يُعَرَّفُ الصيدليّ بأنّه شخص مختصّ في علم الأدوية. أمّا الصيدلية فهي متجر لبيع الأدوية، بالإضافة إلى منتجات أخرى، مثل مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة ومنتجات العناية بالفم ولوازم الأطفال. بمعنى آخر، الصيدلي هو تاجر إنساني، يتوجّب عليه الموازنة الدقيقة بين الربح والضمير بميزان حسّاس للغاية كميزان الصائغ. وهذا حال كل أصحاب المهن ذات الصبغة الإنسانية.
بيد أنّ الانهيار الاقتصادي في لبنان أدّى إلى تفكّك منظومة القيم الهشّة التي كانت تُفاخر بها المهن الإنسانية في لبنان، لذا “طبشت” كفّة الربح في الميزان لدى البعض على حساب الضمير الذي دخل في غيبوبة طويلة الأمد.
قد يبدو الكلام عن الصيدليات مفاجئاً بعض الشيء، لأنّها نجحت في تقديم نفسها على أنّها ضحية للشركات المستوردة، لكنّ الواقع ليس كذلك تماماً
التخزين المبكّر
بينما كانت جائحة كورونا تنتشر في الربوع اللبنانية ناثرة الرعب في القلوب، بالتزامن مع السقوط المستمرّ للّيرة اللبنانية، كان الأطراف المرتبطون بتجارة الدواء، من شركات استيراد ومستودعات، ولم تكن بعض الصيدليات بعيدة عنهم، منهمكين بتخزين الأدوية وحليب الأطفال حتى يحين موعد رفع الدعم حسب التوقيت الخاصّ بمصرف لبنان. وذلك كي يبيعوا على أساس سعر دولار السوق السوداء، ما اشتروه على دولار 1500 ليرة.
قد يبدو الكلام عن الصيدليات مفاجئاً بعض الشيء، لأنّها نجحت في تقديم نفسها على أنّها ضحية للشركات المستوردة، لكنّ الواقع ليس كذلك تماماً. فعدد وازن منها ضالع في عمليات إخفاء الأدوية. طبعاً الشركات المستوردة هي التي تتحكّم في السوق الدوائية بشكل كبير، وقد اتّبعت سياسة توزيع مقنّنة تقوم على تسليم الصيدليات الأدوية وحليب الأطفال بالاستناد الى الجداول الإحصائية عن حجم سحوبات كلّ صيدلية خلال السنوات التي سبقت الأزمة.
لكنّ الصيدليات استطاعت في كثير من الأحيان تجاوز هذه العقبة عبر القناة الخلفيّة للسوق، وهي المستودعات، التي تمتلك الأدوية المطلوبة، مع هامش ربح أقلّ للصيدلي يراوح بين 15% و20%، وأحياناً ينخفض إلى 10% فقط.
أمّا بالنسبة الى حليب الأطفال، فقد حصل “أساس” على معلومات تفيد بأنّ عدداً من الصيدليات، ولا سيّما في مناطق الأطراف، لم تبِع سوى 10% فقط من كلّ أنواع حليب الأطفال الذي تسلّمته من الشركات، وأبقت على 90% مخزّنة تنتظر لحظة رفع الدعم.
وفي مناطق الأطراف أيضاً، استمرأ بعض الصيادلة ضمّ حصصهم من الأدوية وحليب الأطفال إلى قوافل التهريب، إذ يعود عليهم ذلك بمدخول دولاري مغرٍ، بعيداً عن المصطلحات الإنسانية العقيمة.
أضف إلى ذلك أنّ الصيدليات استفادت من بعض النوافذ الصغيرة لرفع مخزونها من الأدوية. أحد الأمثلة على ذلك حسب مصدر “صيدلي”، شراء دواء مثل كونكور(CONCOR 5MG) لتنظم دقّات القلب من شركة “نيو الفارما”، التي تعود ملكيّتها إلى شقيق وزير حزب الله الأسبق محمد فنيش، وهي ذات سمعة سيّئة، بسعر بلغ 45 ألف ليرة، في حين أنّ سعره كان وقتها 19 ألف ليرة. ولم يبالِ الصيادلة بارتفاع سعره لأنّه بعد رفع الدعم سيصبح أكثر بكثير من المبلغ الذي اشتروه به (أصبح سعره 91.330 ليرة).
ومن الأساليب المبتكرة أيضاً لرفع الأسعار، تسجيل أسماء الزبائن الذين يطلبون حليب الأطفال مع النوع، والزعم بشرائه من خارج لبنان، وبالتالي فسعره سيكون حتماً بالدولار، في حين أن الكمية كلها أحضرت من المخزن. والعبوة سعة 400 غرام التي كان يجب بيعها بسعر 14 ألف ليرة، مع هامش ربحي بحدود 5 %، بيعت بمبالغ وصلت الى 200 ألف ليرة، واليوم أضحى السعر أعلى.
