هزّ الغزو الروسي لأوكرانيا برلين وأيقظ “جرمانيّتها” الذاهلة من غفوتها وغفلتها الجيوسياسية الطويلة الأمد، وكسر فكرة الثبات التقليدية في السياسة الألمانية الخارجية مع الكرملين. فلسنوات عديدة كانت السذاجة والمصالح التجارية وما سُمّي بـ”التوازن الاقتصادي” و”الحاجة إلى الطاقة”، سببين لركود السياسية الخارجية الألمانية وركونها. أمّا الآن فيقوم العديد من السياسيين الألمان بطقوس التكفير عن الذنوب عن سنواتهم العجاف السابقة وعن ارتمائهم في الحضن الروسي.
تسود أوروبا اليوم حالة من الغضب الشديد ليس من ألمانيا فقط وإنّما من نفسها أيضاً لفشلها التاريخي، فبالنسبة إلى الكثيرين في أوروبا لم يعد من شيء يمكنه أن يردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
تعيش ألمانيا اليوم عهد “حكومة حلف الإشارة” أو الائتلاف الثلاثي الذي يتألّف من الأحزاب الثلاثة “الديمقراطيين الاجتماعيين” و”الديمقراطيين الأحرار” و”حزب الخضر”
فشلت المؤسسة السياسية الألمانية في التفكير من منظور القوة الغاشمة والمتأرجحة. فقد كان هناك اعتقاد أوروبي متعجرف بأنّ خصوم الغرب الآخرين ينظرون إلى العالم بطريقة مماثلة للنظرة الأوروبية. وهذا غلوّ في الثقة. فقد استبدلت أوروبا الأسلحة بالكلمات والإدانات، وجعلت القمم والمؤتمرات والندوات بديلاً عن المواجهات الميدانية، وعادت ببصيرة عمياء إلى توازن القوى بين الغزو وسيادة القانون، لكنّ هذا لا يعني أنّ الطرف الآخر (روسيا، الصين، إيران….) يفكّر بنفس الطريقة، فكانت الصدمة الأوروبية.
تجمّعت أسباب كثيرة ومتغيّرات عديدة، البعض منها باطني داخلي، وجلّها خارجي متراكم ومتواتر مع تبدّلات حيويّة نافرة في الثوابت، وأسّست للدوافع الألمانية التي حتّمت التغيير. فقد كانت ألمانيا لسنوات خلت غافلة عن هذه الرؤى، وهي التي آمنت لأقصى الحدود بنهاية الحرب الباردة، فهل هناك جهوزيّة لدفع هذا الثمن؟
في عيون بوتين
تقيِّم عيون بوتين الساهرة روسيا وتحلِّل الظروف والوقائع بأسلوب مغاير وبطريقة مختلفة، فيرى رئيساً أميركياً محاصَراً بانقسامات داخلية عميقة، وضائعاً “للعظم” في سياسته الخارجية، وحكومةً ألمانيةً جديدة وضعيفة بانطلاقتها تبحث عن موطئ قدم لها، ورئيساً فرنسياً مرشّحاً لولاية جديدة غارقاً في خضمّ حملة انتخابية يحاول استغلال كلّ الأحداث للاستفادة منها وكسب النقاط، ورئيس وزراء بريطانياً محاصَراً بين القيم الأوروبية والإنكليزية. وقد لمس بوتين تغيّر ميزان العلاقات لمصلحة روسيا، ووجد أنّها فرصة سانحة لتغيير النظام العالمي بحسب وجهة نظره، فانتهز الفرصة للتنفيذ، ساعياً إلى سلام يرى أنّه القوّة الساحقة وراء القانون.
