ثلاثة أسابيع بالتمام تفصلنا عن ربع قرن كامل على ذاك الصباح…
الزمان: الإثنين 24 شباط 1997.
المكان: الفاتيكان. الردهة الكبيرة خارج مكتب قداسته.
المناسبة: ضيف اسمه رفيق الحريري. أمّا الحدث فإعلان موعد زيارة قداسته للبنان.
بعد دقائق فُتح الباب. وتقدّمت هالة النور المهيب لمصافحة الوفد. بخطى ثقيلة أتعبتها سنون كثيرة وقضايا كبيرة، كان يقترب. في يدٍ ميداليّته التذكارية وفي الأخرى بركة تلقائية. بين تسلّم وسلام، متكرّرين، كان يسمع: لبنان كلّه ينتظرك صاحب القداسة. فيردّ وهو يتابع خطواته: وأنا أيضاً.
لم تتلقّف دمشق الفرصة. قيل يومها لأسباب داخلية، مع بداية عهد رئيس جديد وريث شابّ حذر، محاصَر بحراكِ حرسٍ قديم من حوله، وبداية شيء من ربيع دمشق، وحركة منتدياتها، وذعر “الديمقراطيات الخاصة” من أمراض الضوء والهواء
فجأة قيل له: لكنّنا ننتظرك كما انتظرتك بولونيا سنة 1979.
فجأة أوقف خطاه. استدار وقال بصوت خافت واثق: “وهذا هو المطلوب. وهذا ما أتمنّاه”.
ربع قرن كامل. تسترجعه اليوم بصورة. كأنّ كلّ ما أراده حصل. أو بالعكس، كأنّ شيئاً ممّا تمنّيناه لم يحصل.
من الضروري تأمّل شريط الأحداث، ولو بسرعة، لنفهم كيف تكوّن الفعل والحدث السياسيّان يومها. وبالتالي كيف يمكن أن يتطوّرا اليوم:
في أيار 1997، الرجل الأبيض في لبنان. لاقاه كلّ عاشق للحريّة، قرب مرفأ بيروت. هناك وقف بينهم وبين البحر كأنّه سدٌّ دونهم والجزر لوقف هجرتهم وهزيمتهم ونزفهم ونزعهم (تُراه كان 4 آب في المكان نفسه فعلاً معاكساً؟؟).
بعد الزيارة بدأت معالم صحوة. راح يتفسّخ جدار ما سُمّي الإحباط:
في انتخابات بلديّات 1998، ظهرت أولى المؤشّرات.
تنبّه المنتدِب الدمشقيّ للأمر. أصلاً، بعد زيارة قداسته فوراً، نفّذ حملة اعتقالات واسعة. وبعد الانتخابات البلدية، “انفجرت” صدفة وفجأة سيارة في منطقة الدورة، وقد شكّلت ذريعة لانقضاض النظام على السياديين.
بعد أشهر قليلة اُستُكملت محاولة الردّ: تزكية رئاسية جديدة سنة 1998. على قاعدة نظرية الرجل النظيف، ابن العائلة المارونية العريقة، وابن جبل لبنان، وابن مؤسّسة الجيش… خلطة مثالية لاستيعاب المعترضين، وأوّلهم بكركي، بالرهان على بقايا وجدان من ثقافة الجمهورية الأولى.
تماماً كما كانت دمشق نفسها قد ردّت سنة 1992 على مقاطعة السياديين لانتخاباتها المعلّبة، بتزكية رفيق الحريري. في خطوة استيعابية مطابقة. غايتها حينها أيضاً الإيحاء البعثي بالتزام دفتر شروط الوصاية، كما وضعها الكونسورسيوم الثلاثي بين واشنطن والرياض ودمشق.
لكنّ تطوّرات ما بعد 1998 لم تجرِ كما بعد 1992.
بدأ الحراك السيادي يتكوّن ويتكوكب تحت مسمّى جنينيّ، اسمه معركة قانون الانتخابات واستحقاق سنة 2000.
فجأة، دُحِر الاحتلال الاسرائيلي في أيار. فزاد إرباك المنتدِب الوصيّ.
