تطوّرات متسارعة ومفاجئة، وربّما مترابطة، شهدتها نهاية الأسبوع، بدءاً بإجراءات المصرف المركزي التي دفعت سعر الصرف إلى سلوك مسار عكسيّ من الارتفاع إلى الانخفاض، ثمّ تسليم السفيرة الأميركية دوروثي شيا كتاباً خطّيّاً للرئيس نجيب ميقاتي يبدِّد المخاوف من أن تعرقل العقوبات الأميركية اتفاقيات الطاقة بين لبنان ومصر والأردن، ثمّ إعلان ثنائي حزب الله وحركة أمل الموافقة المشروطة على حضور جلسات مجلس الوزراء، “المخصّصة لإقرار الموازنة ومناقشة خطة التعافي الاقتصادي، وكلّ ما يرتبط بتحسين الوضع المعيشي والحياتي للّبنانيين”.
يأتي ذلك في وقت تقدّمت حظوظ التوصّل إلى اتفاق بين واشنطن وطهران في إطار المفاوضات الجارية في فيينا، بالتزامن مع إعلان عضو في لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني أنّ العلاقات بين إيران والسعودية يتمّ إحياؤها، وأنّ السفارتين تستعدّان لإعادة فتحهما. وهو ما دفع إلى إقامة ربط بين هذه “الانفراجات” الدولية والإقليمية وبين “الانفراجات” في الداخل اللبناني من باب انعكاس الأولى على الثانية.
لا ريب أنّ الحزب يعتبر الاستحقاقين النيابي والرئاسي المقبلين مفصليّيْن وذَوَيْ أهميّة غير مسبوقة بالقياس إلى أيّ من الاستحقاقات النيابية أو الرئاسية السابقة
لكن بغضّ النظر عن دقّة هذا الربط ومتانته في ظلّ تأرجح المشهد الدولي والإقليمي، فإنّ التطوّرات اللبنانية الأخيرة كانت محكومة أيضاً ببلوغ الانهيار الاقتصادي عتبات باتت تشكّل مخاطر اجتماعية وأمنيّة مع تزايد التّحدّيات التي تواجهها المؤسّسات العسكرية والأمنيّة كلّما ارتفع سعر الصرف.
لا شكّ أنّ هذا الأمر دفع الحزب والحركة إلى تعديل موقفهما بشأن المقاطعة المطلقة لجلسات مجلس الوزراء بغية دحض اتّهامهما بالتعطيل في وقت يسلك الانهيار مسارات دراماتيكية. لا سيّما أنّ رسالة التطمين الأميركية غير النهائية لميقاتي أحرجت الحزب باعتبار أنّها تُظهر حرصاً أميركياً على الحدّ من تبعات الانهيار على الدولة والمجتمع فيما يستمرّ الحزب والحركة في سياساتهما التعطيليّة. أما الحجّة التي على أساسها أعلنا مقاطعتهما لجلسات مجلس الوزراء فما عادت مقنعة بعدما دخلت إجراءات القاضي طارق البيطار المتّصلة بانفجار المرفأ دائرة المراوحة والتعطيل.
يعيد ذلك التأكيد مرّة جديدة أنّ لبنان ما يزال ساحة خلفيّة رئيسية للتجاذب الإيراني – الأميركي. وهو ما كان دلّ عليه بقوّة منتصف آب الماضي إعلان السفيرة مساعدة لبنان في استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا بعد توفير كميّات من الغاز المصري للأردن، وذلك فورَ إعلان حزب الله استقدام ناقلات نفط إيرانية لتزويد المنشآت الحيوية في لبنان بالمازوت بعد تفاقم أزمة المحروقات في مطالع الصيف الماضي.
تتواصل هذه المنافسة المحمومة بين الجانبين الأميركي والإيراني لناحية محاولة كلّ منهما اتّهام الآخر بالتسبّب بتفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية أو لناحية محاولة كلّ منهما نفي هذه التهمة عن نفسه. منافسة ستتصلّب أكثر كلّما اقترب موعد الانتخابات النيابية في 15 أيّار. وليس أدلّ على ذلك من اعتبار نائب الأمين العامّ لحزب الله نعيم قاسم السبت أنّ السبب الأوّل للانهيار هو “الحصار الأميركي الظالم على لبنان”، متّهماً “عملاء السفارة الأميركية وجماعات المنظمات غير الحكومية” بالمساهمة في هذا الحصار. وهو ما يشير إلى دخول الحزب مرحلة التعبئة للانتخابات التشريعية من خلال تحديد خريطة الخصوم الواقعيين والافتراضيين.
استحقاقان مفصليّان
لا ريب أنّ الحزب يعتبر الاستحقاقين النيابي والرئاسي المقبلين مفصليّيْن وذَوَيْ أهميّة غير مسبوقة بالقياس إلى أيّ من الاستحقاقات النيابية أو الرئاسية السابقة. فالحزب باعتباره جزءاً من الاستراتيجية العسكرية والسياسية الإيرانية يخوض هذين الاستحقاقين بوصفهما محطّتين رئيسيّتين في مسار التجاذب الأميركي – الإيراني في المنطقة، سواء توصّل الجانبان إلى اتفاق في فيينا أو لا. فالمسألة هنا لا تتعلّق بحصول الاتفاق أو عدمه وإنّما بطبيعة الاتفاق ومضمونه الإقليمي.
لذلك يريد الحزب الفوز بهذين الاستحقاقين فوزاً واضحاً وإلا فإنّ نفوذه يكون قد تراجع عمّا كان عليه في لحظة انتخاب ميشال عون حليفه الرئيسي منذ 2006، ثمّ في لحظة الانتخابات النيابية في 2018 حين حاز وحلفاءه الغالبيّة النيابية، فنال تهنئة الجنرال الراحل قاسم سليماني.