الدافع الأساسي إلى التغيير في السياسة الألمانية، وخصوصاً اتجاه روسيا، ليس التبدّل في البرنامج أو الأسلوب والوسيلة وحسب، بل إنّه أبعد وأعمق من ذلك بكثير بحيث تصل ألمانيا إلى الهدف المرجوّ وحلّ المشكلة من خلال تصحيح النموذج الفلسفي للأسس العملية الألمانية المحرِّكة للسياسة، والانتقال من مرحلة تفضيل المصالح الاقتصادية وربط تفاهم الاختلاف المصلحي مع روسيا، إلى سياسة القيم والدبلوماسية الواقعية. فلم تعد ألمانيا القوة المهيمنة المتردّدة والمحتارة بين شعار “ألمانيا الأوروبية” أو “أوروبا الألمانية”، بل هي فضّلت وتبنّت الخيار الأوروبي الأوّل “ألمانيا الأوروبية” الذي وجدت فيه خلاصها وأمنها وقوّتها، في اقتراب وتطابق واضحين للسياسة الألمانية مع العمق الأوروبي في محاولة لتشكيل استجابة سياسية صحيحة لتحقيق المطلوب.
تعديل مبادىء الأحزاب
تتعلّق دوافع هذا التغيير بالسياسة المحلية الألمانية من حيث اعتمادها على ثلاثة محاور هي الحكومة، والقيادة، ومجموعات المصالح والرأي العام، التي من خلالها يتحدّد الطموح الألماني في السياسة الخارجية ورسم السياسات. فالحاجة ماسّة في ألمانيا الأوروبية القويّة عسكرياً إلى توازن مع القوة الاقتصادية.
تعيش ألمانيا اليوم عهد “حكومة حلف الإشارة” أو الائتلاف الثلاثي الذي يتألّف من الأحزاب الثلاثة “الديمقراطيين الاجتماعيين” و”الديمقراطيين الأحرار” و”حزب الخضر”، المختلفين بالعقيدة السياسية بشكل ملموس والمتّفقين على إنجاح تحالفهم. ومن أجل إنجاح ذلك الائتلاف كان يتوجّب على كلّ حزب أن يشرع بتعديل مبادئه المقدّسة وتبنّي مواقف سياسية مختلفة لم يكن ممكناً أن يتبنّاها سابقاً.
بدأ التغيير في السياسة الألمانية بعد الابتعاد الرجوع عن السياسة الشرقية “الأوستولوجية” أو “الأوست بوليتيك”
أبرز التغييرات تخصيص القوات العسكرية الألمانية التي تمّ إهمالها بحزمة التمويل الجديدة، بسبب اقتناع صنّاع السياسة الألمان بضرورة إحياء القوة العسكرية إلى جانب القوة الاقتصادية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
لخّص هذا القرار المصيري أهمّ التحوّلات في الدوافع الملحّة والمقاييس الظرفية الواقعية، ولذلك تمّ إقراره حتى من دون أيّ نقاش برلماني يُذكر. وللمناسبة هو قرار غير تقليدي ومعاكس لتصوّرات الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يشتهر بانتهاجه المناهج التصالحية. فهو طرق باب التصالح مع نفسه والمصالحة مع ألمانيّته الأوروبية من الباب العريض.
بدأ التغيير في السياسة الألمانية بعد الابتعاد الرجوع عن السياسة الشرقية “الأوستولوجية” أو “الأوست بوليتيك”، تلك المنهجية التصالحية اتجاه الكتلة الشيوعية والتقاربية مع الاتحاد السوفياتي، بعد توحيد ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. بمعنى الهدنة الاستراتيجية مع بقايا الاتحاد السوفياتي. واختارت ألمانيا المواجهة، وتطبيق مبدأ دبلوماسية الواقع عوضاً من مبدأ “التغيير والأولويّة للتجارة”. وقد ظهر ذلك بوضوح عبر إيقاف مشروع “نورد ستريم 2” لاستيراد الغاز من روسيا، والموافقة على العقوبات على روسيا.