خرجت بكركي بندائها الشهير في أيلول. فانطلقت معركة الاستقلال فعليّاً، بعبارة مفتاحية أعلنها النداء، ولا تزال صالحة اليوم: “وبعدما خرجت إسرائيل، أفلم يحن الوقت؟؟؟”، ومعها دعوة عميقة صادقة إلى كلّ اللبنانيين، خصوصاً إلى “حكمة من حرّروا الجنوب بما بذلوه من دماء زكيّة في سبيل التحرير، بدافع من حميّة وطنية صحيحة”. دعوتهم إلى تسوية ميثاقية على قاعدة التساوي والتوازن، تشكّل المدخل لدعوة مطابقة إلى سوريا، لتسوية تاريخية بينها وبين لبنان، على قاعدة السيادة والتعاون.
لم تتلقّف دمشق الفرصة. قيل يومها لأسباب داخلية، مع بداية عهد رئيس جديد وريث شابّ حذر، محاصَر بحراكِ حرسٍ قديم من حوله، وبداية شيء من ربيع دمشق، وحركة منتدياتها، وذعر “الديمقراطيات الخاصة” من أمراض الضوء والهواء. وقيل بسبب تحريض سلطوي لبناني من أصحاب المصلحة والمنفعة.
بدأ الحراك السيادي في بيروت يوسّع مروحة قاعدته. صوب جنبلاط أوّلاً وعلناً. ثمّ بالتحييك سرّاً مع رفيق الحريري. وصولاً حتى البيئة الشيعية، ولقاءات فريق الحوار العربي مع ممثّلين لحزب الله، من اللقلوق إلى مونترو
جنبلاط والحريري… والاغتيال
بدأ الحراك السيادي في بيروت يوسّع مروحة قاعدته. صوب جنبلاط أوّلاً وعلناً. ثمّ بالتحييك سرّاً مع رفيق الحريري. وصولاً حتى البيئة الشيعية، ولقاءات فريق الحوار العربي مع ممثّلين لحزب الله، من اللقلوق إلى مونترو… كلّ ذلك تحت: “عنوان كيف لا نضيّع بلدنا؟”.
بعد سنة كان زلزال 11 أيلول. تغيّرت واشنطن. انتقلت عدوى حروبها الخارجية إلى ساحاتها الداخلية. صارت علاقاتها الدولية هموماً محليّة. إذ استفاق ابن فيرجينيا ونيويورك على كون حياته أو موته مرتبطين بكتب “المدارس” من آسيا الوسطى إلى بعض دول الخليج العربي.
هكذا اهتزّ شيء ما بين واشنطن والرياض، الضلعين الضالعتين في مثلّث تسليم بيروت إلى دمشق.
بعد سنتين جاءت التكملة: اهتزاز جديد وجذريّ مع الضلع الثالثة والأهمّ.
ففي ربيع 2003، كانت حرب العراق. وصلت النار إلى حدود سوريا. لم يكرّر ابن الأسد مع ابن بوش تحالف الوالدين في حرب تحرير الكويت. فافترق الأميركي عن السوري. وبدأت معالم مرحلة جديدة للبنان. كأنّه شيء من انتقام التاريخ لنفسه. ذلك أنّ اتفاق دمشق وواشنطن فوق رقعة الكويت التي اجتاحها صدّام سنة 1990، شكّل مناسبة لبيع الأميركي لبنان إلى السوري، فيما افتراق دمشق عن واشنطن فوق رقعة العراق نفسه، الذي سقط مع صدّام سنة 2003، كان اللحظة التي بدأت واشنطن تفكّر فيها بإنهاء تلزيم لبنان للأسد.
وكرّت بعد ذلك الافتراق أحجارُ الدومينو: إقرار قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان نهاية 2003. اتفاق النورماندي في حزيران 2004. القرار 1559 في أيلول. اغتيال الحريري. فاستفاقة كلّ اللبنانيين مُجمعين على أولويّة السيادة.
بين مَن قالها بصيغة “شكراً سوريا”، ومن ردّ بعد أسبوع: “إلى اللقاء سوريا”، حقّق إجماع اللبنانيين جلاء الجيش السوري عن لبنان بعد 29 عاماً على دخوله.
ليرحل قداسته في 2 نيسان 2005 مطمئنّاً ربّما، بعد أسابيع على إعلان الجلاء في 5 آذار، وقبل أسابيع مماثلة من إنجازه وتحقّق سيادة لبنان في 26 نيسان.
25 عاماً… لنصل إلى هنا. إلى ما قد يرى كثيرون أنّه وضع أسوأ ممّا كان. هل صحيح؟ كيف؟ ولماذا؟
لمحاولة الإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من محاولة تشخيص الأزمة، وبالتالي تقدير أفق احتمالاتها والحلول.
