ارتدادات المشهد السّوريّ على الإقليم

مدة القراءة 8 د

من أهمّ ارتدادات الزلزال السوري بشقّها الخارجي، تحريك أحجار أساسيّة في بنية التوازنات القائمة، التي تطال عمق دول الجوار ونفوذ ومصالح العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين هناك. ستظهر نتائج ذلك إلى العلن خلال السنوات الخمس المقبلة، وأوّل القلقين هم إيران والعراق ولبنان واليمن.

تعدّ القيادة في طهران لعمليّة “ردّ تراجعيّ” دفاعاً عن الباقي من مصالحها في المنطقة. خياراتها شبه معدومة، وتتمايل بين قرع أبواب الإدارة الأميركية الجديدة بحثاً عن تفاهمات يرافقها الكثير من التنازلات والتخلّي عن سياساتها الإقليمية، أو القفز إلى الأمام عبر التلويح بالمزيد من التصعيد وتوتير الأجواء من أجل حماية ما بقي بيدها من أوراق.

 

تراجع المشروع التركي الإقليمي في الرهان على دعم حراك “الربيع العربي” باتّجاه التغيير في المنطقة، فقرّرت أنقرة تبديل مواقفها وسياساتها العربية والغربية. على خطّ آخر، سقطت نظريّة الفوضى الإقليمية التي خطّطت لها إيران منذ الثمانينيات عبر التوغّل والتأثير العمودي والأفقي في 5 دول عربية، وذلك بعد اندلاع أحداث تشرين الأوّل 2023 في قطاع غزة وارتداداتها في لبنان وسوريا. بدلاً من تعلّم الدرس، وضعت طهران نفسها في مأزق الثورة المضادّة على الإقليم.

فرصة في رسم الخرائط

بالمقابل شعر بنيامين نتنياهو بأنّه المنتصر الأوّل نتيجة ما جرى، وأنّ من حقّه طرح مشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي الجديد بالمقاييس والمعايير التي يريدها، فواجهته إدارة دونالد ترامب بالحقائق التي تنتظره. منحت كلّ هذه المتغيّرات اللاعب العربي فرصة التأثير في رسم خرائط المسار الجديد في المنطقة، لكنّ العقبة كانت في التقاء المصالح وتوحيدها في التعامل مع الكثير من الملفّات والقضايا التي تعنيه هو بالدرجة الأولى.

الرهان هو من جديد على أن يقود اللاعب الأميركي، الذي يمثّله ترامب هذه المرّة، ضبط الإيقاع ويعلن خطط إعادة تقسيم الأدوار، بعد فشل إدارة جو بايدن على أكثر من جبهة إقليمية ودولية.

يعرف أحمد الشرع أنّ الجميع يحتاج إلى الانفتاح والتعاون مع سوريا المستقبلية، وأن لا مشكلة لناحية الاعتراف السياسي بالدولة الجديدة

تمسك واشنطن بورقة العقوبات الغربية على سوريا، التي كان من المفترض أن تنتهي مع سقوط نظام الأسد. لكنّ الإدارة الأميركية تريد تحريك هذه الورقة بالتقسيط ضدّ قيادات “هيئة تحرير الشام” من منطلق وجودها على لوائح الإرهاب، في محاولة لانتزاع الكثير من التنازلات الداخلية والخارجية، التي قد تصل إلى شرط التطبيع السوري الإسرائيلي بما يرضي تل أبيب ويوسّع رقعة قبولها في الإقليم.

يريد اللاعب الأميركي أيضاً استغلال المتغيّرات لتفعيل سيناريو سلام فلسطيني – إسرائيلي جديد، بعيداً عن الاتفاقات والعقود التي تعرّضت لأكثر من متغيّر ومساءلة في العقدين الأخيرين. حسم موضوع “قسد” وملفّ “داعش” في شرق الفرات على طاولة الرئيس الأميركي الجديد أيضاً. ستكون المقايضة مع أنقرة هنا بشقّها الإقليمي المرتبط بقبولها لقدر إيران الجديد، والعودة إلى مسار التطبيع مع إسرائيل، والمساهمة من جديد في التهدئة الأميركية – الروسية على خطّ القرم.

كيف ستستعدّ للمستقبل؟

من هنا، على إيران أن تستعدّ خلال السنوات القليلة المقبلة لمواجهة سيناريو إقليمي مشابه لما جرى في الثامن من كانون الأول المنصرم مع بشار الأسد، بدلاً من الذهاب وراء الرهان على “انتفاضة الشعب السوري الجديدة ضدّ الوضع الحالي بعدما أصبحت سوريا تحت سيطرة أكثر من خمس جماعات انفصالية وإرهابية، إلى جانب الاحتلال الأميركي والإسرائيلي والتركي”، كما تردّد القيادات الدينية والسياسية في طهران.

