بعد ثلاثة أشهر و12 يوماً على تعطيل جلسات مجلس الوزراء، تستعدّ الحكومة للانعقاد اليوم من جديد، بجدول أعمال دسم يشمل نحو 56 بنداً، بما فيها البند المتعلّق بدراسة مشروع قانون الموازنة للعام 2022. واليوم أيضاً، سيعود الوفد اللبناني المكلّف بإدارة ملفّ التفاوض مع صندوق النقد إلى استكمال محادثاته مع الصندوق، في محاولة لتهيئة الأرضيّة لإطلاق المفاوضات الرسميّة لاحقاً. وفي الملفّين، يبدو أنّ الحكومة تعاني انطلاقةً متعثّرةً، سواء في ما يتعلّق بقدرتها على إقناع الصندوق بجدّيّة وشموليّة ما تمّ إعداده حتّى الآن، أو في ما يتعلّق بملفّ الموازنة وقدرتها على الاستجابة لحاجات النهوض المالي. وفي الملفّين، ستواجه الحكومة قدراً لا بأس به من الألغام الماليّة والاقتصاديّة، بعدما تمكّنت من تجاوز الألغام السياسيّة التي فرملت اجتماعاتها سابقاً.
تتخطّى نسبة العجز المقدّر في الموازنة نسبة 31%، فيما تتجاوز قيمة نفقات الموازنة قيمة الإيرادات المقدّرة فيها بأكثر من 38.5%
في ملفّ التفاوض مع صندوق النقد، كان من المفترض أن تكون البلاد اليوم على موعد مع بدء زيارة رسميّة لخبراء الصندوق، “للتفاوض على تفاصيل برنامج التعافي الاقتصادي والمالي المتوقّع مع لبنان”، كما أشارت رئاسة مجلس الوزراء سابقاً. بمعنى آخر، كان من المرتقب أن يدخل لبنان اليوم مرحلة المفاوضات الجدّيّة مع الصندوق، على أساس خطّة تصحيح مالي واضحة المعالم والوجهة، وبناءً على المشاورات التمهيديّة السابقة، عوضاً عن استئناف المشاورات السابقة عن بُعد كما يجري اليوم. وعلى أساس هذا الجدول الزمني، كانت رئاسة مجلس الوزراء تخطّط لإنجاز التفاهم الأوّلي مع الصندوق قبل إجراء الانتخابات النيابيّة في شهر آذار المقبل.
لكنّ تطوّرات الأيام السابقة لم تجرِ كما اشتهت سفن الوفد اللبناني المفاوض. ففريق عمل الصندوق لم يكوّن قناعة بأنّ ما أعدّه الوفد اللبناني يمثّل نواة خطّة تعافٍ مالي جدّيّة يمكن البناء عليها خلال المفاوضات المقبلة، وخصوصاً من جهة عدم اكتمال الطروحات المتعلّقة بالمعالجات والسياسات التصحيحيّة المطلوبة. ولهذا السبب، تقرّر إلغاء الزيارة المخطط لها وفرملة انطلاقة المفاوضات الرسميّة، واستكمال مسار المشاورات التمهيديّة السابقة عن بُعد. مع الإشارة إلى أنّ ما جرى إعداده بشكل نهائي من الجانب اللبناني اقتصر حتّى اللحظة على تحديد الخسائر والتوافق عليها داخليّاً، من دون صياغة أيّ مقترحات نهائيّة واضحة بخصوص طريقة توزيع هذه الخسائر والتعامل معها.
حتّى اللحظة، يُصرّ وزير الاقتصاد في تصريحاته على اعتبار محادثات اليوم انطلاقةً للمفاوضات الرسميّة مع الصندوق، بعدما “أنجزت الحكومة خطّة التعافي” المطلوبة لبدء المفاوضات، مشيراً إلى أنّ إلغاء الزيارة والاستعاضة عنها بمحادثات عن بُعد يرتبطان “بالإجراءات المواكبة لوباء كورونا”. لكنّ جميع المصادر المواكبة لعمل الوفد الحكومي تصرّ على أنّ طبيعة الجلسات التي سيتمّ استئنافها اليوم لا تختلف عن سابقاتها في شيء، إذ ستنحصر في المحادثات التمهيديّة الهادفة إلى تبادل المعلومات وتحديث الأرقام المتوفّرة لدى الطرفين، بالإضافة إلى عرض تقدّم الوفد اللبناني في إعداد خطّته. أمّا انطلاقة المفاوضات الفعليّة فستظلّ مرهونة بإمكانيّة إنجاز الخطّة الحكوميّة، التي لا يُفترض أن تقتصر على قياس الخسائر فقط، كما أوحى وزير الاقتصاد في تصريحاته، بل يجب أن تشمل أيضاً المعالجات التصحيحيّة.
