أكّد المجلس الوزاري العراقي، بعد اجتماع طارىء برئاسة مصطفى الكاظمي، أنّ العمليات الإرهابية التي شهدتها العاصمة في الساعات الأخيرة تهدف إلى زعزعة الأمن والسلم المجتمعيَّيْن، وأنّه سيتمّ اتّخاذ إجراءات مشدّدة ووضع خطط أمنيّة من شأنها أن تضع حدّاً لمثل هذه الأعمال التخريبية التي تهدّد الأمن العام.
إنّ تعرُّض مقرّات الأحزاب السنّيّة التي تحالفت مع مقتدى الصدر لهجمات مسلّحة في العديد من المدن العراقية هو رسالة من إيران عبر أدواتها المحليّة إلى القوى السنّية والكرديّة والقوى الإقليمية الداعمة لها قبل أن تستهدف الصدر صانع التحالف الجديد تحت سقف البرلمان العراقي المنتخب الذي ينتظر رئيسه المقبل. الهدف هو إقناع هذه القوى بعدم الرهان على حليفها الشيعي لأنّ بقيّة الشيعة لن يسمحوا له بالتمادي. والدليل هو التحرّك الإيراني السريع في أكثر من اتجاه لقطع الطريق على حلم سنّيّ كرديّ إقليمي من هذا النوع.
سمحت طهران لحلفائها الشيعة في العراق بالتصعيد ضدّ أهداف سنّيّة وكردية وتركية في المدن العراقية، لكنّها لم تسمح لهم الذهاب بعيداً في توسيع رقعة الخلافات السياسية بينهم
إذا ما كانت الصناديق وما تفرزه هي الطريقة الأكثر فاعليّة للتأثير على صنع القرار السياسي، فلماذا الاعتراض على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة أمام المحكمة العليا؟ ولماذا تفجّرت الأوضاع الأمنيّة والسياسية على هذا النحو واتّسعت أزمة الثقة بين القوى السياسية والحزبية من جهة، وبينها وبين الشارع العراقي من جهة أخرى؟
كانت الخطوة الثانية، التي أقدم عليها الصدر في مواجهة خصومه، هي تنسيقه مع نوّاب قائمتيْ “عزم” و”تقدّم” الموحّدتين من العرب السنّة، ونوّاب الحزب الديموقراطي الكردستاني، ونجاحه مع حلفائه في توفير الأصوات المطلوبة لفوز محمد الحلبوسي بمقعد رئيس البرلمان، ولفوز حاكم الزاملي من القائمة الصدرية بمنصب النائب الأول، ولفوز شاخوان عبد الله من الحزب الديموقراطي الكردستاني بمنصب النائب الثاني لرئيس البرلمان. أغضبت النتائج القوى الشيعية في “القرار التنسيقي”، فتحرّكت للطعن بدستورية ما جرى لدى المحكمة الاتحادية العليا. قرَّرَت المحكمة وقف قرارات الجلسة الافتتاحية ومخرجاتها إلى حين النظر في الطعن وإصدار القرار النهائي بشأنه.
السيناريوهات المحتملة
سيساعد قرار المحكمة العليا الجديد حول الطعن المقدّم في انتخابات هيئة رئاسة البرلمان العراقي على التعرّف أكثر إلى السيناريوهات المحتملة ونوعيّة الطبخة الجديدة التي سيجري الإعداد لها. هل نعود إلى نقطة البداية وندخل في لعبة الصفقات حول المناصب الرئاسية الثلاثة في العراق، أم يتمسّك الصدر الفائز الأوّل في انتخابات تشرين الأوّل المنصرم بحلفائه السنّة والأكراد ويُقنع طهران بما يريده في اختيار المرشّح الجديد لمقعد رئاسة الحكومة؟ أم تضحّي طهران، التي شعرت بخطورة اللعبة ضدّها في بغداد وسط تفاهمات إقليمية جديدة، بتحالف “التنسيق” الشيعي، وتحديداً بنوري المالكي، وتُنهي هذا الخيار عبر إشراك هادي العامري باعتباره حصةً لها في الحكومة المرتقبة للإشراف على التركيبة السياسية الجديدة في العراق؟ الهدف هو اختيار رئيس الوزراء المقبل ليكون توافقيّاً بين طهران وقم أوّلاً وأخيراً، لكنّه في العلن سيكون شخصية مقبولة لدى مقتدى الصدر ومَن يمثّلهم، فهل تحصل إيران على ما تريد؟
