أوكرانيا هزمت روسيا… في حرب المعلومات

مدة القراءة 9 د

بيتر سينغر (Peter Singer) – Politico

 

في الحرب الحديثة كما السياسة، يُعدّ فضاء المعلومات أحد أهمّ عناصر المعركة. ليس الحديث هنا عن الدعاية فقط. فإذا خرجت أفكارك علناً وتغلّبت، فهذا سيحدّد مواقف كلّ الشرائح، ابتداء من الجنود، والمدنيين، والمتفرّجين حول العالم الذين سينضمّون إلى قضيّتك، وصولاً إلى ما سيعتقده الناس عن حقيقة ما يحدث. أمّا إذا لم تنتصر أفكارك، فستخسر الحرب حتى قبل أن تبدأ.

في ساحة حرب المعلومات، يمكن القول إنّ فلاديمير بوتين كان الأكثر رهبة طوال العقد الماضي. فقد استشرس المحاربون الروس في مجال المعلوماتية لسنوات، حين اخترقوا الدول الديمقراطية وتدخّلوا في أكثر من 30 عملية انتخابية، فضلاً عن بثّ الأكاذيب عن لقاحات كورونا. وقدّم هؤلاء تبريراً للعمل العسكري الروسي في كلّ مكان، من جورجيا إلى سوريا.

تُظهر الاستطلاعات أنّ 70 في المئة من الأوكرانيين يعتقدون الآن أنّ جيشهم هو الجانب الذي سيفوز بالحرب، على الرغم من عدم تكافؤ القوة القتالية الحقيقية مع الروس، وفقدان الأراضي

لكن عندما حان الوقت لواحدة من أكثر عمليّات بوتين طموحاً وأهميّةً على الإطلاق، وهي غزو أوكرانيا، فشلت روسيا في الجانب الإعلامي بقدر ما فشلت في خطتها للاستيلاء السريع على العاصمة الأوكرانية كييف. وفي حين أنّ قوات بوتين قد تكون قادرة على تغيير حظوظها العسكرية في الميدان عن طريق إرسال المزيد من الصواريخ والدبابات والقوات للتغلّب على مقاومة المدن الأوكرانية، إلا أنّها لا تملك مثل هذه الفرصة في مجال حرب المعلومات. وعلى عكس الادّعاءات القائلة بأنّ من السابق لأوانه تحديد هويّة المنتصر الآن بطريقة ما، فإنّ أوكرانيا لا تربح فقط معركة كسب القلوب والعقول عبر الإنترنت، بل إنّها فازت بالفعل بما أسمّيه أنا والآخرون #LikeWar، أي اختراق الشبكات الاجتماعية ليس من خلال البرمجيّات الضارّة، بل من خلال التسليح الفعّال لوسائل التواصل الاجتماعي بالنقرات، والإعجابات، والمشاركات. والآن فات الأوان بالنسبة لروسيا لتغيير السرديّة الراهنة.

يمكن إيراد عناصر الحملة الأوكرانية الناجحة في مجال المعلومات وفق النقاط التالية:

أوّلاً: شنّ حملة استباقية على المزاعم الروسية بدلاً من انتظارها ثمّ دحضها. كانت روسيا تحتكر مجال المعلومات في الماضي، وتمتلك زمام المبادرة في الوقت المحدّد، وفي القصة التي تختارها. وكانت رسالتها تصل إلى الجماهير من دون ردّ. وغالباً ما كانت عمليّاتها المادّية تتماشى مع الحوادث المخطّط لها مسبقاً، ومع الاستفزازات الوهمية المستخدمة لتبرير العمل العسكري الروسي، مع إرباك المراقبين المحليين والدوليين حول ما كان يحدث بالضبط. وهو ما حدث إبّان هجوم روسيا عام 2014 على أوكرانيا، على سبيل المثال، إذ أطلقت موسكو آنذاك قصصاً مختلَقة عن فظائع مختلفة، مثل صلب الجنود الأوكرانيين صبيّاً في الثالثة من عمره. هذه المرّة، لم يحاول خصوم روسيا فضح مزاعمها بعد وقوعها (وهو أمر لا ينجح عادةً)، بل كانت لديهم استراتيجية “فضح روسيا مسبقاً”. أنُشئت شبكة متعدّدة الأوجه من خلال التخطيط المقصود والتنسيق غير الرسمي. وتضمّنت حسابات وسائل التواصل الاجتماعي للوكالات الحكومية الأوكرانية، والقادة، وحسابات الوكالات، والقادة من دول الناتو، وخاصة من دول البلطيق وبريطانيا. وانطوت أيضاً على جهود الوكالات المتعدّدة داخل إدارة بايدن، وهي تجمع بين البنتاغون، ووزارة الخارجية، ومجتمع الاستخبارات. وعُزّزت الشبكة بتحالف عريض عبر الإنترنت من نشطاء الديمقراطية ومتعقّبي OSINT (استخبارات المصادر المتاحة).

