خلال الأسابيع الماضية فشل تنظيم داعش مجدّداً في تهريب مئات من مسلّحيه المحتجَزين شرق سوريا، وقُتل زعيم التنظيم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في عملية عسكرية أميركية في منزله غير الملحوظ في بلدة أطمة بمحافظة إدلب في شمال غرب سوريا.
ومع تلقّي التنظيم مزيداً من الضربات، شهدت قدرات التنظيم تراجعاً ملحوظاً في ممارسة الانتهاكات المروّعة التي كان يرتكبها بحقّ المدنيين، ومنها خطف الآلاف الذين أصبحوا في عداد المفقودين.
اليوم مع انهيار التنظيم، لم تعد عائلات المغيَّبين من قبل التنظيم خائفة من الانتقام، وباتت قادرة على التحدّث علناً عن أحبّائها المفقودين، وباتت اليوم أكثر إلحاحاً في معرفة أماكن وجود آلاف الأشخاص الذين غيّبهم التنظيم خلال فترة هيمنته على مساحات شاسعة من العراق وسوريا.
بعض عائلات المفقودين، التي التقاها “أساس”، قالت إنّها كانت تأمل أن تؤدّي هزيمة داعش ومقتل قياداته إلى الحصول بسرعة على معلومات عن أقاربها، لكنّ سلسلة من التأخيرات والتقاعسات عن كشف مصير المفقودين في سوريا من قبل قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي وضعت عقبات كبيرة في طريقها.
في هذا التقرير المعمّق يكشف “أساس” عن مصير مُختفي داعش ومُختطَفيها.
لم تعد عائلات المغيَّبين من قبل التنظيم خائفة من الانتقام، وباتت قادرة على التحدّث علناً عن أحبّائها المفقودين، وباتت اليوم أكثر إلحاحاً في معرفة أماكن وجود آلاف الأشخاص الذين غيّبهم التنظيم
تقاعس عن كشف المصير
ماذا فعل داعش بالأشخاص بعد اعتقالهم أو اختطافهم؟
تقدّم الفيديوهات التي نشرها تنظيم داعش إجابات أوّليّة عن مصير المئات، إذ تبيّن أنّه نفّذ إعدامات خارج القانون بحقّ المحتجزين لديه. في حالات أخرى، قصف التحالف الدولي أو التحالف العسكري السوري-الروسي المنشآت، التي استخدمها داعش كمعتقلات، للقضاء عليه، الأمر الذي أودى بحياة البعض. باستثناء مَن فرّوا أثناء الفوضى التي أعقبت القصف. أما بالنسبة للآلاف الذين فُقدوا على يد داعش، فلا يزال مكانهم ومصيرهم مجهوليْن.
في العام 2013، اُختُطف إسماعيل الحامض، وهو طبيب سوري قاد الحراك الثوري ضدّ النظام السوري في مدينة الرقّة بشمال شرق سوريا، التي أصبحت فيما بعد مقرّ ما يُسمّى بخلافة تنظيم “داعش”. كان اختطاف الحامض إحدى آلاف حالات الاختطاف التي نفّذها التنظيم المسلّح لسحق المقاومة خلال امتداد حكمه على مساحات شاسعة من العراق وسوريا.
بقي مصير الحامض غامضاً إلى اليوم، على الرغم من دحر التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة داعش من آخر معاقله في سوريا في آذار الماضي 2019. كان لدى أُسر ضحايا داعش أمل كبير بأن تساعدها السلطات المحليّة ودول التحالف في العثور على أحبّائها المفقودين. لكنّ التحالف والقوات الكردية التي تسيطر على المنطقة الآن لم يفعلوا شيئاً يُذكر بهدف معرفة مصير آلاف المدنيين.
وقد ذكر أفراد بعض هذه العائلات الذين تحدّثوا إلى “أساس” أنّ بعضاً من عائلات المختفين ممّن يقطنون في المنطقة قد ذهبوا مراراً وتكراراً إلى مسؤولي “قسد” لطلب معلومات عن أحبّائهم، لكنّهم لم يتلقّوا أيّ مساعدة.