ثلاث دوائر تأسيسية
بالتجربة والمحاولة والخطأ، بات واضحاً أنّ قضيتنا مكوّنة، أو مركّبة بنيويّاً على ثلاث دوائر:
– الدائرة الأولى هي الدولة. دولة لبنان، بمفهوم القانون والشرعية الدوليّين والقانون الدستوري وما يتعارف عليه العالم المعاصر لأيّ كيان دولتيّ.
– الدائرة الثانية هي دائرة الجماعات. أو ما نسمّيه طوائف أو عائلات روحية أو مكوّنات دينية، أو سواها من التسميات. كلّها للدلالة على هذه الشريحة السوسيو – سياسية، الوسيطة داخل الدولة.
– تبقى دائرة ثالثة اسمها المواطن الفرد الإنسان الشخص. أيضاً بكلّ الأبعاد والمفاعيل القانونية والمجتمعية لهذا المفهوم.
أزمة لبنان هي نتاج أزمات الدوائر الثلاث، منفردة أو مجتمعة. ولا يمكن حلّ القضية اللبنانية إلا أن يتضمّن حلّاً لأزمة كلّ من الدوائر الثلاث.
والحلول الضرورية، بحسب دروس المآسي والكوارث، معروفة بسيطة:
المطلوب سيادة للدولة.
وتوازن للجماعات ضمن الدولة.
وحريّة للمواطن الفرد، أكان منتمياً إلى جماعة أو خارجاً منها أو عنها أو حتى عليها.
أيّ اجتزاء لهذه الثلاثيّة يؤدّي إلى انتقاص في الحلّ. وأيّ قفز، الآن، فوق أيّ دائرة منها، لا يوفّر حلّاً قابلاً للحياة.
المعادلة واضحة. واجتزاءاتها أيضاً: نموذج الوصاية الخارجية التي تفرض شيئاً من توازن الجماعات، بلا سيادة للدولة، نهايتها كارثية. وقد جُرّبت.
ونظام توازن الطوائف، على حساب حريّة المواطن الفرد، كارثة مماثلة. وقد شهدنا نموذجاً صارخاً له منذ العام 2005، بإقفال البلد على أوليغارشية خمسة أو ستة بارونات، يختزلون الناس والنظام والدولة. فكانت النتيجة جهنّم اليوم، لأنّ تركيبة كهذه نتيجتها الحتميّة زبائنيّة قاتلة، ولأنّ هناك جيلاً جديداً واعياً ناضجاً ملتزماً بدأ يخرج تدريجياً من قوالب الزعامات والجماعات. وهو يعبّر عن ذلك في كلّ استحقاق ومحطّة. إنّه جيل 17 تشرين الذي لن يُذلَّل ولن يُذَلّ.
وأخيراً وطبعاً لا يمكن القفز فوراً وكليّاً فوق تركيبة الطوائف اللبنانية الراهنة، وخصوصاً أنّنا نعيش في منطقة تتفجّر يوميّاً حروباً إلهيّة متوالدة، ويعتبر أهلُها الأرضَ ميدان قتال لغرف عمليات سماوية مفتوحة منذ قرون.
هذه هي التوليفة المطلوبة إذن:
سيادة للدولة اللبنانية، لا تستقوي ولا تستعدي.
وتوازنٌ للجماعات، لا يختزل ولا يحتكر ولا يؤبّد أمراء الزبائنية الطائفية ولا يتركهم يدمّرون مقدّرات المجتمع لاستمرار سلطتهم.
وأخيراً حريّة لمواطن فرد، متبلورة مع خارطة طريق واضحة، تنقلها وتنقله، من مستوى حريّة الضمير الهيوليّة العامّة، إلى المفعول القانوني والفعليّ لها في الأحوال الشخصية وفي النظام السياسي وفي المشاركة الكاملة في مجالات الشأن العامّ كافّة، مع جدول زمني ثابت واضح، بما يفتح الأفق للانتقال إلى واقع الدولة المدنية الكاملة. وهذا عمليّاً ممكن، بلا خبريّة النصوص والنفوس، ولا التلطّي خلف مادّة دستورية عقيمة.
