“لجنة خارقة” تنتحل صفة “الكابيتال كونترول”

مدة القراءة 8 د

يُنتظر أن تطّلع اللجان المشتركة في مجلس النواب على مسوّدة قانون “الكابيتال كونترول” الذي كُشف عنه يوم الخميس بعد اجتماع هيئة مكتب مجلس النواب في عين التينة. مسوّدة القانون هذه أقلّ ما يُقال فيها أنّها أخذت صلاحيّات فوّضتها السلطة طوعاً إلى مصرف لبنان بيد، ثمّ أعطته إيّاها باليد الأخرى لكن بواسطة “لجنة” سيخلقها القانون بعد إقراره، وستكون مطلقة الصلاحيّات في التفاصيل، حيث تسكن الشياطين. ستكون هذه اللجنة مخوّلة القيام مقام القانون تحت مسمّى “الكابيتال كونترول”، فهي ستحلّ محلّ تقلّبات مصرف لبنان، وستكون اليد القذرة للطبقة السياسية في تحليل وتحريم ما لا يخطر على بال، وما يناسبها ويناسب الحكّام.

أنظروا إلى الذين ستتألّف منهم هذه “اللجنة”: وزير المال، وزير الاقتصاد، حاكم مصرف لبنان، ويرأسها رئيس الحكومة أو وزير ينتدبه. من مهامّها على سبيل المثال: إصدار تنظيمات حظر نقل الأموال خارج الحدود، والتحويلات وعمليّات القطع، وتحديد سقوف السحوبات من الحسابات، والاستثناءات أي الامتيازات لبعض الحسابات أو الشخصيات أو المؤسسات أو الأفراد، وخصوصاً التمييز بين أنواع من الدولارات “الفريش”، لأنّ المسوّدة ستخلق عملة دولار إضافية جديدة، بخلاف “اللولار” و”الفريش”، وهي دولار “فريش بجواز سفر”، يمكنه السفر عبر الحدود، وآخر “في الإقامة الجبرية”، ممنوع من السفر.

تعتمد مسوّدة القانون سعر منصّة “صيرفة” الخاصّة بمصرف لبنان من أجل عمليّات صرف الدولار كافّة (المادة 3)

أمّا القانون إنْ مرّ في جلسة مجلس النواب يوم الثلاثاء، وهو أمر مستبعد بلا صدامات، فسيخنق الاقتصاد، وسيحدّ من حجم استيراد السلع ويرفع أسعارها جميعاً، خصوصاً تلك الكمالية أو غير الاستهلاكية – الغذائية، لأنّ استيراد هذه السلع سيمسي أصعب بكثير ممّا هو عليه اليوم.

 

“الفريش” في الإقامة الجبريّة

لا يُستبعد أن يسحب قانون “الكابيتال كونترول” اقتصادنا اللبناني نحو المزيد من “اقتصاد الكاش”، البعيد عن القطاع المصرفي العالمي والقريب من التهرّب والتهريب وغسل الأموال وتسهيل الجرائم الماليّة، خصوصاً أنّ الأرضيّات جاهزة، وثمّة مَن يمتلك الخبرات اللازمة من أجل إتمام هذه الأعمال.

إنْ أُقرّت المسوّدة التي حدّد مدّتها المشرّع بخمس سنوات (قابلة للتمديد أو التقليص بحسب رؤية اللجنة) فقد نلاحظ تباعاً ظهور ما يمكن اعتباره أو تسميته Haircut على الدولارات “الفريش” نفسها، التي ستبقى محتجزة في الداخل اللبناني، وقد تفقد بعض قيمتها، على الرغم من أنّها “كاش”. وستكون هناك “سمسرات” لتهريبها خارج الحدود، مقابل حذف نسبة مئوية من قيمتها حين “تسافر”.