جوهر هذين التغيير والتحوّل هو التخلّي عن الاعتماد على الوقود والغاز الروسيين الذي كان لا يشكّل أيّ مشكلة بالنسبة إلى ألمانيا حتى الأمس القريب، وكان ثمرة تفاهم استراتيجي مع جارتها الكبيرة المتحاربة معها في السابق. فقد كان الاعتقاد الألماني بأنّ الهدف الأصلي من الاعتماد على الغاز الروسي عبر خط الأنابيب هو تشبيك صحيح وربط صحّيّ في العلاقات الاقتصادية وبند أساسيّ للحفاظ على السلام الدولي ومحاولة للدمج الروسي في العمق الأوروبي. وهذا كان باعتراف ألماني بشأن سياسة التكيّف الطبيعية مع روسيا، إلا أنّ الاجتياح غيّر كلّ ذلك، إذ أيقنت ألمانيا من بعده أنّ السياسة الأوستولوجية الشرقية كانت فاشلة، وفشلها الإضافي هو في اعتمادها المستمرّ على الطاقة الروسية، فكان القرار الحاسم بدافع الانقلاب مع حتميّة الحصول على مصدر جديد وغير ابتزازي للغاز.
الاختلافات بين الأحزاب
مع ذلك تبدو لنا مهمّة التحالف الثلاثي المتوجّس المؤلّف من حزب الخضر والحزبين الديمقراطي الحرّ والديمقراطي الاجتماعي صعبة بالفعل، لكنّها ليست بالمستحيلة إذا أُدمغت بشكل تامّ بالدوافع الفعّالة للوصول إلى سياسة خارجية ألمانية ثابتة وجامعة لناحية التهديد الروسي واجتياحه لأوكرانيا. ويتمنّى المجتمع الألماني أن لا تغلب الإشارة الحمراء المعطّلة الحكومة، بسبب عدم وجود اتفاق وتقاطع حقيقي وتامّ بين هذه القوى في ما يخصّ السياسة الخارجية، وهو أمر مهمّ جدّاً لأنّه يشكّل عصب سلاسل التغيير الألمانية.
فالديمقراطيون الأحرار، وهو الحزب الليبرالي، ميّالون إلى قضايا الرقمية والاقتصاد الحرّ والطاقة البديلة، فيما حزب الخضر يولي أهميّة خاصة وأساسية لقضايا المناخ والديمقراطية، فيما يفضّل الحزب الديمقراطي الاشتراكي العمل بنموذج اجتماعي ديمقراطي من خلال الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ومجموعة الدول السبع.
تحاول ألمانيا الحفاظ على علاقات متميّزة مع المملكة المتحدة على الرغم من البريكسيت، وتؤكّد استمرارها وتوثيقها للتحالف الاستراتيجي مع فرنسا على قاعدة أنّ أوروبا القوية هي الأولويّة
الدافع من هذا التغيير هو محاولة خلق وابتكار نهج براغماتي واقعي يسعى إلى جمع المصالح القومية والاقتصادية الألمانية بشكل متوازن، والموالفة بين التوجّهات الخارجية للأحزاب الثلاثة المكوّنة للائتلاف، وفي مقدّمها التبدل الاستراتيجي النافر المتمثّل في الغزو الروسي. وتسعى ألمانيا بشكل حثيث إلى مواجهة السلوك الروسي باعتماد دبلوماسية جماعية في السياسات الدولية، من خلال تحفيز العمل الجماعي والاستعانة بشراكتها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وتحالفها العابر للأطلسي مع أميركا.
بريطانيا والصين
تحاول ألمانيا الحفاظ على علاقات متميّزة مع المملكة المتحدة على الرغم من البريكسيت، وتؤكّد استمرارها وتوثيقها للتحالف الاستراتيجي مع فرنسا على قاعدة أنّ أوروبا القوية هي الأولويّة من خلال العمل على إنشاء قوة أوروبية مشتركة مستقلّة وصناعة سياسة دفاعية أوروبية موحّدة وجسم خارجي تنفيذي موحّد ذي قرارات متناغمة وفاعلة، ووضع حدّ لانفلاش اليمين المتطرّف أوروبياً، والتواصل مع واشنطن لتنسيق المواقف باعتبار أنّها الحليف الأكثر صلابة لألمانيا من خارج أوروبا على الرغم من وجود الخلافات بين الجانبين حول طريقة التعامل المستقبلي مع الصين وروسيا والناتو.
