تختزل الزيارة القصيرة التي قام بها الرئيس ميشال عون للفاتيكان واللقاء بينه وبين البابا فرنسيس مأساة لبنان واللبنانيين ومأساة المسيحيين اللبنانيين على وجه الخصوص. لن تقدّم الزيارة ولن تؤخّر بمقدار ما أنّها تكشف حجم الفراغ السياسي في لبنان ومدى السيطرة الإيرانيّة عليه. أكثر من ذلك، تكشف الزيارة، في ضوء عجز ميشال عون عن القيام بأيّ خطوة في الاتّجاه الصحيح، أنّ الفراغ سيتعمّق ويتكرّس. يشير إلى ذلك رفضه إلى الآن انتخابات رئاسيّة قبل انتهاء ولايته في 31 تشرين الأوّل المقبل… إلّا إذا ضَمِن وصول صهره جبران باسيل إلى قصر بعبدا.
تختزل الزيارة القصيرة التي قام بها الرئيس ميشال عون للفاتيكان واللقاء بينه وبين البابا فرنسيس مأساة لبنان واللبنانيين ومأساة المسيحيين اللبنانيين على وجه الخصوص
ما يخشاه الفاتيكان استمرار الفراغ في رئاسة الجمهوريّة لفترة طويلة بعد انتهاء ولاية ميشال عون، واحتمال استغلال “حزب الله” هذا الفراغ المديد المتوقّع لطرح مسألة تغيير طبيعة النظام اللبناني على نحو جذريّ. سيفعل ذلك عن طريق فرض “المؤتمر التأسيسي” الذي تحدّث عنه حسن نصرالله قبل سنوات عدّة. مثل هذا المؤتمر التأسيسي يفرض المثالثة بديلاً من المناصفة في وقت تبدو الطائفة السنّيّة، وهي عنوان التوازن والوسطيّة، خارج المعادلة السياسيّة اللبنانيّة. يترافق ذلك مع تجاذبات مسيحيّة تعبّر عن حال من الضياع في غياب جبهة لبنانيّة عريضة ترفع شعار الانتهاء من الاحتلال الإيراني بدل الرهان على انتخابات نيابيّة معروفة النتائج. يبدو “حزب الله” في طليعة المتحمّسين لمثل هذه الانتخابات التي سيستخدمها لتأكيد أنّه يمتلك الأكثريّة في مجلس النواب، تماماً كما حصل بعد انتخابات العام 2018!
عندما يقول رئيس الجمهورية اللبنانية، رئيس الدولة المسيحي الوحيد في منطقة ممتدّة من موريتانيا الإفريقية إلى باكستان والهند في آسيا، إنّ “المسيحية في لبنان بخير”، فهو يحاول التذاكي على الفاتيكان الذي يعرف أدقّ التفاصيل عن المسيحية في لبنان والمنطقة كلّها، وحال مسيحيّي لبنان، ودور ميشال عون في تهجيرهم من بلدهم بعد إفقارهم.
بيان الفاتيكان
يؤكّد ذلك البيان الصحافي الصادر عن الكرسي الرسولي الذي أشار إلى تطرّق رئيس الجمهورية في محادثاته مع البابا ومع أمين السرّ في دولة الفاتيكان ووزير الخارجيّة إلى “المشاكل الاجتماعية – الاقتصادية الخطيرة التي تعيشها البلاد، إضافة إلى أوضاع النازحين، على أمل أن تساهم مساعدة الجماعة الدوليّة، والانتخابات التشريعية المقبلة، والإصلاحات الضرورية في تعزيز التعايش السلمي بين مختلف المذاهب الدينية الموجودة في بلاد الأرز”. وختم بيان الفاتيكان مؤكّداً أنّ “المحادثات تناولت أيضاً النتائج الكارثية لانفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، مع الإشارة إلى مطالب عائلات الضحايا بإحلال العدالة والكشف عن الحقيقة”.
انتظر رئيس الجمهوريّة طويلاً قبل أن يحدّد له البابا فرنسيس موعداً. البابا رجل واقعي يعرف قبل غيره أنّ المسيحية في لبنان ليست بخير، وأنّ الوجود المسيحي في المنطقة كلّها مهدّد. كان كافياً أن يستقبل الحبر الأعظم قبل أشهر قليلة رؤساء الكنائس في المشرق العربي ليتأكّد من ذلك، وليدرك خصوصاً أن ليس لدى هؤلاء موقف موحّد من أيّ موضوع كان، بما في ذلك من حلف الأقلّيّات الذي تقف وراءه إيران التي لعبت دوراً أساسيّاً في تدمير لبنان والعيش المشترك فيه.
كشف لقاء البابا فرنسيس مع رؤساء الكنائس مدى تدهور وضع الوجود المسيحي في المشرق العربي. هناك بطريركان، أحدهم أرثوذكسي وآخر سرياني، حضرا إلى الفاتيكان للدفاع عن الحرب التي يشنّها بشّار الأسد على الشعب السوري، على الأكثريّة السنّيّة في سوريا، وعلى ما بقي من وجود مسيحي فيها…
لم تكن زيارة ميشال عون للفاتيكان سوى محاولة أخرى للهرب من الواقع الذي يعيش في ظلّه البلد. كشفت هذه الزيارة إلى أيّ حدّ يبدو رئيس الجمهوريّة، بهمومه الصغيرة العائلية، منفصلاً عن هذا الواقع اللبناني وعن الأزمة الحقيقية التي يمرّ فيها لبنان، والتي في أساسها تحوُّله إلى ورقة إيرانيّة لا أكثر.
الإحباط من لبنان
ما لا بدّ من ملاحظته أخيراً أنّ حالاً من الإحباط تسود في الفاتيكان، خصوصاً في ما يخصّ لبنان. ليس في البلد مَن يستطيع القيام بأيّ إصلاحات من أيّ نوع، لعلّ ذلك يساعد في تأمين مساعدات دوليّة وعربيّة له. هناك رئيس للجمهوريّة يرفض أخذ العلم بكارثة انهيار النظام المصرفي اللبناني وأبعاد هذا الانهيار وتأثيره على اللبنانيين عموماً، وعلى المسيحيين خصوصاً.
لم تفعل السلطة في لبنان شيئاً من أجل معالجة الوضع المصرفي كما لم تفعل شيئاً من أجل معرفة مَن وراء تفجير المرفأ. لم يكن من همّ لدى ميشال عون سوى استبعاد أيّ تحقيق دولي في جريمة المرفأ تفادياً لمعرفة الحقيقة.
إقرأ أيضاً: الفاتيكان سأل عون: أين الاستراتيجية الدفاعية وتحقيق لقمان سليم؟
كانت كلّ مخاوف الفاتيكان في محلّها. اكتشف الكرسي الرسولي، أخيراً، أنّه لا يستطيع القيام بأيّ تحرّك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه لبنانياً باستثناء إقناع ميشال عون بتفادي الفراغ في رئاسة الجمهوريّة عبر السعي إلى انتخاب خليفة له قبل انتهاء ولايته.
بدل الأخذ بنصيحة الفاتيكان، سيلجأ ميشال عون ومحيطه إلى الترويج للزيارة من منطلق أنّها تعويم له ولخياراته مع ما يعنيه ذلك من أخذ للبنان إلى مزيد من الخراب والانهيار والفراغ… في بلد لا المسيحية فيه بخير ولا المسيحيون بخير أيضاً.