عودة ثنائي حزب الله وحركة أمل إلى حضور جلسات مجلس الوزراء لا تعني العودة إلى الوضع الطبيعي، أي إلى الانتظام المؤسساتي والدستوري
وعليه لا أولويّة تتقدّم عند الحزب على أولويّة الفوز بهذين الاستحقاقين أو منع خصومه من تحقيق الانتصار فيهما. فالشرط الرئيسي لإتمام هذين الاستحقاقين هو ضمان الحزب فوزه فيهما وإلّا فإنّ إتمامهما سيكون مهدّداً بقوّة. وهذا مأزق كبير للحزب. فدفعه باتجاه تأجيل الانتخابات النيابية لن يكون بلا ارتدادات سلبية عليه. إذ سيظهره بمظهر الخائف من نتائج الانتخابات، وعندئذٍ سيكون نفوذه السياسي موضع شكّ أكبر، وسيتضاعف الضغط الدولي عليه في ظلّ الدفع الدولي، ولا سيّما الفرنسي، لإجراء الانتخابات.
يدفع كلّ ذلك إلى الاعتقاد أنّ للحزب مصلحة مبدئيّة في حصول الانتخابات في موعدها، لكنّه في المقابل يريد الاحتفاظ مع حلفائه بالغالبية النيابية. وهذا وضع لا شكّ أنّه مربكٌ للحزب في ظلّ التصدّعات الانتخابية التي يعانيها حليفه التيار الوطني الحرّ، وفي ظلّ الحرب الباردة بين حليفيْه التيار وحركة أمل. فضلاً عن أنّ عون والنائب جبران باسيل يحاولان الإمساك بورقة رئاسة الجمهورية لا بوجه خصومهما وحسب، بل بوجه الحزب أيضاً، وهذا عنوان إرباك إضافي للأخير.
توريث باسيل
وفي هذا السياق لا يمكن إغفال تصريحات رئيس الجمهورية نهاية العام الفائت بأنّه لن يسلّم الرئاسة إلى فراغ. مع كلّ التأويلات والتوضيحات التي أعقبت كلامه هذا حمّال الأوجه. خصوصاً أنّ الرئيس عاد وتحدّث منذ نحو عشرة أيّام عن أهليّة صهره باسيل للترشّح لرئاسة الجمهورية. وهو ما ذكّر بقوله في بداية عهده إنّ باسيل متقدّم على سواه في السباق الرئاسي.
تؤكّد المؤكّد تصريحات الرئيس، لجهة تصميمه منذ بداية ولايته على ضمان انتخاب باسيل خلفاً له. فكيف الحال مع بداية نهاية ولايته؟ ولذلك سيكون الهدف الرئيسي للعهد في الأشهر الأخيرة لولايته هو “تسليم” كرسي الرئاسة إلى جبران باسيل. ولا شكّ أنّ تجربة “الجنرال” مع الاستحقاقات الرئاسية منذ نهاية الثمانينيّات كافية لتوقّع السيناريوهات والمناورات المختلفة التي قد يلجأ إليها العهد وباسيل على أعتاب الاستحقاقين النيابي والرئاسي اللذين سيحدّدان المستقبل السياسي للتيار الوطني الحر ولباسيل شخصيّاً.
وإذا كانت رئاسة باسيل تبدو الآن صعبة جدّاً، إن لم تكن مستحيلة، فذلك لا يمنع الرئيس وصهره من طرحها، إن لم يكن لتحقيقها فلوضعها على طاولة المفاوضات والمقايضات مع حليفهما حزب الله. خصوصاً أنّ باسيل، الذي ارتدّ فشل العهد سلباً عليه وأضعفه أكثر أمام الحزب، أراد قلب هذه المعادلة من خلال ممارسة المواجهة العلنية للحزب في لحظة لا يملك فيها الأخير ترف خسارة أيّ من حلفائه. وهذا أحد أسباب عودته المشروطة إلى مجلس الوزراء بعدما بات تعطيله إيّاه نقطة خلاف رئيسية مع الرئيس وباسيل.
سيف التعطيل
أيّاً يكن أمر الاستحقاقات المقبلة، فإنّ عودة ثنائي حزب الله وحركة أمل إلى حضور جلسات مجلس الوزراء لا تعني العودة إلى الوضع الطبيعي، أي إلى الانتظام المؤسساتي والدستوري. إذ إنّ طبيعة هذه “العودة الشيعية” تحمل في طيّاتها كلّ مظاهر الوضع الاستثنائي لجهة الاستمرار في إشهار سيف التعطيل من خلال ربط حضور جلسات مجلس الوزراء بجدول أعمالها. وهو ما يندرج في سياق الضغط التاريخي على رئاسة الحكومة بغية إضعافها وخلخلة مركزيّتها في النظام السياسي.
إقرأ أيضاً: برّي يرفض “مصالحة انتخابية”: يجب كسر باسيل
فهذه ليست مرحلة الحسابات السياسيّة القصيرة الأمد والعطاء من دون مقابل، بل إنّ أيّ خطوة يقوم بها الحزب راهناً مرتبطة بحسابات المرحلة المقبلة لجهة مصير الاستحقاقين النيابي والرئاسي وتقلّبات بورصة العلاقات الإقليمية والدولية التي ستنعكس حكماً على الداخل اللبناني… وإلى حين “وضوح المشهد” فإنّ الحزب سيمسك بكلّ أوراق قوّته، وعلى رأسها ورقة التعطيل!