لم يتوقّف رصد تداعيات انكفاء الرئيس سعد الحريري على المشهدين الانتخابي والسياسي، ورسم معالم مرحلة مقبلة من دون آل الحريري وتيار المستقبل.
سريعاً طُرِحت تساؤلات عن ارتدادات هذا الزلزال على مكامن انغماس “الحريرية” منذ التسعينيّات في عمق “السيستم”: في الإدارات العامّة والتوظيفات والتعيينات… و”الحاضنة الأمنيّة”.
بحكم “التركيبة” إيّاها المتعارَف عليها التي أفرزت جهازاً أمنيّاً لكلّ طائفة، لا يمكن عزل تأثير “انسحاب” الحريري على العديد من القيادات الأمنيّة القريبة من بيت الوسط وعلى المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي، وتحديداً شعبة المعلومات.
يجزم مصدر مطّلع لـ”أساس” أنّ “تعليق الحريري العمل السياسي لن يكون له تأثير على آليّة العمل داخل جهاز أمنيّ خرج منذ سنوات طويلة من كنف “التابعيّة”
سيكون بديهياً التساؤل مَن سيقرّر بعد اليوم “الكوتا” الحريرية الأمنيّة في مختلف الأجهزة التي كان لـ”الحريريَّيْن”، من الشهيد رفيق إلى وريثه السياسي سعد، القرار الحاسم فيها.
عثمان باقٍ
تتقاطع المعطيات على أن لا تعيينات شاملة أو حتى جزئيّة (في القضاء والأمن وعلى مستوى مديرين عامّين…) قد “تقطّعها” حكومة نجيب ميقاتي قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون.
يأتي ذلك بعدما لوّحت أوساط بعبدا مراراً بسعيها إلى إقرار تعيينات تطيح برؤوس قضائية كبيرة مروراً بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وصولاً إلى المدير العامّ لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان.
خاض العونيون مواجهة علنيّة مع عثمان حين كان سعد الحريري رئيساً للحكومة في عهد التسوية الرئاسية وصلت إلى حدّ طرح اقتراح “المناصفة” في الوظائف داخل قوى الأمن الداخلي، من ضمن تحصيل حقوق المسيحيين، والمطالبة علناً بإقالة عثمان.
انتهى الأمر بتراجع جبران باسيل وبقاء عثمان و”تطيير” مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس الذي كان إحدى أدوات المواجهة مع عثمان وشعبة المعلومات.
لا تأثير لانسحاب سعد
يجزم مصدر مطّلع لـ”أساس” أنّ “تعليق الحريري العمل السياسي لن يكون له تأثير على آليّة العمل داخل جهاز أمنيّ خرج منذ سنوات طويلة من كنف “التابعيّة”، بالمفهوم السياسي، لأيّ مرجعيّة أو بيت سياسي لـ”يشتغل أمن” على مستوى وطني عامّ. وآخر النماذج كشف شبكات التجسّس الإسرائيلية التي تُعدّ إنجازاً نوعيّاً لشعبة المعلومات، بالتزامن مع اختراقات كبيرة على مستوى مكافحة الإرهاب وتوقيف شبكات اتّجار بالمخدِّرات وضبط “البضاعة” ومصادرتها في سياق عمليات بالغة الحرفيّة والحساسيّة”.
يضيف المصدر: “أمّا بالنسبة للمدير العامّ لقوى الأمن الداخلي فهو باقٍ في موقعه. ومكتبه المفتوح للكلّ، من دون استثناء، لم يتعاطَ يوماً مع الأمن بوصفه “وديعة” حريريّة في قوى الأمن حتى لو كان نتاج خيار سعد الحريري، الذي دعم تعيينه رئيساً لشعبة المعلومات عام 2012 خلفاً للّواء وسام الحسن، ثمّ مديراً عامّاً لقوى الأمن الداخلي عام 2017″.