المزيد من الأسى
زرع تنطيم داعش لسنوات الرعب ليس فقط من خلال القتل والاستيلاء على الأرض، لكن أيضاً من خلال حملات الخطف والاحتجاز. شكّل العديد من هؤلاء المختطَفين عصب الحياة في مجتمعاتهم، مثل الدكتور الحامض. وفي كثير من الحالات كان يُنظر إليهم على أنّهم يقاومون الخلافة. في المقابل، الشباب والصحافيون الذين كرّسوا حياتهم لفضح انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، والسكّان الذين حاولوا حماية مجتمعاتهم، خسروا حياتهم. دفعت أسرهم مدّخراتها وعرّضت سلامتها للخطر في محاولة للحصول على إجابة عن سؤال واحد: ماذا حدث لابني، أخي، أختي، زوجتي، ابن عمي؟
هائلُ هو حجم قضية التغييب. وعلى الرغم من استحالة تحديد عدد المفقودين بدقّة من دون إجراء تحقيق كامل وتفصيلي، إلا أنّ الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثّقت في تقرير ما لا يقلّ عن ثمانية آلاف و684 شخصاً، بينهم 319 طفلاً و255 سيدة (أنثى بالغة)، لا يزالون قيد الاختفاء القسري لدى التنظيم.
يقول بعض الأهالي الذين التقاهم “أساس” إنّ كلّ يوم يمرّ يعني مزيداً من الأسى بالنسبة للأهالي ومخاطرة بضياع أو تدمير المزيد من الأدلّة المهمّة، وهو ما يقضي على فرص الأهالي في معرفة مصير أحبّائهم إلى الأبد، خاصة أنّ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وشركاءه الميدانيّين “قوات سوريا الديمقراطية” لم يفوا بالتزاماتهم بالعثور على المغيَّبين.
حديث الصورة: مقاتلو تنظيم داعش في عرض عسكري في شوارع بشمالي الرقّة في سوريا عام 2014.
بالتزامن مع حالة الضياع التي يعيشها الأهالي، اُكتُشف أكثر من 20 مقبرة جماعية تحوي آلاف الجثث في المناطق التي كان يسيطر عليها داعش. في بعض المناطق، ولا سيّما الرقّة، بدأت الفرق المحليّة باستخراج الجثث، لكنّ الدعم والموارد المخصّصة لجهودها لم تكن كافية. لا تتوافر حماية للمواقع وفقاً لأفضل الممارسات الدولية، وهو ما يضرّ بفرص الأسر في التعرّف على أقاربها. في 2018 و2019، رافق حقوقيون أعضاء من “فريق الاستجابة الأوّليّ” في الرقّة، وهو المجموعة المسؤولة عن فتح المقابر الجماعية وانتشال الجثث في جميع أنحاء المحافظة، وراقبوا منهج عملهم وهم يفتحون مقبرة جماعية في ملعب الرشيد في مدينة الرقّة، فتبيّن لهم أنّ أساليب الفريق البسيطة وغياب الإجراءات الموحّدة كان من شأنه أن يهدّد معلومات قيّمة تساعد في تحديد هويّة المفقودين، وهو ما يزيد من مأساة العائلات التي تبحث عن أحبّائها.
وعلى الرغم من أنّ معظم المعتقلين كانوا من الرجال، إلا أنّ تنظيم داعش اعتقل وخطف النساء أيضاً، ومنهنّ سمر صالح (25 عاماً آنذاك) التي اُعتُقلت في بداية آب 2013 بسبب نشاطها الثوري عندما كانت عائدة مع خطيبها محمد العمر من زيارة عائلية في سيارة. أوقفتهما سيارة لتنظيم داعش في ريف حلب وأخذ عناصر التنظيم صالح ومحمد. سرعان ما علمت الأسرة أنّ الخاطفين هم من داعش، وأخبر مسؤولون من التنظيم عائلة الصالح بأنّهم سيطلقون سراحها قريباً بعد تحقيق روتيني، إلا أنّها منذ ذلك الحين ما تزال مختفية مع خطيبها محمد، ومصيرهما مجهول.
ماذا حدث للمفقودين؟
أكثر ما تتمنّاه عائلات المفقودين اليوم هو الحصول على معلومات لمعرفة ما حدث لهم، خاصة مع اقتراب التنظيم من نهايته مع خسارته قيادته ومسلّحيه والأراضي التي كان يسيطر عليها.
وبهدف توحيد الجهود أطلقت عائلات الأسرى السوريين لدى تنظيم “داعش” منذ 2018 حملة إلكترونية، عنوانها “أين مختطَفو داعش؟”، أشارت إلى أنّ مئات، وربّما آلاف الأشخاص، لا يزالون مفقودين، على الرغم من تراجع أعضاء التنظيم في مناطق عدّة.
بعد هزيمة قوات داعش في سوريا والعراق وجد السكان المحليون سجون التنظيم ومعتقلاته خالية. حتّى سجنا الرقّة الرئيسيّان: الملعب البلدي وقصر المحافظ: كانا خاليَيْن.