بالمقابل، على البعض التخلّي عن مقولة أنّه لم يعد هناك خطر سوريّ على إسرائيل بعد المتغيّرات السياسية والأمنيّة الأخيرة وإزاحة نظام الأسد وإخراج إيران من هناك. سيناريوهات الخطر الإسرائيلي على سوريا كان ينبغي أن تطرح وتناقش بما فيه الكفاية.

تبحث أنقرة عن المزيد من النفوذ الإقليمي، مستفيدة من تطوّرات المشهد السوري

تركيا استفادت من التّطوّرات

استفادت أنقرة حتماً من التطوّرات السياسية والأمنيّة في الإقليم. التقت مصالحها مع تل أبيب عند الحصيلة الأولى والأهمّ، وهي إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة. الكشف عن الصفقات الإقليمية التي سبقت إزاحة الأسد، هو وحده من سيساعدنا على معرفة الشقّ السياسي والأمنيّ الذي سبق ما جرى في الثامن من كانون الأوّل المنصرم في دمشق، والمقايضات المتبادلة التي فتحت الطريق على وسعها أمام إنجاز “هيئة تحرير الشام” لعمليّتها العسكرية الواسعة بهاتين السرعة والاحترافية.

الاستنتاج أو القناعة أنّ على تركيا أن لا تأخذ مكان إيران في سوريا، مبكر وغير دقيق. تبحث أنقرة عن المزيد من النفوذ الإقليمي، مستفيدة من تطوّرات المشهد السوري. وهي جاهزة للمقايضات وعقد الصفقات مع اللاعبين الذين يساعدونها على الوصول إلى ما تريد بالشقّ الاستراتيجي الذي يتضمّن التجارة والطاقة والأسواق والأمن، والذين سيشاركونها في الاستفادة من ثمار هذه المتغيّرات. طريق العبور والوصول واختصار المسافات قد تمرّ عبر الساحة السورية ومساعدة السوريين على إعادة بناء دولتهم المدمّرة.

حاجة المجتمع الدّوليّ للانفتاح على سوريا

يعرف أحمد الشرع أنّ الجميع يحتاج إلى الانفتاح والتعاون مع سوريا المستقبلية، وأن لا مشكلة لناحية الاعتراف السياسي بالدولة الجديدة. العقبة هي في إخراج “هيئة تحرير الشام” وقياداتها من لوائح الإرهاب الأميركية والأممية. يحاول الربط بين المسألتين لتثبيت نفوذه وإقناع اللاعبين الإقليميين والدوليين بهذه الصيغة السوريّة الجديدة. حراك القيادات السياسية والعسكرية والأمنيّة السورية باتّجاه الخارج، واستقبال العشرات من الوافدين، هدفه البحث عن صيغة تفاهمات منتصف الطريق مع مضمون وموادّ بيانات العقبة والالتفاف على التصلّب في المواقف المعلنة والإقناع بقبول الواقع الميداني السوري الجديد. تحاول دمشق الالتفاف على بيانات وتفاهمات قمّة العقبة العربية التركية الغربية، من خلال إقناع الموقّعين بضرورة مراجعة مواقفهم وسياساتهم حيالها.

سيناريوهات الخطر الإسرائيلي على سوريا كان ينبغي أن تطرح وتناقش بما فيه الكفاية

احتمال كبير أن يكون هدف الحراك الأردني الأخير على خطّ أكثر من عاصمة عربية، البحث عن مخرج يرضي الجميع ويفتح الطريق أمام الشرع في سوريا، وأن يكون هدف قرار تأخير الدعوة إلى انعقاد مؤتمر وطني سوري إتاحة الفرصة للشرع كي يثبّت أقدامه وسط الحلبة السياسية السورية، ويحظى بالاعتراف والقبول الإقليميَّين والدوليَّين بكونه لاعباً مؤثّراً على الأرض وسط المعادلات والتوازنات الجديدة.