بعد الاطّلاع على المسوّدة، لا بدّ من إحصاء عدد كبير من الملاحظات نلخّصها بالآتي:

أوّلاً: تعتمد مسوّدة القانون سعر منصّة “صيرفة” الخاصّة بمصرف لبنان من أجل عمليّات صرف الدولار كافّة (المادة 3). وهي المنصّة التي لا نعرف حتى تاريخه كيف يجري التداول بموجبها، ووفق أيّ معايير يُحدَّد سعرها اليومي، وما هو حجم التداول فيها يومياً بالتفصيل، شراءً ومبيعاً، وهل رقم التداول حقيقي أم وهمي ما دام يُشرك عمليات صرّافي السوق السوداء وشركات تحويل الأموال. من هذا المنطلق لا بدّ من تحرّك مصرف لبنان لإضفاء المزيد من الشفافية (التي تفتقدها في كلّ أرقامه) على آليّة عمل “صيرفة”، من أجل اعتمادها مرجعاً لهذا القانون.

ثانياً: بعد سنتين ونصف سنة باتت مهمّة أيّ قانون تبرئة ذمم المصارف. إلاّ أنّ هذه المسوّدة لا تفعل ذلك بشكل واضح، ولا تتضمّن مادّة صريحة تشير إلى ذلك أو تحدّد التاريخ الذي سيسري تطبيق القانون انطلاقاً منه، ما خلا جملة واحدة في المادّة 10 تقول إنّ “أحكام القانون تحلّ محلّ أيّة أحكام أو قوانين تتعارض معه”. فهل هو بمفعول حالي فور صدوره في الجريدة الرسمية فقط أم يحمل مفعولاً رجعيّاً قد يصل إلى 17 تشرين الأول 2019؟ هذه مسألة غير واضحة.

ثالثاً: تعتبر مسوّدة القانون أنّ العملات الأجنبية المتأتّية من عائدات التصدير لن تُعتبر أموالاً جديدة “فريش”. وتعطي المسوّدة للّجنة صلاحية تقرير كيفيّة استخدام هذه الأموال. لذلك سيكون هذا البند من المادة 7 كفيلاً بشلّ التصدير، صناعةً وزراعةً وغيرهما، لأنّها ستمسي “من دون جدوى” ما دامت ستحرم أموال الصناعيين من صفة الدولار “الفريش”، إلى حين بتّ “اللجنة” إيّاها الأمر. وهذا سيكون متروكاً لاستنسابيّتها أو “جَلَدها” على إنصاف هذا أو ذاك (à la libanaise). وسيضع هذا البند القطاعات المعنيّة كلّها تحت “سيف” اللجنة، واستطراداً مصرف لبنان، الذي تخوّله اللجنة بدورها إصدار التعاميم من أجل تنظيم الشروط والأحكام العائدة لأموال التصدير التي ستبقى سجينة الخزائن الحديدية أو القطاع المصرفي.

رابعاً: مسوّدة القانون تُسقط كلّيّاً بند “الدولار الطالبي” لأنّها لم تأتِ على ذكره لا من قريب ولا من بعيد، وسينتج عن ذلك الحكم على الشباب اللبناني بأن يبقى بلا تعليم ما دام قطاع التعليم في الداخل اللبناني منهاراً.

سيجعل القانون “ميزة” التعلّم في الخارج حكراً ليس على المقتدرين في الداخل، وإنّما على مَن يملك أموالاً خارج لبنان فقط. لكن مع ذلك تُبقي المسوّدة باب هذا البند موارباً، وتضعه “في حضن” اللجنة، التي تفوّض بدورها مصرف لبنان بحث الاستثناءات وإصدار التعاميم اللازمة لذلك. وهذه سلطات استنسابية إضافية في سوبر صلاحيّات “اللجنة”.