وفقاً لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وجد بعض النشطاء وثائق بشكل مستقلّ ونشروها على الإنترنت، لكنّها كانت مجزّأة للغاية ولم يتمّ جمعها من منطقة واحدة. من المحتمل أن يكون داعش قد دمّر أيّة أدلّة على ما حدث في سجونه، وخاصة أدلّة الإعدام. من الممكن أيضاً أن تكون الأدلّة قد اندثرت إثر قصف التحالف الذي قادته الولايات المتحدة. في 15 آذار 2017، استهدفت قوات التحالف سجن البرج في مدينة الطبقة قرب الرقّة، وأسفر هذا الهجوم عن مقتل بعض الأشخاص في داخله.
يشير عدد من الخبراء بينهم سارة كيالي بملفّ المختفين في سوريا الذين تواصل معهم “أساس” إلى أنّ بعض المختطَفين والمختفين سابقاً عند تنظيم داعش هم اليوم محتجَزون لدى النظام السوري أو القوات الكردية أو التحالف، وقد حدث ذلك في أثناء الفوضى التي أعقبت هزيمة داعش، إذ ظنّوا خطأ أنّهم أعضاء في التنظيم فيما هم فعلاً من ضحاياه، وتمّ وضعهم في السجون مجدّداً، وقُتل بعضهم ودُفن في المقابر الجماعية.
تقول كيالي، وهي باحثة سوريّة، في تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش: “على السلطات المحلية في المناطق السورية التي كانت تحت سيطرة داعش أن تجعل مخطوفي داعش أولويّة. مع هزيمة داعش ووجود العديد من المشتبه بهم في الاحتجاز، أصبحت السلطات قادرة على الوصول إلى المنطقة والمعلومات التي تحتاج إليها. ما يلزم الآن هو الإرادة السياسية للعثور على إجابات”.
حديث الصورة: حملة سابقة على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل هاشتاغ “أين مختطفو داعش”، بغرض الضغط على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، للكشف عن مصير الناشطين المعتقلين في سجون التنظيم منذ سنوات.
في حين قدّم المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة بعض التمويل لتحقيق الاستقرار في المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية، إلا أنّ محنة المغيّبين لم تكن بين الأولويّات. يقول الأهالي إنّه لا يمكن إحراز أيّ تقدّم نحو مستقبل أكثر سلاماً في سوريا إلى أن تحصل عائلات المغيّبين على إجابات عن مصير أحبّائها.
149 ألفاً في سجون النظام
من جهة أخرى، يشكّل المفقودون عند تنظيم داعش الجزء الأصغر مقارنة بالمفقودين في سجون النظام السور. وقد بلغ عددهم نحو 149 ألفاً و862 شخصاً ما زالوا معتقلين منذ عام 2011، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
وكحال المختفين عند تنظيم داعش حتى الآن، يبقى مصير عشرات آلاف المعتقلين لدى النظام السوري مجهولاً، بالتزامن مع فشل المجتمع الدولي في هذا الملف. في مقابل ذلك، لا تزال عائلات المعتقلين تعمل على إيجاد آليّة لمعرفة مصير أقربائها، ومحاولة إيجاد طرق للإفراج عنهم، أو الوصول إلى معلومات تخصّ حالتهم.
ويشكّل الخوف لدى الأهالي من ذكر أسماء معتقليهم في حملات المطالبة والمحاسبة والتوثيق التحدّي الأساسي للمنظمات المعنيّة بالتحرّك من أجل المعتقلين.
حديث الصورة: العشرات يتظاهرون أمام البرلمان الأوروبي للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام السوري (“عائلات من أجل الحريّة”).
مجموعة ناشطين حقوقيين أطلقت حملة بعنوان “لا تخذلوهم”، للمطالبة بتحريك ملف المعتقلين من خلال جهات دولية وأممية وحقوقية وسياسية.
والجدير ذكره أنّ جرائم القتل والتعذيب والاختفاء القسري والإعدامات تُنفَّذ في سجون النظام السوري منذ العام 2011، ولاحقاً على أيدي تنظيم داعش، كجزء من هجوم منهجيّ ومتواصل ضدّ السكان المدنيين. وتصل الانتهاكات المرتكبة في السجون السورية وسجون التنظيم إلى مستوى جرائم ضدّ الإنسانية.
ويطالب أهالي المعتقلين والمختطَفين بوضع حدّ للرعب في سجون النظام السوري من خلال المبادرة فوراً إلى إطلاق سراح المعتقلين وتشكيل لجنة من مراقبين مستقلّين للتحقيق في ما يحدث في مراكز الاحتجاز الوحشية في سوريا.
إقرأ أيضاً: مقتل القرشي: انشقاقات في داعش… حول خلافته؟