في ربيع 2003، كانت حرب العراق. وصلت النار إلى حدود سوريا. لم يكرّر ابن الأسد مع ابن بوش تحالف الوالدين في حرب تحرير الكويت. فافترق الأميركي عن السوري. وبدأت معالم مرحلة جديدة للبنان
فرصتان في عقد واحد
ليست هذه الثلاثيّة مستحيلة، لا بل سنحت لنا في خلال عقد واحد، فرصتان لتحقيقها.
أُتيحت للبنان مرّتين لحظة تكافؤ في موازين القوى، بين دواخله وخارجه، كانت كافية لتحقيق هذا الحلّ الثلاثي المركّب.
المرّة الأولى سنة 2005، بعد جلاء الجيش السوري. والثانية سنة 2016، مع التسوية الرئاسية الجامعة لمختلف القوى اللبنانية الأساسية.
في المرّتين، كانت الظروف المحليّة والخارجية مؤاتية لحلّ يضمن حرّية مواطننا، ويسمح بتسوية ميثاقية بين جماعاتنا تشكّل مدخلاً لتسوية تاريخية مع سوريا.
وفي المرّتين أضعنا الفرصتين لأسباب كثيرة تُختصر بعبارتين:
– سنة 2005 أهدرنا الفرصة، على وهم إنشاء نظام سنّيّة سياسية، مستنسخٍ عن المارونية السياسية التي سقطت.
– وسنة 2016، أضعنا الفرصة على وهم استعادة نظام المارونية السياسية البائد.
في الحالتين، كان المستفيدُ في الداخل نظامَ الشيعية السياسية المتبلور حول عمود فقري، اسمه حزب الله.
(وفي ملاحظة منهجية ضرورية، لا علاقة للسُنّة ولا للموارنة ولا للشيعة بالتسميات الثلاث. بل المقصود تركيبة زعاماتية بأرجحيّة سلطوية من جهة معيّنة، وملحقين من جهات أخرى).
وكان المستفيد في الخارج تنافساً على دور النفوذ بين طهران الجاهزة والمتحفّزة لِما بعد فيينا، وبين دمشق المتطلّعة إلى أيّ فرصة في مدى متوسّط أو بعيد، لاستعادة موقعها في لبنان، خصوصاً بعد الأخطاء التي اُرتُكبت في التعامل معها ومع الشعب السوري في محطّتين بارزتين: محطة خروج جيشها من لبنان، ومحطة الحرب السورية بعد سنة 2011.
وهنا لا بد من هلالين عن حزب الله، في ما له وما عليه:
تُسجّل للحزب ثلاثة: تحرير الأرض من الاحتلال، ومواجهة حركات التطرّف الإرهابية والمساهمة في هزمها، وإعلان أمينه العامّ في 3 كانون الأول 2013، في ذروة الحرب السورية واشتراك الكلّ فيها، قرار شورى الحزب الالتزام بنهائيّة الكيان الللبناني.
لكنّ ما يبقى على الحزب توضيحه ومكاشفته، هو أيّ مشروع ونظام وهويّة لهذا اللبنان النهائي، خصوصاً في ظلّ محاذير مشروعة، في الداخل، كما في الخارج؟
ففي داخل لبنان ظاهرتان بارزتان نشهدهما بشكل مطّرد:
– أوّلاً، تراجع الدولة، حضوراً وثقافةً ومفهوماً، في مناطق الحزب عموماً، وهو تراجعٌ أسبق وأظهر من تراجعها المماثل في مختلف المناطق الأخرى.
– وثانياً، تراجع وجود الآخر في هذه المناطق. أيّ آخر كان، حتى الشيعي غير المنتظم حزبيّاً.
ظاهرتان فعليّتان على الأرض تترافقان مع تنامي ثقافة الإلغاء (Cancel Culture) على مستوى كلّ وسائل التواصل والتخاطب، وبشكل خطير ومعمّم على قوى المنظومة كلّها.
أمّا في الخارج فلا يمكن تجاهل أدوار الحزب المتنامية في أكثر من بلد ومنطقة وإقليم، مع ما ترتّبه على لبنان من تبعات وانعكاسات.
الآن وصلنا إلى هنا. الأزمة كبيرة جدّاً. لكنّ كلّ أزمة تستبطن فرصة، خصوصاً أنّنا في منطقة زلزالية قال عنها أحد الفرنسيين يوماً إنّها قد تُمضي قرناً كاملاً بلا أيّ حركة، وإنّها قد تشهد في ليلة واحدة حراكَ قرنٍ كامل.
