووزارة الاقتصاد مفيد للطرفين: جشع التجار وارتفاع أسعار سلعهم مقابل انخفاض سعر صرف الدولار يعني أنّ الليرات لن تكفي لسدّ الحاجات، ويعني أيضاً لجوء المواطنين إلى الدولارات المخبّأة في البيوت لعدم كفاية هذه الليرات التي يحصلون عليها من حصصهم في ودائعهم. أمّا استفادة وزارة الاقتصاد فتكون بخفض منسوب الاستهلاك، واستطراداً خفض الطلب على الدولار على قاعدة “يلي ما معوش ما يلزموش”. أي خفض فاتورة الدولارات التي ستخرج من لبنان كلّ شهر. وهنا يستفيد التجّار من “خطّة” الحكومة و”المركزي”، فيتقاسمون “نهش” المواطنين فيما بينهم.
لاحقاً، يمتصّ مصرف لبنان بواسطة شركات تحويل الأموال والصرّافين الدولارات التي يصرفها المواطنون، حين يقصدهم المواطنون لصرف دولارات المنازل. وبعدها يمتصّ مصرف لبنان الليرات اللبنانية الفائضة من المستوردين، من خلال إلزامهم بتمويل فواتيرهم بالليرات الكاش لقاء الحصول على الدولارات من “صيرفة”. ولهذا السبب قرّرت السوبرماركات الحصول على 50% “كاش بالليرة”. وبالتالي فإنّ الحلقة كلّها مربط فرسها في مصرف لبنان، الذي يضغط هنا، ويرخي هناك، ويشدّ هنا ويخنق هناك، ويمسك بكلّ أطراف اللعبة، فتخرج منه الليرات وإليه تعود دولارات المنازل.
إقرأ أيضاً: الكابيتال كونترول: الحكومة تشعل سوق الدولار
هذه هي الدوّامة التي أدخلتنا فيها السلطة المالية والنقدية والسياسية، وبات المواطنون والسلطة على السواء عاجزين اليوم عن الخروج منها، ثمّ يأتي من يحدّثنا عن قانون “الكابيتال كونترول” من أجل ضبط المزيد من تسرّب الأموال إلى الخارج وحماية أموال المودعين، بينما المطلوب بحسب الكثير من الخبراء الاقتصاديين والماليين تحرير المزيد من الأموال. ولا أحد يتحدث عن دولارات، بل عن رفع سقوف السحب بالليرة الكاش، لزوم العيش والحفاظ على ما تبقّى من القدرة الشرائية التي أصلاً هي متدهورة منذ عامين ونصف العام.