ويُنقل عن اللواء عثمان قوله: “أنا أخدم في السلك منذ 38 عاماً ليس لأنّي محسوب على طرف سياسي، بل لأنّي محسوب على الدولة. ولم أشتغل من موقعي على رأس المديرية كي أنفّذ أجندة حزبية. “لي الشرف” أنّي خدمت إلى جانب الرجل الوطني الكبير رفيق الحريري الذي رأيت فيه مشروعاً إنقاذيّاً للبلد. “وما حدن بيقدر يهتّني بشي”. ولا أستحي من هذا الأمر ولا من العديد من صداقاتي من كلّ الاتجاهات”، مؤكّداً: “لسنا جهازاً أمنيّاً متروكاً، لكنّ مديرية قوى الأمن تُحارَب أحياناً كثيرة من منطلق غير وطني ولأسباب سياسية في سياق تنفيذ أجندات”.
وفيما تتردّد معطيات عن احتمال حصول تغييرات أمنيّة بالتزامن مع انكفاء الحريري، يُنقل عن عثمان قوله: “أنا لا أتخلّى عن مسؤوليّاتي لآخر لحظة، ولا أضعف، ولا أستجدي البقاء ولا أقدّم تنازلات لأحد”.
يُنقل عن اللواء عثمان قوله: “أنا أخدم في السلك منذ 38 عاماً ليس لأنّي محسوب على طرف سياسي، بل لأنّي محسوب على الدولة”
شعبة المعلومات… “الشغل ماشي”
في السياق نفسه، يرى كثيرون أنّ الأجندة الأمنيّة لشعبة المعلومات ورئيسها العميد خالد حمود لا تتأثّر بأيّ مطبّات سياسية حتى لو كانت من وزن إقفال بيت الوسط.
مضى أكثر من عشر سنوات على اغتيال رئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن في 19 تشرين الأول 2012 عايشت خلالها “الشعبة” تدريجياً مراحل سياسية اختلفت جذريّاً عمّا كانت عليه الحال حين كان المنتج الأمني “الحريري” يحظى باهتمام عربي استثنائي، من حيث التمويل عبر الأقنية الرسمية ورعاية سياسية بحكم الفرز الداخلي الحادّ بين محورين.
على الرغم من أنّ اللواء الحسن طَبع “الشعبة” بشخصيّته وشبكة علاقاته الواسعة، إلا أنّ القريبين من الحسن كانوا يجزمون دوماً أنّه جَهد كي تستمرّ مؤسّسة “المعلومات” بغضّ النظر عن الأشخاص… وهكذا كان.
من عماد عثمان إلى خالد حمود و”الشعبة” تتحرّر تدريجياً من ثقل العباءة السياسية. حتى التعيينات الأمنيّة داخل “الشعبة” تتمّ بمعزل عن أيّ “وصاية” أو فرض أسماء. والقيادات السياسية تعلم ذلك جيداً.
تكاد تكون “الشعبة” حلقة مغلقة على نفسها “تشتغل” وفق “سيستم” صارم لا يتأثّر بتغيّر الأشخاص ويسيّرها عامل “الضابط المحترف في المكان المناسب”. وهذا ما يفسّر أحياناً حصول “مناقلات” بصورة سرّيّة تماماً بما تقتضيه مصلحة العمل الأمني.
رسالة دول الخليج
يقول مصدر أمني لـ “أساس”: “التوتّر بين لبنان ودول الخليج اليوم سياسي بامتياز، وهو عبارة عن مسار من التراكمات. وفي كلّ مرّة تزداد وتيرة الاعتراضات الخليجية، تحديداً، في مسائل تهريب المخدّرات، فإنّ الرسالة الخليجية الأساسية تكون ضدّ استمرار جماعات لبنانية مستفيدة بتهريب الكبتاغون، وليس اعتراضاً على عمل الأجهزة الأمنيّة، وتحديداً شعبة المعلومات التي لم تتوقّف عن القيام بالمطلوب بمعزل عن التطوّرات السياسية”.
