رائد خوري: لا إصلاح قبل قوننة فصل “الفريش” عن “اللولار”

مدة القراءة 7 د

مع كلّ يوم يمرّ، ومع اقترابنا من الاستحقاق الانتخابي، يسقط من ذاكرتنا عنوان الإصلاح. كان هذا الملف والانتخابات الركيزتين الأساسيّتين اللتين تشكّلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بعنوان “معاً للإنقاذ” من أجل العمل عليهما. فالأول (الإصلاح) مؤجّل إلى ما بعد الثاني (الانتخابات)، والثاني يبدو أنّ المجتمع الدولي فَقَد حماسته له، بعدما تلمّس ضعف الجماعات الثورية وتخبّطها، وبعد كارثة الحرب الروسية على أوكرانيا والقارّة الأوروبية التي حرفت الأنظار عن الشرق الأوسط ومشاكله.

لكن دعنا من الانتخابات الآن، ولنعُد إلى الإصلاح. فما يمكن استخلاصه من الجولات السابقة مع صندوق النقد الدولي، ومن المعلومات المستقاة من أقرب المقرّبين من هذا الملف، بسيط ولا يتطلّب جهداً كبيراً للاستيعاب: “بعدنا ع البرّ… ولا جديد”.

خوري في حديث لـ”أساس”: الاحصاءات الانتخابية تشير إلى أنّ نسبة كبيرة من الناس “غير مبالية بالانتخابات”، وهذا سيصبّ في مصلحة السلطة حكماً

يضرب مصدر مصرفي كبير لـ”أساس” مثالاً طريفاً لتشبيه علاقتنا مع صندوق النقد اليوم، فيقول: “لبنان عريس قرّر أن يدقّ باب أهل العروس (صندوق النقد) ليطلب يدها (المساعدة)، لكن لا العروس ولا والدها يعلمان بمضمون هذه الزيارة. نحن قرعنا الباب وننتظر استقبالنا كضيف، فيما أهل البيت لا يعلمون ماذا في جعبتنا من عروض وحجج. وعليه، من غير المستبعد أن يطرد والد العروس هذا العريس السيّء الحال بعد أوّل لقاء. لكن من المرجّح أيضاً أن يُكثر وليّ أمر العروس من الطلبات، فيهشل العريس من تلقاء نفسه”.

هجرة المستثمرين والمقتدرين

يكشف وزير الاقتصاد الأسبق رائد خوري في حديث لـ”أساس” أنّ الاحصاءات الانتخابية تشير إلى أنّ نسبة كبيرة من الناس “غير مبالية بالانتخابات”، وهذا سيصبّ في مصلحة السلطة حكماً. لكن إن كانت هذه السلطة تفتقر إلى الشرعية، فكيف ستتمكّن من اتّخاذ إجراءات إصلاحية جدّية وقاسية من هذا النوع؟

يمكن القول إنّ لبنان بات “لا يملك مقوّمات دولة”، بحسب خوري. وتكمن المشكلة الكبرى التي تواجه الاقتصاد اللبناني في هجرة رؤوس الأموال، وخصوصاً هجرة الطبقة الوسطى المرتاحة وجموع المتعلّمين. هؤلاء في نظر خوري هم “الركيزة الأساسية للقيام مجدّداً بالبلد وإنهاضه”. فهذه الطبقة إذا غادرت لبنان لن تعود إليه بسهولة، وخصوصاً “بعد الضربة التي تلقّتها في القطاع المصرفي”.

على الرغم ممّا حصل لهذا القطاع ومن تخبّط السلطة المتواصل منذ سنتين إلى اليوم، يبدو أنّ السلطة النقدية والمالية في لبنان عادت إلى اللعبة نفسها: “حماية سعر الصرف من خلال حرق الدولارات”.

يعتبر خوري أنّ “حماية سعر الصرف اليوم هي من باب “الترقيع”، وربّما من أجل تمرير الانتخابات”، متمنّياً لو تُستخدَم الدولارات في ما هو أهمّ وأكثر إفادة للاقتصاد، مثل دعم الصناعة أو الزراعة، خصوصاً أنّ تثبيت الصرف “ليس حلّاً طويل الأمد، وينافي منطق السوق في العرض والطلب، ومكروه من صندوق النقد الدولي”، ويقول: “أحرقنا نحو 150 مليار دولار في سياسة التثبيت السابقة، وكانت سبباً رئيسياً من أسباب الأزمة… ألم يكن ذلك كافياً؟”.

سيعني الانهيار الكلّي حكماً تحوّلنا إلى الاقتصاد الكاش، ويعني أيضاً تحوّلنا إلى اقتصاد يشبه اقتصادات دول مثل فنزويلا وإيران… وهذا حتماً خراب للبنان واللبنانيين

لا حلول قريبة

أمّا عن الحلّ الأنجع في ظلّ هذه الظروف، فلا يبدو قريباً، إذ يرسم خوري مشهداً تشاؤميّاً، فيعتبر أن “لا حلّ لأزمتنا قبل وضع خطة جدّيّة تخبرنا عن كيفية دعم القطاعات كلّها”. هذه الخطة في نظر وزير الاقتصاد الأسبق قد تطول وتمتدّ إلى “ما بين 5 أو 10 سنوات، لكن للأسف، لا أحد في هذه السلطة يتحدّث عن حلول ولا عن بدائل، وجلّ ما يقدرون عليه هو زيادة الضرائب، التي هي سلاح ذو حدّين لأنّها ستزيد الأعباء على الناس والمؤسسات، وستؤدّي إلى تراجع الاستهلاك وإلى تراجع العمل وزيادة البطالة وإقفال المؤسسات. يعني زيادة الضرائب هي زيادة في التراجع وليس العكس”.