القانون إنْ مرّ في جلسة مجلس النواب يوم الثلاثاء، وهو أمر مستبعد بلا صدامات، فسيخنق الاقتصاد، وسيحدّ من حجم استيراد السلع ويرفع أسعارها جميعاً

خامساً: تمنع المسوّدة تحويل العملة الوطنية إلى عملة أجنبية إلّا إذا كانت معفاة بشكل صريح في مادّة من موادّ القانون، أو معطاة بقرار صادر عن “اللجنة” أيضاً، وهذا يعني أنّ كلّ عمليّات بيع الدولار التي تتمّ في المصارف وفق التعميم 161 ستكون بموجب هذه المسوّدة ممنوعة، ما لم تسمح بها اللجنة ويوافق عليها مجدّداً مصرف لبنان بموجب تعميم، حتى لو كانت عملية بيع الدولارات من دولارات المصرف نفسه، أو بموجب سعر “صيرفة” أو حتى سعر “السوق السوداء”.

سادساً: تخضع السحوبات النقدية، بحسب المادة 5 من مسوّدة القانون، لقيود “تحدّدها اللجنة” (نعود إلى اللجنة في كلمة مادّة)، ويجب ألاّ تزيد على 1000 دولار للفرد الواحد شهرياً، من دون أن تحدّد هذه المادّة ماهيّة هذه الأموال: هل هي بالليرة اللبنانية ووفق أيّ سعر صرف، أم بالعملة الأجنبية؟ وهل هو “الفريش المسافر” أم “الفريش المقيم جبريّاً”؟

إنّ هذه المادّة كفيلة بوقف العمل بالتعميم 158 الذي أجبر المصارف على دفع ما قيمته 800 دولار (نصفها بالليرة ونصفها بالدولار) لكلّ مودع. قد تتوقّف هذه الأموال إذا قرّرت اللجنة دفع الـ1000 دولار بالليرة اللبنانية، لأنّ سوء الظنّ من حسن الفطن هنا، والأرجح أن يكون الدفع بالليرة وعلى سعر منصة “صيرفة” وليس بالدولار. وربّما يكون ذلك كفيلاً بإعادة الدولار إلى التحليق بسبب ضخّ الليرات في السوق بأعداد مهولة، الأمر الذي سيخلق طلباً على الدولار في السوق السوداء، اللهمّ إلّا إذا قرّرت اللجنة إيهام الناس بالدفع، ثمّ تكفّل مصرف لبنان بحرمان المواطنين من هذه الليرات “الكاش” مثلما يحصل اليوم، وصرفها من خلال بطاقات الائتمان فقط، فما حاجتنا إلى القانون في هذه الحالة؟

سابعاً: للّجنة صلاحيّات عقابية تمارسها على المخالفين، وستكون العقوبة غرامات ماليّة تراوح بين 10% و100% من قيمة أيّ عمليّة مخالفة، أو السجن لمدّة قد تصل إلى سنتين. لكنّ المسوّدة لا تخبرنا مَن يعاقب اللجنة إن كانت هي مَن يخالف القانون أو يستخدم الصلاحيّات لتجاوز حدّ السلطة، ولا سيّما أنّ من بين أعضاء اللجنة مَن هم متّهمون بمخالفة القوانين وبشبهات اختلاس؟ أمّا إسناد مهمّة مراقبة حسن تنفيذ القانون إلى لجنة الرقابة على المصارف، فمزحة تشبه مزحة هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها حاكم مصرف لبنان (فيك الخصام وأنتَ الخصمُ والحكمُ).

ثامناً: أغفلت المسوّدة التمييز بين حسابات الأفراد وحسابات المؤسسات الكبيرة، مثل النقابات ومؤسسات الدولة وما شابه، فهل ينطبق عليها بند الـ1000 دولار شهرياً، أم ستكون الصلاحيّات استنسابية في يد “اللجنة الخارقة” التي في يدها التحكّم بكلّ تفصيل من تفاصيل حياتنا وأشغالنا وتعليمنا واقتصادنا؟

إقرأ أيضاً: رحيل سلامة: قبل الانتخابات أو بعدها؟

تقول الأوساط الإعلامية إنّ هذه المسوّدة ستُقرّ يوم الثلاثاء في الهيئة العامة للمجلس، لأنّها سبق أن حصلت على موافقة صندوق النقد الدولي، لكن يبدو أنّ هذا الأمر دونه عقبات كثيرة سنبدأ في تبيُّنها في الأيام المعدودة المقبلة.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…