وقد شكّل اللواء عثمان مع العميد حمود وكلّ فروع “الشعبة” نواة المنظومة الأمنيّة وغيرها من المكاتب المعنية التي باتت تراكم إنجازات تشهد لها الأجهزة الأمنيّة الخارجية الأوروبية والأميركية والخليجية، إضافة إلى كسبها ثقة قضاة كبار بسبب حرفيّة تقاريرها وتحقيقاتها الجدّيّة.
هكذا يصبح الحديث عن خروج الحريري من الحلبة السياسية أو بقائه تفصيلاً وحسب لا تتأثّر “المنظومة” الأمنيّة المتماسكة بتداعياته.
أربع جبهات
تعمل “شعبة المعلومات” منذ سنوات بالتوازي وبالتركيز الأمني نفسه على أربعة محاور أساسية:
– مكافحة الإرهاب: عبر تسجيل عشرات العمليات الاستباقية والوقائية “النظيفة”. تُثبَّت في البيانات الصادرة عن قوى الأمن الداخلي بالوقائع والتواريخ والأدلّة. ومن أهمّ العمليّات القضاء على مجموعة داعشية في بلدة نائية في وادي خالد في أيلول 2020، وهو ما أدّى إلى قتل جميع أفرادها في عمليّة أمنيّة حسّاسة أفضت إلى اندلاع ما يشبه المواجهة العسكرية. وكانت الخليّة مرتبطة بمنفّذي جريمة كفتون، وقد أُوقف وقُتل جميع المشاركين فيها. المجموعة الكاملة كانت مؤلّفة من 32 شخصاً، والجيش أوقف 16 منها، إضافة إلى قتيلين.
– مكافحة التجسّس: آخر العمليات النوعية الاستثنائية توقيفات بلغت نحو 20 خلال شهر واحد لمتورّطين بالتعامل مع الموساد، وهو ما اعتبر تفكيكاً لأكبر شبكات التجسّس الإسرائيلية منذ 2005. وعلى الرغم من بعض العراقيل يستمرّ عمل “الشعبة” في تقفّي آثار بقيّة المتورّطين ضمن سياق عمل تقني وميداني بالغ التعقيد.
– مكافحة الفساد: من داخل المؤسسة وخارجها. آخر النماذج صدور مذكّرة توقيف وجاهيّة بحق الرئيس السابق لمكتب مكافحة المخدّرات المركزي هنري منصور بعد مسار من الملاحقة بتهم فساد وسرقة مخدّرات وإساءة استخدام السلطة. وهو يتوّج سلسلة من الملاحقات بتهم فساد بحقّ عشرات الضبّاط والعسكر أعاقتها أحياناً التدخّلات السياسية، لكنّها لم تمنع المحاسبة.
إقرأ أيضاً: حكومة الـ”لا تعيينات”: الشغور يتسلّل إلى المجلس العسكري
– العمل الجنائي عبر مكافحة الجريمة (تجارة المخدّرات، خطف، سرقة، عمليات احتيال…). بعض هذه العمليات حصل في قلب ضاحية بيروت الجنوبية وفي مناطق حسّاسة، مثل بعلبك ومناطق حدودية. ويُسجّل للشعبة بعض التوقيفات في مجال الجرائم والخطف مقابل فدية في سرعة قياسية كانت أحياناً لا تتعدّى ساعاتٍ أو أيّاماً قليلة مع استرداد المخطوفين ومن دون دفع الفدية. مع العلم أنّ “نشاط” الشعبة في ملاحقة شبكات تهريب المخدّرات لم يتراخَ بمعزل عن أيّ تطوّر سياسي. ودخلت في ظلّ الأزمة الحالية على خطّ مكافحة تهريب المازوت والبنزين والأدوية ومواجهة احتكار هذه الموادّ من قبل المستوردين و”مافياتهم”.