خطف الهجوم الروسي على أوكرانيا اهتمام العالم من أقصاه إلى أقصاه، وباتت القضايا الأخرى حول العالم ثانوية أو تحظى باهتمام ومتابعة أقلّ. حتّى لبنان الغارق في أزماته السياسيّة والاقتصادية بدا مشدوداً على المستويين السياسي والإعلامي إلى متابعة هذا الحدث العالمي الخطير الذي يُعدّ أسوأ أزمة دولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
اتّكاء روسيا في غزوها أوكرانيا على رواية تاريخية ذاتية تشكّك في أصالة الكيان الأوكراني يتماثل في أذهان الغالبية اللبنانية مع تشكيك النظام السوري في أصالة الكيان اللبناني. وإن كان دخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1976 حصل تحت غطاء محلّي وإقليمي ودولي.
كذلك ذكّرت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بالغزو العراقي للكويت بالنظر إلى تشكيك النظام العراقي آنذاك بالشرعية التاريخية لدولة الكويت. وإن كان الغزو الأميركي والبريطاني للعراق يحضر الآن أيضاً بالنظر إلى تماثله مع الغزو الروسي لأوكرانيا لناحية خرق الغزوين هذين للقانون الدولي.
لبنان الغارق في أزماته السياسيّة والاقتصادية بدا مشدوداً إلى متابعة هذا الحدث العالمي الخطير الذي يُعدّ أسوأ أزمة دولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية
من جانب آخر، لا ينحصر الاهتمام اللبناني بالحدث الأوكراني بارتدادات الحرب على إمدادات القمح الأوكراني إلى لبنان ولا بارتفاع سعر برميل النفط الذي ينذر بارتفاع إضافي في أسعار المحروقات في البلاد. فالهجوم الروسي على أوكرانيا الذي يرفع سقوف الصراع الغربي – الروسي إلى مستويات غير مسبوقة، ويؤسّس لتكريس متغيّرات جوهرية في “النظام العالمي”، ستكون له حكماً تبعات جيوسياسية على الواقع اللبناني.
صحيح أنّ خريطة التحالفات الإقليمية – الدولية في الشرق الأوسط لم تعد هي نفسها أيّام الحرب الباردة، حين كانت دول المنطقة منقسمة إلى حدّ بعيد بين المعسكرين الغربي والشرقي، إذ إنّ الحضور الروسي والصيني المتزايد في المنطقة يجعل الاصطفافات الإقليمية إزاء الحدث الأوكراني المتحفظة بعض الشيء.
لكنّ الصحيح أيضاً أنّ “التجرّؤ” الروسي على الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية سيجعل أعداء واشنطن في المنطقة أكثر “جرأة” في تهديد مصالح أميركا وحلفائها التقليديين في المنطقة، ولا سيّما الدول العربية الخليجية وإسرائيل، ولو كانت علاقات هذه الدول مع كلّ من روسيا والصين تتوسّع باطّراد.
أوباما والغوطة وإيران ولبنان
هذا يحيل إلى استعادة إحجام إدارة الرئيس باراك أوباما عن قصف قواعد النظام السوري في العام 2013 ردّاً على قصف بشّار الأسد غوطة دمشق بالأسلحة الكيمياوية حيث قتل المئات اختناقاً. وذلك بعدما كان أوباما نفسه قد قال إنّ قصفاً كهذا يُعدّ تجاوزاً للخطوط الحمراء ويستدعي ردّاً عسكرياً أميركياً فوريّاً.
إلّا أنّ شيئاً من ذلك لم يحدث. وقد كان نكث أوباما بتهديده محطّة مفصليّة في مسار الحرب السورية، إذ فتح الباب أمام إقدام النظام السوري وحلفائه على سحق معارضيهم، ثمّ تدخّلت روسيا مباشرة بالحرب السورية بعدما أيقنت حدود دفاع واشنطن عن المعارضة السورية.
رغبة الرئيس فلاديمير بوتين الجامحة في استخدام القوّة العسكرية لإسقاط الستاتيكو الجيوسياسي القائم في أوروبا الشرقية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ستدفع الدول “غير المنضبطة” في المنطقة، وعلى رأسها إيران وأذرعها المنتشرة من صنعاء إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، إلى استعراض قوّتها العسكرية ايضاً، ولا سيّما في لحظة الاقتراب، أكثر من أيّ وقت مضى، من إنجاز الاتفاق في مفاوضات فيينا.
يبالغ الحزب في تضخيم حجم المعركة الانتخابية ضدّه في حين أنّ خصومه التقليديّين ما يزالون متفرّقين، لا بل يخوضون المعركة الانتخابية بعضهم ضدّ البعض الآخر
بيد أنّ حصول طهران على هذا الاتفاق لا يعني أنّها ستغيّر سلوكها العدائي في المنطقة، بل على العكس فإنّها ستزداد “جرأةً” في تهديد استقرار المنطقة، وخصوصاً في الخليج، أقلّه إلى حين خلق وقائع جيوسياسية ضامنة ومكرِّسة لنفوذها التوسّعي في الإقليم.
لذلك فإنّ الطائرة المسيّرة التي أطلقها حزب الله باتجاه إسرائيل، والتي تذكّر بالطائرات المسيّرة التي يطلقها الحوثيون باتجاه المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدّة، تأتي ترجمة للرغبة الإيرانية في استعراض القوة. وذلك في وقت يرسل حزب الله، ومن ورائه طهران، إشارات متباينة حول ملفّ ترسيم الحدود الجنوبية. وهل كان رئيس الجمهورية ميشال عون ليتخلّص من “الخط 29” لولا موافقة الحزب الضمنيّة التي تُعدّ رسالة إيجابية من قبل الحزب وإيران للأميركيين الوسطاء في هذا الملفّ؟ وهو ما يحيل إلى الإشارات المتباينة التي ترسلها إيران إلى دول الخليج العربية حول اهتمامها بالحوار معها فيما تواصل ميليشياتها قصف الأراضي السعودية والإماراتية.
“الطائرة الانتخابيّة”
إلّا أنّ الهدف من استعراض الحزب لـ”قوّته الجويّة” الآن لا يقتصر على موجبات سياسات إيران الإقليمية. فالحزب الذي يُظهر يوماً بعد يوم استشراساً سياسياً وانتخابياً قبل نحو ثلاثة أشهر على موعد الانتخابات النيابية، يوظّف كلّ طاقاته وأدواته العسكرية والأمنيّة والسياسية لتعبئة جمهوره وحلفائه بغية الفوز في هذه الانتخابات.
لذلك يحاول الحزب تهيئة مناخ سياسي ونفسيّ مؤاتٍ لحملته الانتخابية التي يهدف فيها إلى تحقيق هدفين: أوّلهما حثّ “بيئة المقاومة” على الاقتراع بكثافة للوائحه، وثانيهما توحيد حلفائه في لوائح مشتركة. وهو ما يفسّر حرص الحزب على إظهار نفسه في موقع قوّة إقليمي وداخلي بالتوازي مع رفعه السقف السياسيّ للمعركة الانتخابية إلى أقصاه وصولاً إلى اعتبارها بمنزلة “حرب تمّوز سياسيّة”.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا ولبنان: تقاسم لعنة الجغرافيا والتاريخ
في الواقع يبالغ الحزب في تضخيم حجم المعركة الانتخابية ضدّه في حين أنّ خصومه التقليديّين ما يزالون متفرّقين، لا بل يخوضون المعركة الانتخابية بعضهم ضدّ البعض الآخر في ظلّ القانون الانتخابي “الخبيث” والمجعول لهذه الغاية تحديداً.