استحالة المقاطعة: لا مكان للسنّة خارج الدولة

مدة القراءة 6 د

يمرّ السُنّة في لبنان والمنطقة بمرحلة تحوُّلات كبرى على الصعد السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. المشروع الإيراني سوّى مدنهم بالأرض في سوريا، وضرب دورهم في العراق، وأنهى حكمهم في اليمن، وحاصر قياداتهم وأحرجها حتّى أخرجها من لبنان.

لكنّهم أبناء الدولة وأصحابها تاريخيّاً، بخلاف الجماعات الأخرى التي لها تاريخ طويل في الخروج على الدولة، بدافع الثورات أو خوض المعارك.

نماذج الدور السنّيّ في بناء الدولة كثيرة بغضّ النظر عمّا إذا كان المرء يتّفق معها أو يختلف

تاريخيّاً كان السُنّة بناة الدول والمحافظون عليها. وفي لبنان لا مكان لهم خارج الدولة. لم ينجرفوا في ثورة أو انقلاب. باب دورهم في السراي الحكومي. خارج السلطة لم يذهب سنّة لبنان لتسليم رايتهم إلى المتطرّفين، من جماعات سير الضنيّة، إلى “القاعدة”، ثم “داعش”. ظلّ سنّة لبنان خارج الموجات التي ضربت المنطقة. تطرّف الجميع، وظلّوا على اعتدالهم وتمسّكهم بالدولة، وباتفاق الطائف، زبدة الدولة وخلاصتها.

واليوم يتقدّم نموذج الدولة الوطنية في المنطقة، من مصر بقيادة الرئيس عبد التفاح السيسي، إلى الإمارات التي تقدّم نموذجاً متقدّماً على مستوى العالم، إلى المملكة العربية السعودية التي ترسم خططاً للمستقبل. وفي لبنان لا يحيد السنّة عن هذا التيار الوطني. يتمسّكون بالدولة حتّى وقيادتهم تغرق، وفقراؤهم مفلسون وجائعون، وطبقتهم الوسطى تترنّح.

نماذج الدور السنّيّ في بناء الدولة كثيرة بغضّ النظر عمّا إذا كان المرء يتّفق معها أو يختلف. عربياً، تتقدّم مصر بنى مصر الحديثة محمد علي باشا وليس على أساس ديني أو سنّي. والدولة الحالية هي دولة عسكرية وليست دولة سنيّة بكونها النموذج الأمثل للدولة، البعيدة عن كلّ الحسابات الدينية أو غيرها. وقدرة المصريّين على الالتفاف حول دولتهم والإيمان بها لا يضاهيهما اهتمام آخر. حقّقت دول الخليج تقدُّمها وتطوُّرها من خلال تطوّر دور المؤسسات الدولتيّة فيها، وتحقيق فوائض في النموّ وفي الاستثمارات.

حتّى تركيا التي تُعتبر ذات أكثرية سنّيّة، أو بالنسبة إلى دول في آسيا كماليزيا وسنغافورة وباكستان وغيرها الكثير. على عكس القيادية الشيعية الأساسية في العالم، أي ملالي إيران، الذين عندما سيطروا على دولة معيّنة، كما هو الحال في إيران مثلاً، حوّلوها إلى مصدِّرة للثورة، وجعلوا بلادهم مصنع ثورات عابرة للحدود لا تقف عند حدود وطنية، ولم يُبقوا فيها مؤسسات ترمز إلى الدولة. بل استبدلوا الجيش بالحرس الثوري، والقطاعات والمؤسسات الاقتصادية بخيارات أخرى كالمراقد الدينية التي يسيطر عليها رجال الدين أو القطاعات الاقتصادية التي يسيطر عليها الحرس الثوري.

هي مقدّمة ضرورية للانتقال إلى الداخل اللبناني، حيث تكثر دعوات بعض قصّار النظر إلى مقاطعة الانتخابات النيابية. بما تعنيه هذه المقاطعة من الخروج من بنية الدولة ومؤسساتها، وعدم المشاركة في تقرير مصيرها أو إبداء الرأي بالحدّ الأدنى، والتفريط بـ”الدولة السنيّة العميقة” في المناصب الأولى التي تعيّن من السلطة السياسية. أي الخروج من الحكم، الذي لا مكان للسنّة اللبنانيين خارجهم.

لا يمكن للسُنّة في لبنان أن ينخرطوا في مشروع المقاطعة، خصوصاً أن لا بدائل ثورية لديهم، وأنّ خصومهم الذين يسعون إلى تهميشهم هم مَن سيستفيدون

الثورة هي البديل؟

غالباً ما تكون الدعوات إلى مقاطعة الانتخابات نتيجة أحد أمرين:

– إمّا الاستعداد للقيام بثورة عارمة من أجل تأسيس دولة جديدة، وهذه مقوّماتها غير متوافرة وغير واضحة لدى السُنّة في لبنان.

