منحت المبادرة، التي تقدّم بها وزير خارجية الكويت، فرصة إضافية للحكم في لبنان ليستفيق، بعدما أظهر الواقع أنّ الحكّام العرب أكثر حرصاً على لبنان من حكّامه المنغمسين في صراعاتهم وفسادهم ومقايضتهم السكوت عن سلاح حزب الله بتغطية السلاح لمواقعهم حتى لو تقهقر اللبنانيون إلى ما هو أسوأ “من جهنّم”.
أعلن وزير خارجية الكويت بدبلوماسية موصوفة الجواب الذي تلقّاه من ترويكا الحكم في بيروت، معتبراً أنّ صياغته وتقديمه يمثّلان بحدّ ذاتهما “عملاً إيجابياً”. غير أنّ جواب الرؤساء الثلاثة، وإن دُوّنت كلماته على أوراق تُبيّن زوراً أنّه صدر عن جهة رسمية، فما هو إلا ردّ حزب الله على المبادرة الخليجية.
دول الخليج تنتظر من لبنان إجراءاتٍ عمليّة تُظهر التزاماً جدّيّاً بما قدّمه في ردّه. فإنْ كان لبنان قد فضح عمليّة من عمليّات التهريب، هذا لا يمنع أنّه تغاضى عن عشرات غيرها
تعمّد حكّام لبنان، كعادتهم في الردّ على مبادرات يطرحها الأخوة العرب والمجتمع الدولي، “اللفّ والدوران” وتغطية تحالفهم مع حزب الله. لكنّ حزب الله، قبل الردّ الذي حمله وزير الخارجية عبد الله بو حبيب إلى دولة الكويت، كان قد صاغ جوابه مسبقاً قبل أسابيع، حين نظّم في ضاحيته مؤتمراً للمعارضة البحرينية، تلاه مؤتمر معادٍ للسعودية، وقبلهما بسنوات أنشأ إذاعة وتلفزيوناً للحوثيّين يبثّان من لبنان، بالتزامن مع إرساله ضبّاطه إلى اليمن لتدريب الحوثيين وتعليمهم استخدام المسيَّرات وتجميع الصواريخ الباليستية وإطلاقها على المدنيين في دول الخليج. قد كشف التحالف الدولي عن دور مسؤولين في حزب الله بإطلاق مسيّرات من مطار صنعاء لضرب أهداف في المملكة العربية السعودية.
أمّا خليّة العبدلي (حزب الله) التي كُشفتها القوات الأمنية في الكويت قبل سنوات، وكانت مجهّزة بالأسلحة والمتفجّرات وآلاف البدلات العسكرية، في ما يشبه التحضير لانقلاب عسكري كبير، فلم تُنسَ بعد. إضافة إلى خطف طائرات وقتل ركّابها على أرض مطار الكويت، ودور حزب الله في تفجيرات الخُبَر في عام 1996 حين كان الحزب يجاهر بـ”مقاومته إسرائيل” فيما كان مشروعه ضمناً ولا يزال موجّهاً ضدّ العرب بالدرجة الأولى.
العداء للعرب
من الواضح أنّ معاداة المنطقة العربية ودولها هي جزء من أدبيّات حزب الله واستراتيجيته المبعيدة المدى. فهي استراتيجية أيديولوجية – عمليّة لخطّة طويلة الأمد تستهدف سلخ لبنان عن حاضنته العربية. وعلاوة على استراتيجية الميليشيا والخلايا والاستهدافات الإرهابية، تبرز حمولات الرمّان الملأى بالمخدّرات والليمون المفخّخ بالكبتاغون.
اقتصر اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم الأحد 30 كانون الثاني في الكويت على التشاور والمصارحة، ولم يتّخذ قرارات بعد، على حدّ تعبير معالي وزير خارجية الكويت أحمد ناصر المحمد الصباح. غير أنّ دول الخليج تنتظر من لبنان إجراءاتٍ عمليّة تُظهر التزاماً جدّيّاً بما قدّمه في ردّه. فإنْ كان لبنان قد فضح عمليّة من عمليّات التهريب، هذا لا يمنع أنّه تغاضى عن عشرات غيرها. وإن كان قد نظّم استعراضات مسرحية في المرفأ كاشفاً محاولة تهريب مخدّرات، فالعالم يتطلّع إلى المصانع المنتشرة في مناطق سيطرة حزب الله.