مصدر خاص في صيدلية كبيرة لـ”أساس”: الشركات المستوردة تقوم بذلك عمداً، بقصد إلهاء الناس بالبحث عن أدويتهم عوض الخوض في جدل لا ينتهي حول الأسعار، قد يتحوّل إلى حملات على مواقع التواصل الاجتماعي
الأدوية المدعومة
يلاحظ اللبنانيون أنّه على الرغم من رفع الدعم، أو تعديل نِسَبِهِ على عدد كبير من الأدوية المزمنة، إلا أنّها لا تزال غير متوافرة، ويصعب إيجادها. يقول مصدر خاص في صيدلية كبيرة لـ”أساس” إنّ الشركات المستوردة تقوم بذلك عمداً، بقصد إلهاء الناس بالبحث عن أدويتهم عوض الخوض في جدل لا ينتهي حول الأسعار، قد يتحوّل إلى حملات على مواقع التواصل الاجتماعي. ويشير المصدر إلى أنّ الصيدليات لا تزال تحصل على قسم من الأدوية المزمنة بأسعار مدعومة، ويختلف ذلك من صيدلية إلى أخرى، حسب سحوباتها وحجم مبيعاتها السابقة على الأزمة.
ويعطينا بعض الأمثلة على ذلك: دواء أملور (AMLOR 5 MG)، لعلاج ارتفاع ضغط الدم، تتسلّم منه بعض الصيدليات قطعة أو قطعتين على الأكثر، بسعر مدعوم يبلغ 14,548 ليرة، ثمّ تبيعه بالسعر الذي وضعته وزارة الصحة والبالغ 156.228 ليرة.
ومثله دواء (TRIPLIXAM 10 MG/2.5) لأمراض القلب، الذي يتمّ شراؤه بسعر 26,931 ليرة، ويُباع بسعر 186.325 ليرة. ودواء (DIAMICRON 60 MG) لعلاج السكّري من النوع الثاني، يتمّ شراؤه بسعر 9,320 ليرة، ويُباع بسعر 88.364 ليرة. وهناك أمثلة كثيرة أيضاً.
في البداية قامت الشركات بمَهْرِ تلك الأدوية بختم “مدعوم” بطلب من وزارة الصحة وتحت رقابتها، لكن بعد فترة بسيطة، لم يعد هناك لا ختم ولا أيّ إشارة إلى أنّ هذا الدواء بالسعر القديم المدعوم، ما خلا “الستيكرز” البيضاء الصغيرة، التي يعدّلها الصيدلي أو الموظف يدويّاً في إجراء اعتاد عليه الزبائن، حيث يُبَرَّرُ الأمر بتغيّر سعر صرف الدولار بين تاريخ الشراء وتاريخ البيع.
زيادة الرواتب
مع كلّ هذه المتغيّرات، وبالتوازي مع الانهيارات المتتالية في سعر الصرف، كان من الطبيعي أن يقوم كلّ الموظفين والعاملين بطلب زيادة على الراتب، لكن لم يستجب كلّ أصحاب الصيدليات.
فمنهم من قبل بزيادة توازي حجم التآكل في المداخيل، ومنهم من قرّر زيادة أقلّ من ذلك، لكنّها مقبولة من جانب الموظفين، والبعض وافق على زيادة ضئيلة. وثمّة قسم أبى الزيادة، ولا يزال، على الرغم من ارتفاع المداخيل حتى ضمن نسبة الـ22.5% الرسمية. ومن هؤلاء الذين تعرّضوا للإجحاف حصلنا على معلوماتنا.
إقرأ أيضاً: الإنترنت والاتّصالات: الانهيار في آذار؟
ختاماً، فإنّ المذكور آنفاً هو نقطة في بحر ما يجري في عالم الصيدليات. وعدم نشر اسم أي صيدلية أو مكانها لأنّ الهدف ليس التشهير بأحد، بل محاولة يائسة لدقّ ناقوس الخطر، مع الارتفاع الكارثي لأسعار الأدوية، وازدياد معاناة الناس، واقتراب رفع الدعم نهائياً عن الأدوية المزمنة، وخاصة مع انتخاب مجلس نقابة جديد للصيادلة، علّ ما ورد يحفّز المجلس الجديد على ملاحقة من يسيء الى مهنة يغلب عليها الطابع الإنساني لدى العقل الجمعي للناس.