سمحت طهران لحلفائها الشيعة في العراق بالتصعيد ضدّ أهداف سنّيّة وكردية وتركية في المدن العراقية، لكنّها لم تسمح لهم الذهاب بعيداً في توسيع رقعة الخلافات السياسية بينهم لأنّ ذلك سينعكس على النفوذ الإيراني ويسهّل تسجيل اختراقات سنّيّة وكردية وإقليمية في المشهد العراقي. المتضرّر الحقيقي من تصعيد الخلافات الشيعية الشيعية هو إيران التي استدعت على الفور وفداً من التيار الصدري إلى طهران في محاولة لرأب الصدع بين حلفائها، ثمّ عادت وأرسلت إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إلى العراق ليعلن أمام الحلفاء والأعداء أنّ وحدة البيت الشيعي العراقي خطّ أحمر لا يمكن المساس به. هل يكون بين ما أقلق طهران التجديدُ لرئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي وسط تفاهمات عراقية أوسع يقودها الصدر إرضاءً للعديد من العواصم العربية والغربية التي تعاملت معه في العامين الأخيرين؟
تريد طهران حماية النفوذ الشيعي الواسع الذي صنعته بجهود جبّارة في العقد الأخير. وهي لن تسمح للصدر أو غيره باستهدافه، خصوصاً عندما يكون مرتبطاً بتحرّك إقليمي يجمع تركيا وبعض العواصم العربية ويحاول دعم القوى السنّيّة والكردية من أجل موازنة اللعبة السياسية في العراق.
أمام تصلّب الصدر في مواقفه حيال المالكي، فإنّ الاحتمال الأقرب أن تكون طهران قد أعطت الضوء الأخضر لبقيّة حلفائها في “التنسيق” للالتحاق بمشروع حكومة توافقية ترضي إيران عبر الصدر، الوسيط السياسي الجديد. فهل يتخلّى مقتدى عن حليفيْه السنّيّ والكردي تحت سقف البرلمان أمام الضغوطات الإيرانية، ويكتفي بحصّته في رئاسة الوزراء، أم ينجح في إقناع طهران بفوائد صناعة مشهد سياسي توافقي عراقي أوسع يجمع فريقاً من الشيعة والسنّة والأكراد في إطار تحرّك وطني توافقي جديد؟ أيّام قليلة وتتوضّح الأجوبة على هذه التساؤلات، فالإجابة قد تكون عند المحكمة العليا في العراق.
الإمارات والسعودية وتركيا
من جهة ثانية، توعّد الناطق الرسمي باسم الميليشيات الحوثية ورئيس وفدها التفاوضي محمد عبدالسلام، في تصريح له من طهران، بعد لقاءات مع مسؤولين إيرانيين، بشنّ المزيد من الهجمات التي تستهدف دولة الإمارات. هذا ويتحدّث الإعلام العراقي المحسوب على إيران منذ فترة عن تفاهمات إماراتية سعودية تركية في العراق لقلب المعادلات الإيرانية هناك. مما يعني خسارة إيران لمشروعها السياسي والمذهبي في العراق، الذي تموّله منذ عقدين، تراجع مشاريعها في لبنان وسوريا واليمن والخليج.
يشير التحرّك الإيراني السريع والمكثّف باتجاه الداخل العراقي إلى حجم القلق والسيناريوهات المحتملة التي تنتظر طهران في أكثر من منطقة نفوذ عربي وإقليمي. فهل يكتفي هذا الجناح الشيعي الإيراني المتشدّد بهذا النوع من الهجمات ضدّ المصالح والمؤسسات السنّيّة والكردية؟ وهل دخلت الاستخبارات التركية في حالة استنفار تحسّباً لمحاولات تسجيل اختراق أمني بتوقيع هذه المجموعات وبقرار إيراني يستهدف المصالح التركية بعد الهجمات الأخيرة على المواقع العسكرية التركية في العراق؟
قيل لنا في شهر أيلول المنصرم إنّ الانتخابات القادمة ستؤدّي إلى تحسين الوضع في العراق، وإنّ القيادات السياسية وأحزابها سيستجيبون لقواعد اللعبة الديموقراطية التي ارتضاها العراقيون بالاحتكام إلى صندوق الانتخابات كوسيلة وحيدة للتغيير. لكنّ الذي حدث هو العكس، وقد صدقت توقّعات البعض في العراق التي كانت تقول إنّ التصعيد السياسي والحزبي الحاصل اليوم سببه حالة الإحباط وخيبة الأمل التي كانت تشير قبل الانتخابات إلى استحالة التغيير وإلى بقاء المشهد السياسي على حاله. ثبت اليوم أنّ البديل من فقدان الأمل بالمستقبل واستحالة الرهان على تغيير سياسي وحزبي حقيقي كان اللجوء إلى العنف أو التلويح بالفوضى لحماية النفوذ والمصالح.