معاداة المنطقة العربية ودولها هي جزء من أدبيّات حزب الله واستراتيجيته المبعيدة المدى. فهي استراتيجية أيديولوجية – عمليّة لخطّة طويلة الأمد تستهدف سلخ لبنان عن حاضنته العربية
تطول اللائحة، ومن ضمنها تصريحات وزير الإعلام السابق جورج قرداحي التي كان وراءها حزب الله، إضافة إلى أعضاء من تيار رئيس الجمهورية، تماماً كتصريحات وزير الخارجية “المخلوع” شربل وهبة.
هو كلام ينمّ عمّا يكنّه تحالف أهل الحكم في لبنان من عداء مستحكم لكلّ ما هو خليجي وعربي، لا بل عن تجاهل لمصلحة لبنان العميقة بالحفاظ على علاقات متينة مع الأخوة العرب، وعلى رأسهم دول الخليج .
يتخلّى الحكم في لبنان عن علاقات الودّ وحسن التعاطي مع كلّ أصدقائه التقليديين. ففي نهاية زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى السعوديّة، صدر بتاريخ 4 كانون الأول 2021 بيان مشترك شدّد على “ضرورة حصر السلاح في لبنان بمؤسسات الدولة الشرعية، وألّا يكون لبنان منطلقاً لأيّ أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة ولا مصدراً لتجارة المخدّرات”. وفي 14 من الشهر نفسه أكّدت قمّة خليجية على مقرّرات “قمّة العلا” الخليجية الجامعة، التي دعت إلى “بلورة سياسة خارجية موحّدة وفاعلة تخدم تطلّعات وطموحات شعوب دول الخليج”، مشدّدةً على أنّ “أمن دول الخليج كلّ لا يتجزّأ”. فما كان من حزب الله إلّا أن اختصر الردّ اللبناني بزيادة انغماسه في الإرهاب الإقليمي والدولي. على الرغم من كلّ ذلك تجاهل أهل الحكم في لبنان جميع الإشارات، ضارباً عرض الحائط بالتحذيرات المتكرّرة، وطول صبر دول الخليج الحريصة على لبنان، ومطالبته بإجراء إصلاحات داخلية أجمَعَ العالم عليها، وتعزيز دور مؤسّساته الدستورية. وتتضمّن الورقة الخليجية نقطة أساسية، وهي تنفيذ القرار 1559. فجاء جواب الحكم في لبنان بتأكيد احترامه القرارات الدولية. لكنّ هناك فرقاً كبيراً بين “الاحترام” و”الالتزام”.
إقرأ أيضاً: الخليج “أكثر لبنانيّة” من ساستنا!
أخيراً وليس آخِراً، يطيب لأهل الحكم في لبنان التحجّج بالحفاظ على “السلم الأهلي”. لكنّ هذه الأسطوانة باتت مشروخة مع تواطؤ الطامحين إلى الكراسي وسعيهم إلى إرضاء حزب الله. فتجربة اتفاقية القاهرة (1969)، التي عقدها الحكم في لبنان عام 1969 وقضت بتسليم العرقوب وأمن المخيّمات الفلسطينية إلى “منظمة التحرير”، تحت شعار التنازل عن السيادة لكسب وحدة اللبنانيين والحفاظ على السلم الأهلي، أدّت إلى الحرب الأهلية عام 1975. منذ ذلك الحين وعلى المنوال نفسه، تحجّج حكام لبنان بـ”الحفاظ على السلم الأهلي” من أجل تبرير التنازل عن السيادة للاحتلال السوري. الأمر الذي أدّى إلى انهيار الدولة اللبنانية. فما يزعمه حلفاء حزب الله من تنازلهم عن سيادة الدولة المركزية مقابل وهم الحفاظ على السلم الأهلي سيتبيّن أنّه سراب منثور لإبقاء سيطرة الدويلة على الدولة
* كاتب لبناني مقيم في دبي