سيُجلَد السوريون واللبنانيون بالكثير من سياط الشماتة هذه الأيّام، وسيمضغون الكثير من مرارات الواقعية السياسية القاسية عليهم، بسبب ما ذاقوه طوال عقد من التوحّش الاستثنائي، الذي أطلقته أزمة سوريا.
فبشّار الأسد يستأنف عودته إلى الحضن العربي من أبوظبي، محمولاً على تفاهمات مصرية وأردنية وعراقية وإسرائيلية وربّما تركية.
خطاب الانتصارات الممانعاتيّة، سيقرأ في الانفتاح العربي على بشار الأسد فتحاً مبيناً للممانعة وخطابها ومشروعها.
عودة العرب إلى سوريا هو الخيار المرّ الوحيد المتاح لمحاولة تحرير دمشق (وبيروت) من الهيمنة الإيرانية التامّة
الكثرة الكاثرة من الانتصاريّين ترى في بقاء الأسد على رأس النظام دليلاً قاطعاً على هذا الانتصار. وفي ذلك اعتراف ضمنيّ بأنّ مقاييس العظمة بالنسبة لهذا العقل الانتصاري الممانع لا تتعلّق بأحوال البشر بل بأحوال النظام نفسه الذي عادة ما يتقلّص إلى حدود شخص بعينه. بهذا المعنى انتصر بشار الأسد. وانتصاره مرّ على كثيرين لم يحلموا بأكثر من بلاد ترقى فيها كرامة الإنسان إلى مرتبة أرفع قليلاً من الحيوانات، كما صدح صوت مواطن مسحوق يوماً ما وملأ الشاشات بشعار: “أنا ماني حيوان”!.
سيحتفل الانتصاريون بانتصاراتهم. بيد أنّ الحقيقة في مكان آخر تماماً.
في سوريا اليوم خمسة احتلالات جدّيّة. احتلال إسرائيلي، احتلال روسي، احتلال تركيّ، احتلال أميركي، واحتلال إيراني عبر الميليشيات المذهبية، ولا سيّما حزب الله. وفي سوريا أيضاً يعيش 83% من السكان تحت خط الفقر، ويتهدّد الجوع 60% من السوريين بسبب تضخّم أسعار السلع الغذائية، في حين أنّ وقود التدفئة والاستهلاك المنزلي والنقل بات من النوادر.
منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، وما تلاها من تدخّلات خارجية، خسرت سوريا الأسد أعزّ ما لديها من رأسمال سياسي بناه حافظ الأسد. البلد اللاعب صار البلد الملعب.
“الصراع على سوريا”
كلّ تعامل مع سوريا هو تعامل معها بصفتها ملعباً. “الصراع على سوريا”، بحسب العنوان الشهير لكتاب باتريك سيل، هو صراع مستمرّ الآن على سوريا كورقة في لحظة تنازع إقليمي وإعادة تشكُّل دولي شديدة التعقيد والغموض.
من توقيت الاستقبال في أبوظبي، إلى شكله الخالي من أيّ نوع من أنواع الفخامة والبهرجة (قارن مع استقبال الرئيسين التركي والإسرائيلي مثلاً)، يمكن الاستنتاج أنّ الباب المفتوح أمام الأسد هو اختبار دقيق وامتحان متعدّد المحطّات، وله أهداف تتجاوز سوريا نفسها، إلى شكل المنطقة المقبلة، وتوازناتها واصطفافاتها، ما بعد الاتفاق النووي الإيراني المرتقب، وما بعد حرب أوكرانيا وإفرازاتها وما بعد الاشتباك المتصاعد بين واشنطن وحلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، بمن فيهم إسرائيل.
اُختُبرت محاولات فصل سوريا عن إيران كثيراً قبل ذلك، وباءت كلّها بالفشل، في عزّ الحضور العربي في دمشق.
تتمّ إعادة التجربة الآن في ضوء وقائع مختلفة، على رأسها اتفاق السلام الإبراهيمي بين إسرائيل وكلّ من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، واحتمال جذب سوريا نحو شيء مشابه. وتتمّ أيضاً في ضوء سوريا محطّمة، تحتاج إلى مَن ينتشلها من القاع الصفصف الذي أوصلها إليه التوحّش الايراني ثمّ الروسي وبلاهة السياسة الخارجية الغربية، ولا سيّما الأميركية، التي تحتجّ على قتل السوريين بالبراميل المتفجّرة والأسلحة الكيمياوية ولا تمانع موتهم البطيء..
انتهت سوريا ثورةً ونظاماً، وبقي الأسد تحقيقاً للشعار الشهير: “الأسد أو نحرق البلد“.
عودة العرب إلى سوريا هو الخيار المرّ الوحيد المتاح لمحاولة تحرير دمشق (وبيروت) من الهيمنة الإيرانية التامّة، وتعطيل تحويل سوريا الإيرانية إلى منصّة عدوان مستمرّ على الأمن القومي العربي.
النجاح في ذلك غير مضمون، بل إنّ حظوظ الفشل أكبر بما لا يقاس. هكذا علّمتنا التجربة والسيرة الأسديّة.
إقرأ أيضاً: أوهام العرب ومتاهة الأسد
نجح العرب في العراق حتى الآن، وبات مصطفى الكاظمي يشكّل عنواناً لعراق مستقلّ وغير معادٍ لإيران. نجحوا في اليمن في صدّ آخر الهجمات الإيرانية في مأرب، ومنعوا إسقاط اليمن بكامله، وها هم يأتون بالحوثيّ إلى طاولة التفاوض والحلّ السياسي كما كان الموقف الخليجي منذ اليوم الأوّل.
لعلّهم في سوريا يستطيعون إدخال مكوّن عربي على مكوّنات الحلّ، ويضمنون صوتاً عربياً على الطاولة إلى جانب إيران وروسيا وتركيا وإسرائيل وأميركا. كلّ الخيارات الأخرى هي دعوة للسوريين إلى حفلة موت بطيء ومعزول.