ثانياً: إبراز البطولات الأوكرانية. فمن بين أهمّ القصص المبكرة، حكاية “شبح كييف”#ghostofkiev ، أو الطيار الأوكراني الذي تصدّى وحده للجبروت الروسي (داود ضدّ جالوت وفق النصّ الديني). كان هذا ضروريّاً لحشد الأوكرانيين في الساعات الأولى من القتال. (نظيره التاريخي هو إدوارد أوهير (Edward O’Hare)، الذي سُمّي مطار شيكاغو باسمه. أصبح أوّل بطل قومي أميركي في الحرب العالمية الثانية من ضمن جهد مقصود لرفع المعنويات عندما كانت في أدنى مستوى لها بالنسبة إلى أميركا خلال الحرب). الحكاية الأوكرانية هي على الأرجح مزيج من الحقيقة والمبالغة (أُسقطت الطائرات الروسية بالتأكيد، لكنّ ما بقي قيد النزاع هو عدد الطائرات: هل هو ستّ طائرات بواسطة طيّار واحد؟). تأثير القصة هو ما يهمّ في النهاية. وسواء أكان ذلك جيّداً أو سيّئاً، فإنّ الرواج يتفوّق على الصدق في الحرب عبر الإنترنت.

ثالثاً: ترتيب الأوراق بالطريقة الصحيحة. إذ تتوافق قصص البطولة مع التركيز بشكل انتقائي على حقائق معيّنة لتشكيل وجهة نظر محدّدة للقصة الإجمالية. كانت أوكرانيا قادرة على تشكيل الرواية المبكرة للحرب بكاملها. على سبيل المثال، بينما أظهرت الخريطة استيلاء القوات الروسية على مناطق واسعة من أوكرانيا بوتيرة مماثلة للمراحل الأولى من الغزو الأميركي للعراق، ركّز عالم الإنترنت بدلاً من ذلك على أفعال الوحدات الصغيرة، مثل الهزيمة المبكرة للهجوم الروسي على مطار هوستوميل، الذي يضمّ بضع مئات من الجنود فقط.

رابعاً: تحويل الشهداء إلى أساطير: فبالإضافة إلى الإشادة بأبطالها الذين انتصروا على الرغم من كلّ الصعاب، حرصت أوكرانيا أيضاً على نشر قصص أولئك الذين قضوا في القتال المبكر. فحكاية التضحية تضيف نبالة لقضية ما، وتثير أيضاً مزيجاً من التعاطف والغضب. وكانت إحدى أكثر قصص التضحية انتشاراً التسجيل الصوتي للمدافعين الأوكرانيين القلائل عن “جزيرة الأفعى Zmiinyi”، الذين تحدّوا الروس قائلين: “Go Fuck Yourself ” عندما طُلب منهم الاستسلام.

خامساً: إظهار رجل من الشعب. قبل الحرب، لم يكن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي معروفاً كثيراً خارج بلاده. ولم يكن يحظى بالشعبية داخل أوكرانيا. فبحسب استطلاعات الرأي لم يكن يتمتّع هو وحزبه إلا بتأييد 23 في المئة فقط من الشعب. في الأساس، كان هو الأقلّ شعبية بين مجموعة من القادة الأوكرانيين الذين لا يتمتّعون بشعبية كبيرة، وسط انعدام الثقة بالحكومة بشكل عامّ. ربّما تكون هذه الديناميكيات السياسية قد أغرت بوتين، فاعتقد بأنّ اندفاعة عسكرية طفيفة وحسب يمكن أن تُسقط النظام.

لكن بعد أسبوع واحد فقط، أصبح زيلينسكي رمزاً عالمياً، ويؤيّده 91% من الأوكرانيين. تولّى الممثّل السابق ذلك من خلال تصرّفات شخصية شجاعة، واستعمال ماهر للرسائل المرئية. مفتاح النجاح هو كيفيّة أدائه وتعاطيه مع شرائح متعدّدة في وقت واحد: إحداها هو الشعب والجنود الأوكرانيون، إذ قدّم زيلينسكي مثالاً نادراً جدّاً لقائد باقٍ معهم. يشاركهم المخاطر نفسها حرفيّاً في الشوارع والخنادق.

سادساً: إفساح المجال أكثر لنشر أخبار الضرر اللاحق بالمدنيين. لقد تعزّزت عدالة القضية الأوكرانية بالتدفّق المستمرّ للرسائل عن الضرر الجسيم الذي تسبّب به القتال للمدنيين العاديّين. تزعم روسيا أنّ دافعها للغزو هو إنقاذ المدنيين من الفظائع، ومن القمع المفترض لنظام النازيين الجدد (بطريقة ما يقوده يهوديٌّ هو زيلينسكي، لكنّ الروس وضعوا ذلك جانباً).