لكنّ خطورة الأزمة الراهنة داخليّاً تتمثّل في ثلاثة تداعيات – تحدّيات داخلية:
1- انهيار مجتمعيّ عامّ، نتيجة الانهيار النقدي المالي الاقتصادي المعيشي. انهيار طاول بعض وظائف لبنان الأساسية، في المدرسة والجامعة والمستشفى والمصرف والمرفأ وغيرها، مع كلام محلّي ودولي عن فترة تعافٍ تراوح بين 7 و14 سنة. قياساً من بدء التعافي… إذا بدأ.
2- نزف ديمغرافي خطير جدّاً: نحو 10 آلاف لبناني يرحلون شهرياً. المقيمون دون سنّ 10 سنوات من اللبنانيين باتوا أقلّية على أرض بلدهم، مع قياسات مذهلة للأعوام المقبلة، وتبعاتها على الهرم العمري ومفاعيله. هي موجة الهجرة الثالثة، بعد أولى مع حرب 1975، وثانية مع حروب 88 – 90. وكلّ منهما غيّرت لبنان جذريّاً.
3- طبقة سياسية من مختلف المكوّنات، باتت متحالفة موضوعيّاً، متقاطعة مصلحيّاً، ومرتاحة إلى الكارثة. لا بل تعتبرها ضرورية لتأبيد سلطتها وتوريث زعاماتها من الأجيال الخلدونيّة، خصوصاً في مواجهة حركة اعتراض 17 تشرين. إذ يؤدّي الانهيار والهجرة معاً خدمات كبيرة لأمراء هذه الطبقة على قاعدة تكريس نظام الحاجة والخوف، فإفقار الناس يزيد حاجتهم، وخطاب الكراهية يزيد خوفهم، والحاجة والخوف يضمنان موقع الزعيم. أمّا الهجرة فكفيلة بتأدية ثلاث خدمات كبيرة لهذا المخطّط:
– أوّلاً شطب قسم كبير من معارضي المنظومة، خصوصاً من الشباب.
– ثانياً شطب قسم من عبء توفير أموال الاستيراد، عبر خفض حجم الاستهلاك.
– وثالثاً، زيادة التحويلات المالية إلى لبنان. وهو ما يساهم في تصحيح ميزان المدفوعات. وبالتالي طمس الكارثة، من دون مساءلة مرتكبيها ولا محاسبة مجرميها. وذلك على حساب الشعب والمجتمع. هي معادلة يعمل عليها أهل السلطة الحالية بجهد ودأب. ووفق هذه الحسابات بالذات، تقامر هذه الطبقة كلّها لإعادة إنتاج نفسها في الانتخابات المقبلة، بلا أيّ تغيير.
بعد زلزال 11 أيلول تغيّرت واشنطن. انتقلت عدوى حروبها الخارجية إلى ساحاتها الداخلية. صارت علاقاتها الدولية هموماً محليّة. إذ استفاق ابن فيرجينيا ونيويورك على كون حياته أو موته مرتبطين بكتب “المدارس” من آسيا الوسطى إلى بعض دول الخليج العربي
تلزيم إيران؟
أمّا التحدّي الخارجي الأبرز فيتمثّل في مشهد دولي يدفع لبنان إلى احتمال من اثنين:
– إمّا تلزيم وتسليم بدور إيراني ما، في حال نجحت عملية فيينا.
– وإمّا تسليم وتلزيم يمهّدان لعودة دور سوري ما، إذا فشلت فيينا أو تعثّرت، وإذا ما انتهت حرب سوريا إلى قبول غربي بوصاية روسية على سوريا تضمن مصالح الغرب فيها، من الجولان حتى كردستان، وهي وصاية يمكن أن تستتبع بيروت وتستلحقها فوراً أو بعد حين.
لا شكّ أنّ هذه الطبقة السياسية مستعدّة بكاملها للتكيّف مع هذين الاحتمالين الخارجيّين، ولأن تعود طبقة مقاطعجيّة لدى أيّ وصي خارجي، لا بل بدأت تستعدّ لذلك. وهو ما بدأنا نراه في سلسلة مواقف وخطوات. حتى إنّ بعض القوى المفترض أنّها سياديّة، أطلقت مواقف خطيّة، متحدّثةً عن تطلّعها إلى انضمام لبنان إلى كيان سياسي أوسع منه. وهي رسائل قد لا يلحظها المناصر المعميّ بمناصرته للزعيم. لكنّها رسائل تصل إلى الخارج المعنيّ بها، ويفهمها ويبني حساباته عليها.