الإشكاليّة الأساسيّة في مشروع الموازنة والمفاوضات مع صندوق النقد: عدم وجود رؤية جدّيّة شاملة لمسألة التصحيح المالي والنقدي حتّى اللحظة
على ضفّة مشروع قانون الموازنة، الذي ستباشر الحكومة مناقشته اليوم، لا تبدو الأمور أفضل بكثير. فالمشروع المطروح على بساط البحث يسجّل عجزاً تتجاوز قيمته 10.2 آلاف مليار ليرة لبنانيّة، تُضاف إليه سلفة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان بنحو 5.2 آلاف مليار ليرة، فيرتفع العجز الإجمالي، بعد احتساب السلفة، إلى 15.4 ألف مليار ليرة، من أصل نفقات تقارب قيمتها 49.4 ألف مليار ليرة. وبذلك تتخطّى نسبة العجز المقدّر في الموازنة نسبة 31%، فيما تتجاوز قيمة نفقات الموازنة قيمة الإيرادات المقدّرة فيها بأكثر من 38.5%.
وفي حال السير بمشروع قانون الموازنة المطروح، سيكون على مصرف لبنان خلق كتلة نقديّة بالليرة اللبنانيّة توازي قيمتها ثلث الكتلة النقديّة المتداولة اليوم، لإقراض الدولة وتمويل هذا الحجم الضخم من الإنفاق، في غياب أيّ مقرض آخر للدولة اللبنانيّة في الوقت الراهن. وهكذا ستكون النتيجة الطبيعيّة لهذا النوع من الموازنات الإفراط في الضغط على سعر صرف الليرة على المدى المتوسّط، بغياب أيّ ربط ما بين الموازنة التي تمّ العمل عليها والسياسة النقديّة التي سيعمل عليها مصرف لبنان في مرحلة التصحيح المالي. وقد ترك مشروع قانون الموازنة مسألة تحديد سعر الصرف المعتمد لاحتساب الضرائب والرسوم بيد وزير المال، من دون أن يتبنّى أيّ تصوّر لكيفيّة ربط هذا الجانب بسياسة مصرف لبنان النقديّة أو بتوحيد وتعويم سعر الصرف.
باختصار، ستكون خطوة إقرار الموازنة سبباً إضافياً من أسباب تعقيد مهمّة الوفد اللبناني المفاوض مع صندوق النقد. فحجم العجز الخيالي المقدّر فيها يتناقض أوّلاً مع رؤية الصندوق التي تفرط في التركيز على السياسات التقشّفيّة ومحاولة تقليص العجز في الميزانيّة العامّة قدر الإمكان على المدى المتوسّط. ويتناقض أيضاً المشروع مع تصوّر الصندوق لمسألة الموازنة التي يُفترض أن تأتي روحيّتها من خطّة التصحيح المالي الشاملة، لا أن تسبق إقرار سياساتها التصحيحيّة كما يجري اليوم. وحتّى في ما يتعلّق بمسألة تعدّد أسعار الصرف، يبدو من الواضح أنّ منهجيّة عمل الحكومة تتّجه إلى تكريس هذه التعدّديّة من خلال التمييز بين سعر الصرف المعتمد في القطاع المصرفي، وأسعار الصرف التي سيتمّ اعتمادها لاحتساب الرسوم والضرائب، وهو ما يتعارض مع رؤية الصندوق التي تصرّ على مسألة الانطلاق باتجاه توحيد أسعار الصرف المتعدّدة.
أمّا أهمّ ما في الموضوع، فهو مجموعة البنود القاسية على المستوى المعيشي، مثل فرض رسم جمركي بنسبة 10% على السلع المستوردة إذا كان يُصنّع مثيل لها في لبنان، ورسم آخر بنسبة 3% على السلع المستوردة كافّة، بالإضافة إلى زيادة رسوم المرافئ والمطارات ورسوم الطابع المالي على المعاملات وزيادة رسوم التفرّغ والانتقال العقاري، والسماح باستيفاء العديد من الرسوم والضرائب بالدولار. وتعطي الموازنة وزير المال صلاحيّات ترتبط بتحديد سعر الصرف المعتمد لاستيفاء الضرائب وتعديل شطور ومعدّلات الضرائب، وهو ما سيفتح باب زيادة هذه الرسوم خلال العام الحالي.
إقرأ أيضاً: موازنة “فضيحة” وأخرى “ملغومة” وتعيينات على طاولة الحكومة!
ستطرح كلّ هذه البنود تحدّياً كبيراً أمام إقرار الموازنة كما هي داخل المجلس، نظراً إلى اقتراب الانتخابات النيابيّة وحاجة الأحزاب السياسيّة إلى امتصاص النقمة الشعبيّة عليها. وفي حال ضغط الكتل البرلمانيّة باتجاه إزالة بعض هذه البنود، كما هو متوقّع، فستكون النتيجة المزيد من العجز المتوقّع خلال هذا العام في ميزانيّة الدولة العامّة. يعيدنا هذا المشهد إلى الإشكاليّة الأساسيّة في مشروع الموازنة والمفاوضات مع صندوق النقد: عدم وجود رؤية جدّيّة شاملة لمسألة التصحيح المالي والنقدي حتّى اللحظة.