– وإمّا استسلام كامل للخصم، وتسليم للدور الوطني السنّي إلى إيران وحلفائها. وإما ردّت فعل سلبية على خسارة ذات طابع سياسي أو شخصي تُهدي الانتصار للخصوم الذين يتعارض مشروعهم مع مشروع الدولة.

لذلك لا يمكن للسُنّة في لبنان أن ينخرطوا في مشروع المقاطعة، خصوصاً أن لا بدائل ثورية لديهم، وأنّ خصومهم الذين يسعون إلى تهميشهم هم مَن سيستفيدون. والأخطر من ذلك أن تتركّز المقاطعة في العاصمة بيروت، حيث موقع القرار والخيار. إذ إنّ أيّ مقاطعة سيستفيد منها حزب الله والتيار الوطني الحرّ، فيما سيجد السُنّة أنفسهم مضطرّين إلى السير في ركب الطرفين للحفاظ على مواقعهم في الدولة. وسيجد الموظفون وعناصر “الدولة العميقة” أنفسهم مضطرّين للجوء السياسي إلى “الآخر”، للحفاظ على وظائفهم ومواقعهم. كذلك سيصير هذا “الآخر” باب الخدمات.

وإذا كان العمل السياسي في لبنان يتألّف من ثالوث “الموقف السياسي والمال أو التمويل، والخدمات في مؤسسات الدولة”، فإنّ الموقف موجود، وفي غياب المال، لا بدّ من الحفاظ على بعض أبواب الخدمات.  

أمّا سُنّة الأطراف فهم في وضع أفضل لجهة قدرتهم على التماهي مع بيئاتهم ومجتمعاتهم في خوض الانتخابات. لذلك تتركّز الخطورة على بيروت التي تتعرّض لمشروع جهنّمي يهدف إلى تفريغها من تاريخها ومضمونها كجوهرة في هذا الشرق، وكأرضية سياسية كبيرة للثقل التغييري في المنطقة.

تنطلق الحرب ضدّ بيروت من حقد قديم، يلتقي عليه بعض قيادات حزب الله الشيعة وبعض زعماء الموارنة، بما اختصرهما “مولانا” الدكتور رضوان السيد بأنّه تحالف “راديكاليتين، شيعية ومارونية”. تتفقان على محاولة إعادة الاعتبار لبعبدا وجبل لبنان.

هناك حقد على بيروت، حتّى أصبح المرور في بيروت موحشاً في المساء والليل، وبدت كأنّها مهجورة بلا كهرباء ولا أضواء ولا شوارع حيّة، على عكس الوضع في مدن الأطراف، أو في جبل لبنان مثلاً، أو حتى في الضاحية الجنوبية. بدأ هذا المشروع منذ الاعتصام الشهير الذي نفّذه حزب الله في قلب العاصمة في العام 2006، واستمرّ الشلل فيها إلى اليوم، وحتى عندما عادت تنبض في 17 تشرين كان التخريب والتدمير أمرين لا بدّ منهما لإعادة إطفائها.

هذا وحده يكفي لتحفيز البيارتة على تبيان موقفهم وقول كلمتهم، خصوصاً أنّه لا يمكنهم مقاطعة الانتخابات كما فعل المسيحيون في العام 1992.

إقرأ أيضاً: قَدَر الدروز: القلق دائم!

لنتذكر أنّه عندما صدر قرار بسحق السُنّة سياسياً وعسكرياً في لبنان في الثمانينيّات من خلال ضرب “المرابطون” وإنهائهم، لم ينجح أيّ طرف داخلي أو خارجي في إبعاد السُنّة عن المعادلة السياسية، ولا إخراجهم من الدولة، وحتى الاتفاق الثلاثي الذي عُقِد في العام 1986 برعاية علويّة، وكان ذا صيغة أقلّويّة تجمع الدروز والشيعة والمسيحيين، لم يُكتب له الاستمرار والنجاح لأنّه كان على حساب السُنّة. السُنّة لم يُكسروا، بل استعادوا دورهم ومجدهم على يد رفيق الحريري الذي أُريد للبنان وبيروت أن يُدفنا معه، لكن لا يمكن الاستسلام لهذا الواقع من خلال تكريس الهزيمة بالمقاطعة.

المقاطعة ليست الحلّ. الحلّ بأن يذهب السنّة إلى الانتخابات ليحافظوا على علاقتهم بالدولة. فلا مكان لهم خارجها.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…