كأنّ ربع قرن لم يكن. أو كأنّه كان، وكان دورة كاملة تعيدنا إلى حيث كنّا. فما هي الاحتمالات أمام لبنان الآن؟
– الاحتمال الأوّل أن يستمرّ الوضع الحالي، بالتقدّم والقضم، بحيث يترسّخ نظام “شيعية سياسية” ما، بأرجحيّة مقرِّرة من حزب الله، وملحقات من مختلف مكوّنات المنظومة.
– الاحتمال الثاني أن يقوم كونسورسيوم جديد، أميركي روسي سوري هذه المرّة، ويبدأ بوصاية موسكو على دمشق، ويستلحقها بدور ما، متمدّد متطوّر راعٍ لمنظومة الحكم في بيروت. بين حدّ أدنى من نفوذ وإدارة عن بعد، وبين حدّ أقصى في مدى أبعد، عبر فدرلة سورية لبنانية كاملة. والهمس في أكثر من وسط خارجي أنّ هذه الصيغة قد طُرِحت في الخارج، ولو أنّها فكرة للبحث والعصف فحسب.
– الاحتمال الثالث أن يتشلّع لبنان في ظلّ عدم اهتمام أيّ خارج به. شيء من صوملة على الطريقة اللبنانية الخاصّة، تحت تسميات مختلفة.
– يبقى الاحتمال الرابع: استعادة سيناريو من السيناريوهين الضائعين. إمّا الـ2005، وإمّا الـ2016. أي إمّا لحظة إقليمية-داخلية مركّبة تمنح انتفاضة شعبية جامعة عابرة، كما في سنة 2005، فرصة أخرى لتحقيق ثلاثية “سيادة وتوازن وحرّية”. وإمّا تسوية رئاسية، كما في سنة 2016، تكرّر المشروع نفسه، على ألّا يُهدرها جموح أو جنوح أو جنون… لتبدأ بعدها المعالجات البنيويّة الضرورية لكيفيّة مقاربة مسألة حزب الله، وقضية النازحين واللاجئين، وتطوير النظام السياسي الدستوري، وأولويّة المعالجة اقتصادياً. وهي كلّها معالجات ممكنة على الرغم من صعوباتها وأثمانها. لكنّنا أمام طبقة عاجزة عن تنفيذها. فضلاً عن أنّها لا مصلحة لها بذلك.
الأكيد أنّ سنة 2022 تحمل فرصة ممكنة للسيناريوهين. فهي سنة استحقاق نيابي، مثل 2005، وسنة استحقاق رئاسي، مثل 2016.
لا أوهام في المحطّتين ولا تخيّلات. لكنّ الأكيد أنّ هناك هوامش كافية للفعل. في المحطّة النيابية مثلاً، تكفي نواة تغييرية، شرط أن تكون نواة صلبة جدّية جذرية، لتبدأ التحوّل ولتفرض أجندة مختلفة. وهذا ممكن.
وفي المحطّة الرئاسية، يكفي أن يفكّر المعنيّون بالاستحقاق، بعمق وصدق، في سؤال: مَن يقدر الآن، أو يوحي على الأقلّ بالحدّ الأدنى من استعادة ثقة الإنسان اللبناني بوطنه، كي لا يرحل عنه؟ ومَن يقدر الآن، أو يوحي باستعادة حدّ أدنى من ثقة العالم بنا، كي لا يتخلّى عنّا نهائيّاً، ليتمّ تبنّيه صراحةً وعلناً، بلا أيّ اعتبارات؟
فالفأس قد وُضعت على أصل الشجر، كما تقول البشارة…
إقرأ أيضاً: الفاتيكان يحذّر من زوال لبنان: السياسيون متآمرون
في رسالة قداسته إلى اللبنانيين في 1 أيار 1984، وصيّتان ثمينتان: “إعرفوا دونما سذاجة كيف تثقون بالآخرين”. وفي مكان آخر: “لا تخجلوا أبداً في الدفاع عن حرّياتكم”.
هذا هو المدخل: لا سذاجة. لا خجل. شباب لبنان وشابّاته بدأوا تجسيد وصيتيْ قداسته. يبقى علينا أن نكون معهما مثلهم.
* ألقيت هذه المداخلة في مؤتمر جامعة الروح القدس الكسليك، في 3 شباط 2022، حول “البابا يوحنّا بولس الثاني ولبنان الرسالة”.