إنّ الرسائل التي يوجّهها البعض في المحور الشيعي الجديد مختصرة وواضحة: إمّا أن يتخلّى الصدر عن عناده على الرغم من حصوله على الكتلة الكبرى في البرلمان، ويفتح الطريق أمام التحالف المعلن، وإمّا أن يذهب إلى انتخابات مبكرة أخرى تعيد التوازنات إلى سابق عهدها، وإمّا أن يدفع سُنّة العراق وأكراده الثمن لإرضاء إيران وحلفائها عبر تحمّل ارتدادات التفجير الأمني بما لا تُحمد عقباه.
يُسمَح لطهران أن تتدخّل مباشرة في ملفّ الأزمة عبر إرسال قائد “فيلق القدس” الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد في محاولة للتوسّط بين “الإطار التنسيقي” والتيار الصدري لتوحيد مواقف القوى الشيعية في العراق. لكن تُمنع أنقرة وأبوظبي والرياض من القيام بأيّ تحرّك لدعم القوى السنّيّة ودعوتها إلى توحيد مواقفها أو التنسيق مع كتلة الصدر وحزب مسعود البرزاني.
حذّر حسين العقابي النائب السابق عن كتلة “النهج الوطني” المنضوية ضمن “الإطار التنسيقي” من تفرّد طرف شيعي واحد بتشكيل الحكومة وإقصاء الآخرين. وقال إنّ “أيّ طرف ينفرد بالمناصب، سوف يسبّب له الطرف الآخر مشاكل عميقة، وهذا غير مقبول في الأوساط الشيعية. واقعنا العراقي ليست فيه أغلبيّة سياسية. إنّها غير ممكنة. وتفرُّد طرف شيعي بالسلطة والذهاب نحو السُنّة والكُرد سيكونان إقصاءً للآخرين، وتعميقاً للمشكلة”.
بعض ما قيل لسُنّة العراق لتحذيرهم أو ربّما تهديدهم: مواقف الساسة السنّة ضدّ الداعمين السياسيّين للحشد لا توضع فقط في خانة الغدر ونكران الجميل، بل في خانة الغباء أيضاً
التهديدات للساسة السنّة
بعض ما قيل لسُنّة العراق لتحذيرهم أو ربّما تهديدهم: مواقف الساسة السنّة ضدّ الداعمين السياسيّين للحشد لا توضع فقط في خانة الغدر ونكران الجميل، بل في خانة الغباء أيضاً، وذلك لأنّ السياسة هي لعبة حفظ المصالح قبل أن تكون وسيلة للتآمر والعمالة، وليس من مصلحة الساسة السُنّة أن يتآمروا على مَن حمى أهلهم وما زال يحميهم مع قدرته على التخلّي عنهم!
حسمت قيادات شيعية عراقية موقفها في تحميل تركيا والإمارات مسؤولية التقارب السنّيّ تحت سقف البرلمان الجديد بقرار إيراني. لن تسمح طهران لأحد بتغيير المعادلات الأميركية التي منحتها هذين الثقل والدور في لعبة التوازنات السياسية والحزبية في الداخل العراقي قبل انسحاب واشنطن من البلد. وهي لن تسمح أيضاً باقتتال الشيعة، ومَن عليه دفع ثمن الحؤول دون ذلك هم السنّة والأكراد هناك. هل هناك مبالغة في الجمع بين ما يجري في العراق اليوم وبين الهجمات الإرهابية التي تستهدف السعودية والإمارات عبر أدوات إيرانية في اليمن؟
إقرأ أيضاً: إيران وطاولة سوريا الإقليميّة: عود ثقاب يهدّد بالاشتعال؟
بين آخر التوصيفات التي لخّصت لنا المشهد القائم في العراق: “المحنة ليست محنة الصدر، على أيّ حال. وإنّما هي محنة المشروع الوطني العراقي، الذي كلّما برز برأسه، جاء مَنْ يقطعه”.