سابعاً: تضخيم المقاومة المدنية. ومع ذلك، فإنّ الدور المدني في المقاومة لم يكن لعب دور الضحيّة فقط. مثل كثير من الحروب، يدور القتال في أوكرانيا حول الشرعية السياسية. لذا ثبت أنّ من المهمّ جدّاً بالنسبة إلى أوكرانيا أن تُظهر ليس فقط جنودها في الميدان، بل أيضاً مواطنيها الذين يكافحون من أجل وطنهم. في رواية المقاومة الشعبية، أثبتت التناقضات الصارخة أنّها الأقوى. والأكثر شهرة حتى الآن، هو مقطع الفيديو على اليوتيوب لامرأة أوكرانية مُسنّة تهاجم الجنود الروس المسلّحين، وتقول لهم: “ضع بذور عبّاد الشمس في جيبك حتى تنمو عندما تموت”.

ثامناً: تشجيع الآخرين على القفز إلى عربتك. كلّ هذه الرسائل الإعلامية تدور في الحقيقة حول الدافع. وكما يعلم أيّ مسوِّق للأفكار أو ما شابه ذلك، فإنّ أحد أكثر المشاعر فاعليّة هو الرغبة في الانضمام إلى شيء مشهور، يُعرف أيضاً باسم “”bandwagoning. أصبحت الدولة الصغيرة التي تتعرّض للهجوم قضية شائعة ومتنامية، ويمكن الانضمام إليها أيضاً. وتراوح المساهمات التي يمكن لك تقديمها بين التجنيد المباشر في القتال (يقال إنّ أكثر من 16 ألف مقاتل أجنبي، بما في ذلك 3 آلاف من الولايات المتحدة، قد تطوّعوا مع القوات الأوكرانية، وكثير منهم من قدامى المحاربين في العراق وأفغانستان)، وتقديم المال حتى بالعملة المشفّرة.

تاسعاً: إضفاء الطابع الإنساني على جانبك. هناك مفارقة أنّه في عالم الإنترنت، حيث يجري تخطيط وتنظيم الكثير ممّا تقدّمه، وصولاً إلى الإضاءة المناسبة من أجل الإنستاغرام، تبقى الأصالة في الواقع هي عملة العالم. فكلّما أظهرت نفسك “حقيقيّاً”، زادت احتمالية فوز رسالتك. وإدراكاً منهم لذلك، بذل الأوكرانيون جهوداً متواصلة لإضفاء الطابع الإنساني على جانبهم، وبناء التعاطف معهم. إنّ إظهار تقارب الآراء على الرغم من البُعد المكاني، يعزّز الإحساس المهمّ بأنّ هؤلاء الأشخاص الموجودين على بُعد آلاف الأميال، والذين لم نلتقِ بهم من قبل، هم مثلنا تماماً، ولذا هم يستحقّون رعايتنا ودعمنا.

عاشراً: استعمال السخرية. ومن الأمثلة على ذلك، عرض الأوكرانيّين لأسرى حرب من الجنود الروس غير المهيّئين لمثل هذه الفيديوهات، والاستهزاء بهم. هذا لم يعزّز فقط الروايات المذكورة أعلاه عن انتصارات الأوكرانيين من منظور إنساني، لكنّه أظهر أيضاً عدوّاً ليس مخيفاً في الواقع.

إقرأ أيضاً: وقف الحرب: حياد أوكرانيا.. وحفظ ماء وجه بوتين

هل نجحت أوكرانيا؟

كان تضافر هذه الجهود نجاحاً مذهلاً داخل أوكرانيا وبكلّ المقاييس. وممّا يثبت ذلك حقيقة أنّ الدولة والمجتمع الأوكرانيّيْن لم ينهارا بالطريقة التي كانت روسيا تأمل حدوثها في الأيام القليلة الأولى من القتال. في الواقع، إلى جانب التأرجح السريع في استطلاعات الرأي التي أجراها زيلينسكي، تُظهر الاستطلاعات أنّ 70 في المئة من الأوكرانيين يعتقدون الآن أنّ جيشهم هو الجانب الذي سيفوز بالحرب، على الرغم من عدم تكافؤ القوة القتالية الحقيقية مع الروس، وفقدان الأراضي. يجعل هذا التفاوت جبهات حرب المعلومات ضرورية لأوكرانيا. وبغضّ النظر عن شجاعة شعبها ومواقفه، فإنّ الفرصة الوحيدة لدى أوكرانيا هي النجاح في تجنيد العالم الخارجي في معركتها. وهنا تكسب أوكرانيا.

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…