ستمضي ألمانيا في التعامل بحذر مع روسيا معتمدةً سياسة مواجهة شديدة الحزم، وهو أمر جدّي لألمانيا، إذ انخفضت وتيرة التقارب الألماني الروسي، وسوف تشهد العلاقة أزمات حادّة، و”نورد ستريم 2″ إحدى مراحلها.
يُتوقّع أن تتشدّد في علاقاتها مع الصين التي تشوبها حالة من الثقة المعدومة، وخاصة نتيجة التغلغل الاقتصادي الصيني في ألمانيا. فلا شكّ أنّ الأزمة الجديدة الحالية مع الدبّ الروسي تتطلّب علاقات مساكنة للأفضل مع التنين الصيني، وهذا التناقض بعينه حيث إنّ الهدف الأوروبي هو في روسيا ضد الصين وفي كيفية العمل على فك الارتباط فيما بينهما، إلا أنّ المشكلة تكمن في كيفيّة حشد الدعم الأوروبي اللازم والكافي لألمانيا وشركائها لنشر التفكير المماثل بشكل أوّليّ على الأقلّ، فأوروبا ضدّ المحور الروسي الصيني علناً، فهل تكون ألمانيا قادرة على الوقوف في آن واحد ضدّ الدبّ والتنين؟
التعدّدية الألمانية آخذة في الظهور، وباتت أكثر نشاطاً، وهذا دافع من شأنه زيادة المشاركة الألمانية في السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي وفي أن تصبح عنصرها الحاسم، لذا كانت الأولويّة هي الحكم على تغيُّر السياسة الألمانية تجاه روسيا، ومقدار هذا التغيُّر إن تغيّرت، ومَن المستفيد، ولا سيّما أنّ هناك توافقاً تامّاً وجدّيّاً على كون السياسة الشرقية الألمانية لم تعد نافعة. محور هذا التغيير هو الانتقال من حالة أوروبا الألمانية إلى ألمانيا الأوروبية، مع الاقتناع بأنّ ألمانيا الحازمة هي ألمانيا الأوروبية في ظلّ تبدّل استراتيجي لوجه أوروبا مترافق مع تغيير حقيقي في مهنة ألمانيا، وانتقالها من حالة شبه السيادة العسكرية إلى مرحلة القوة الشاملة، بحيث باتت القوة العسكرية الألمانية حاجة قارية ودولية إلى جانب العملقة الاقتصادية، وهذا دافع مهمّ جدّاً، لكن هل هذا سهل التغيير؟
إقرأ أيضاً: انشغل العالم بأوكرانيا.. فذهبت الصين إلى أفغانستان
هل ساهمت الإمبراطورية الاقتصادية لبرلين وموقعها داخل منطقة اليورو في تطوّر ألمانيا الجديدة؟ وهل جعلها هذا أقرب من حيث النزعة للقومية الأوروبية إلى حدّ جعلها تثور بدوافع جديدة على نفسها وترفض ثوابتها القديمة التي استفادت منها في بناء دولتها بعد سقوط حائط برلين، وتغيّر سياستها مع روسيا، وتضرب سياستها الأوستولوجية وتطعن تردّدها المهيمن بخنجرها الأوروبي؟
هي دوافع عديدة وضعت ألمانيا على المحكّ في قلب صراع كوني ومحوري وفي مواجهة تدافع فيها عن وجودها وعن وحدتها وعن الاتحاد الأوروبي، بحيث أضحت ذات تأثير هائل على صنع السياسات بموازاة الإجراءات الحازمة. فأيّ نوع من الممثّلين الأوروبيين والدوليين هي ألمانيا اليوم؟ وهل تستمرّ الصحوة الجيوسياسية الألمانية؟ وهل انقلبت ألمانيا بالفعل على السياسة التصالحية الشرقية؟
لهذه الأسئلة تتمّة.