بالعودة إلى جذور الأزمة، فإنّ أولى الخطوات الخاطئة للسلطة في لبنان كانت إعلان “التعثّر”، أي التوقف عن سداد الديون. مسألة لا يفوّت المصرفيّون أيّ مناسبة للعودة إليها في حديثهم مع أيّ وسيلة إعلامية. يعتبرون أنّ القرار الكارثي “عزل لبنان عن العالم”، وليس عن الدول العربية ودول الخليج. فبعد إعلان التعثّر في حكومة حسان دياب “فقدنا المنافذ إلى الدولارات، إن كان عبر القطاع الخاص (مستثمرين ومودعين جدد من الخارج) أو حتّى القطاع العام (ودائع كبرى على شكل مساعدات)”، فتوسّعت الأزمة على مدى السنتين الماضيتين.

لكن ما الحلّ اليوم؟

يرى خوري أنّه “بخلاف التسوية السياسية، فإنّ لبنان بحاجة أيضاً إلى تسوية مالية – نقدية. تسوية من نوع آخر تعيد فتح البلاد أمام الجميع، وهذا لا بدّ منه من أجل خلق انطلاقة جديدة. لكن يبدو أنّها صعبة، وذلك بسبب السلطة المنهمكة بالكيد والحرتقة والمحاصصة”. ويؤكّد خوري أنّه “يستحيل استنهاض البلد من جديد وسط هذا السلوك، خصوصاً أنّ في المقلب الآخر جماعة (الثورة والمجتمع المدني) يبدون أشدّ ضياعاً من فريق السلطة نفسه”.

بعيداً عن السياسات الكبرى ورسم الخطط ذات الأمد الطويل، يتبنّى خوري حلّاً متواضعاً قد يكون في نظره “كوّة في حائط الأزمة الأصمّ”. ينطلق هذا الحلّ من سنّ قانون يميّز بين عملتيْ “اللولار” (الدولارات المصرفية المحتجزة) و”الدولار الفريش”، لأنّ اعتراف الجميع (الدولة، مصرف لبنان، المصارف، والمواطنين) ضمنيّاً بوجود هاتين العملتين في السوق، “غير كافٍ ولا يؤسّس لانطلاقة اقتصادية جديدة”.

يضرب خوري مثالاً على ذلك ومدى أهمّيّته في تحريك العجلة الاقتصادية مجدّداً، فيقول إنّ وظيفة المصارف اليوم باتت شبيهة بـ”حصّالة نقود. صندوق يسحب منه المودعون الأموال ولا يضعون فيه أيّ شي”، خصوصاً بعدما أمسى مجرّداً من بقية وظائفه (تسليف، توظيف…إلخ).

لا تجرؤ المصارف على منح الديون لأنّها إذا أقرضت الناس بالدولار “الفريش”، فلا قانون يضمن لها الحصول على أموالها “فريش” أيضاً. فإذا ردّ العميل هذه الأموال بعملة “اللولار” أو بموجب شيك، يُعتبر “قانوناً” بريء الذمّة. لذلك تحتاج المصارف إلى قانون “يميّز بين العملتين ليحفظ حقوق الجميع”. هذا القانون غير موجود في مسوّدات “الكابيتال كونترول” المتعاقبة، وإن لم يُسنّ ضمن هذا القانون، فلن نتقدمّ لأنّ هذا المبدأ “من الأساسيّات في أيّ إصلاح أو إطلاق للعجلة الاقتصادية”.

إقرأ أيضاً: ودائع سورية تعرّض المصارف اللبنانية للعقوبات..

لكن يبدو أنّ السلطة تفضّل ترك الأمور على هذا الشكل: “بعل”، أو “سايرة والربّ راعيها”. هي لا تريد الاعتراف بأنّها سبب الأزمة، وتقول إنّها مصمّمة على إعادة أموال المودعين كاملة. ولهذا كلّه، يدعو خوري إلى الحفاظ على ما تبقّى من بعد هذه التراكمات كلّها، وأقلّه التخفيف من وقع هذه التراكمات من خلال حماية القطاع المصرفي لأنّه “آخر ما تبقّى”. خصوصاً أنّ سَوْق المصارف كلّها بالعصا نفسها غير عادل، “ومش كلّن يعني كلّن”، فالثقة بهذا القطاع “انهارت ولم يبقَ إلاّ الهيكل… فلنحافظ عليه”.

سيعني الانهيار الكلّي حكماً تحوّلنا إلى الاقتصاد الكاش، ويعني أيضاً تحوّلنا إلى اقتصاد يشبه اقتصادات دول مثل فنزويلا وإيران… وهذا حتماً خراب للبنان واللبنانيين.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…