سوريا

ذكّر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأولويّات تركيا في الملفّ السوري في ضوء المتغيّرات الحاصلة، وهي “الوقوف إلى جانب المظلومين في سوريا يُعدّ شرفاً كبيراً لتركيا”، لأنّ ما ينتظرهم “هو المستقبل الجميل”. وتابع: “تركيا قامت في هذا الصدد بما تقتضيه علاقات الجيرة والأخوّة من خلال استراتيجية نسجناها عقدة تلو أخرى طوال سنوات”. وأعلن أنّ تركيا تسعى إلى ضمان رفع العقوبات المفروضة على سوريا وإعادة إعمار بنيتها التحتية، “فعندما يتعافى الاقتصاد السوري، سيعود الملايين من أشقّائنا اللاجئين المنتشرين في العالم إلى وطنهم”.

ترامب يُخرج بلاده من الأزمات

بالمقابل يهمّ الرئيس دونالد ترامب الذي سيدخل البيت الأبيض بعد أقلّ من أسبوعين إخراج بلاده من أزمات ومستنقع الكثير من الملفّات الأمنيّة والسياسية في الشرق الأوسط. أولويّته هي عدم التفريط بمصالح أميركا الاقتصادية والتجارية هناك. إلى جانب الدفاع عن إسرائيل الشريك والحليف الأوّل لواشنطن في الإقليم. سيتمسّك بإبقاء الشرع وأعوانه على لوائح الإرهاب، لكنّ ذلك لم يمنعه من الوقوف خلف قرار إلغاء الفدية الأميركية لمن يساهم في الوصول إليه، وإرسال باربرا ليف نائبة وزير الخارجية الأميركي للقائه بعد ساعات على دخوله القصر الرئاسي السوري.

لن تسرّع واشنطن الاعتراف بما يجري في سوريا قبل جلاء غموض الصورة السياسية هناك، لكنّها لن تتريّث كثيراً، وستحاول تجنّب الأخطاء التي ارتكبتها في إيران ولبنان والعراق وأفغانستان. وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن هو من يعدّ لاجتماع روما مع وزراء خارجية أوروبيّين فاعلين في المشهد الإقليمي.

تمسك واشنطن بورقة العقوبات الغربية على سوريا، التي كان من المفترض أن تنتهي مع سقوط نظام الأسد

بغضّ النظر عن تناقض المواقف الروسية في السابع من كانون الأوّل المنصرم، بين إعلان الكرملين أنّ روسيا لن تدعم بشار الأسد في دمشق والساحل، ثمّ ذهاب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف باتّجاه آخر وهو يردّد أنّ موسكو ستدعم جيش النظام جوّاً، تبنّت روسيا سياسة التريّث وعدم الدخول في مواجهة مع القيادة السورية الجديدة في دمشق بعكس ما فعلته طهران. تتمسّك بمصالحها السوريّة ومحاولة إبقاء قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس على الرغم من تغيّر المعادلات الاستراتيجية في سوريا.

إقرأ أيضاً: تركيا – إيران: هل تتراجع طهران عن خطاياها؟

موسكو وواشنطن والعديد من العواصم الأوروبية يعوّلون على التنسيق مع اللاعب التركي الممسك بالكثير من أوراق اللعبة هناك هذه المرّة. فهل يواكب هذا الحراك تنسيق عربي حقيقي يقرّب المواقف ويوحّدها حيال الملفّ السوري؟ وهل نرى بعد ذلك خطوات اتّصال وتنسيق عربيَّين تركيَّين تُترجم إلى خطط ميدانية في سوريا؟

 

 لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

خيار “الحزب” وإيران… الارتداد على الدّاخل اللّبنانيّ؟

يبدو من الأسهل إقناع “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة بخسارة سوريا، أكثر من إقناعها بخسارة لبنان. هذا ما يكشفه الخطاب الأخير للأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم الذي…

 برّي: المسكون بهموم الطّائفة

في مختلف شوارع بيروت، الضاحية، والجنوب تُرفع صور لرئيس مجلس النواب نبيه برّي بوصفه “حامل الأمانة”. إنّه الزمن الأكثر اتّساقاً بين ظرف نبيه برّي في…

ماذا تريد السّعوديّة من لبنان؟

يردّد الناشر نهاد المشنوق دائماً على مسامعنا في اجتماعاتنا التحريريّة والسياسية، أنّ “هناك دول قرار وهناك دول أدوار”. يحذّرنا من الخلط في كتاباتنا بين مواقف…

ترسيم الحدود مع سوريا وتحدّيات القرارين 1680 و1701 (3/1)

بعد إبرام اتّفاق وقف إطلاق النار بين حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وحكومة بنيامين نتنياهو، الذي نصّ في بنده الأخير على تسوية نقاط الخلاف بشأن الحدود…