2021: لبنان فوّت قطار الأموال السهلة

مدة القراءة 5 د

لا تشبه أزمة لبنان المالية الزمان الذي وقعت فيه. لم تكن أزمات الديون العامّة “موضة” سائدة في السنتين الأخيرتين، لا في العالم المتقدّم ولا في الدول الناشئة، لكنّ المشهد مقبل على تغيير كبير في 2022. فغيوم الأزمات تتجمّع في كلّ مكان، وسيندم اللبنانيون كثيراً على التأخّر في إطلاق خطة التعافي والتفاوض مع صندوق النقد الدولي والدائنين.

شهد العالم مفارقة اقتصادية مذهلة منذ اندلاع جائحة كورونا. فبعد انكماش اقتصادي حادّ في الربعين الثاني والثالث من عام 2020، أتى التعافي سريعاً، مدفوعاً بقوة الاستهلاك الذي غذّاه ضخّ هائل للسيولة من البنوك المركزية، وحُزم الدعم الحكومي، بما في ذلك مئات مليارات الدولارات التي دخلت إلى حسابات المواطنين مباشرة في الولايات المتحدة والعديد من الدول.

سجّلت الديون العالمية أكبر قفزة في عام واحد منذ الحرب العالمية الثانية، وفق مسح صندوق النقد الدولي، لتصل إلى 226 تريليون دولار

وامتدّت الطفرة إلى أسواق الأسهم والسلع، مستفيدة من صغار المضاربين الذين هرعوا إلى استثمار ما وصل إلى أيديهم من المساعدات الحكومية. كانت النتيجة ارتفاعات كبيرة لأسواق الأسهم، إذ قفز مؤشّر “إس إند بي” لأكبر 500 شركة في البورصة الأميركية بنحو 27% على مدار عام 2021، وأضاف مؤشّر “ناسداك” 21%، وقاربت مكاسب مؤشّر “داو جونز” 19%. وللمرّة الأولى في التاريخ، دخلت ألف شركة جديدة إلى وول ستريت عبر عمليات طرح عامّ أوّلي (IPOs) جمعت من خلالها 312 مليار دولار خلال سنة واحدة. وشهدت العملات المشفّرة، مثل “بيتكوين” و”إيثر”، قفزات فلكية.

بدت تلك الطفرات إنجازاً مبهراً للنظام المالي العالمي، فليس من السهل أن يمرّ العالم بجائحة كهذه من دون أن يتعثّر أيّ من البنوك العالمية أو الشركات المتعدّدة الجنسيّات، على نحو ما حدث في أزمة 2008، ومن دون أن يُسمع صراخ أيّ من حكومات الدول الكبرى أو الناشئة المثقلة بالديون، على نحو ما حدث في أزمة الديون اليونانية أواخر عام 2009، أو حين أوشكت إيطاليا والبرتغال وإسبانيا على التعثّر في 2012.

لا شكّ أنّ الحكومات والبنوك المركزية ومؤسسات التمويل الدولية تعلّمت الكثير من الأزمات الماضية، وكانت سريعة المبادرة إلى التحرّك الاستباقي، وبإجراءات كاسحة، للحؤول دون توقّف عجلة الاقتصاد. فقد فتحت الحكومات خزائن الإنفاق بلا حدود، وضخّت البنوك المركزية ما تحتاج إليه الأسواق من السيولة، وأطلقت مجموعة العشرين (خلال الرئاسة السعودية عام 2020) مبادرة لتعليق مدفوعات خدمة الدين الرسمية للدول الأقلّ دخلاً، ثمّ أنشأت ما سُمّي بـ”الإطار المشترك” لمساعدة تلك الدول على إعادة هيكلة ديونها. وقام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمبادرات غير مسبوقة لتوفير التمويل الطارئ للدول النامية، ولا سيّما لجهود مكافحة الوباء، إضافة إلى أكبر عملية لتوزيع مخصّصات حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي بقيمة 650 مليار دولار، التي استفاد منها لبنان بـ1.4 مليار دولار.

كلّ تلك الإجراءات أخرجت الاقتصاد العالمي وأسواق المال من حال الأزمة إلى حال الانتعاش في وقت قياسي. لكن لا يمكن للحفلة إلا أن تنتهي في ساعةٍ ما. فما أنفقته الحكومات لإنقاذ الاقتصادات المحليّة ودعم الأُسر المتضرّرة بدأت فاتورته تفرض نفسها على الأجندة العالمية. فقد سجّلت الديون العالمية أكبر قفزة في عام واحد منذ الحرب العالمية الثانية، وفق مسح صندوق النقد الدولي، لتصل إلى 226 تريليون دولار، أي ما يعادل 256% من الناتج الاقتصادي العالمي في 2020. الديون الحكومية على وجه التحديد قفزت بنسبة 20%، وباتت حصّتها من مجمل الديون العالمية الأعلى منذ خمسين عاماً.

الآن، وفي مطلع العام الجديد، تبرز جملة من المخاطر دفعة واحدة. فمع دخوله انقضت مهلة “تعليق مدفوعات خدمة الدين” للدول الأقلّ دخلاً، وهو ما سيجعلها مجدّداً تحت ضغط خدمة الديون، وستصبح شروط الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي أقلّ تراخياً. والأكثر صعوبة بالنسبة للدول الناشئة هو مواجهة مخاطر ارتفاع تكاليف التمويل والفوائد، مع بدء البنوك المركزية الكبرى بتشديد سياساتها النقدية، الأمر الذي قد يترتّب عليه تدفّق الأموال من الأسواق الناشئة إلى الأسواق المتقدّمة. ربّما تكون أزمة الليرة التركية في الأشهر الماضية حالة خاصة بذلك البلد، لكنّ كثيرين يحذّرون من تحدّيات صعبة تنتظر الاقتصادات الناشئة ذات التكوين المشابه.

كانت السنتان الماضيتان فترة سماح لا مثيل لها، أتاحت الحصول على التمويل بتكلفة منخفضة للشركات والحكومات على نحو لا سابق له. لم يكن من الطبيعي أن تتعثّر دولة مثل لبنان في ظرف كهذا، حين كانت إصدارات السندات تتلقّى طلبات بأضعاف أضعاف المطلوب، وحين كان صندوق النقد الدولي يعرض التمويل على من يريد ومن لا يريد. كان الظرف يتطلّب فائضاً هائلاً من الفشل ليصل الأمر بأيّة دولة إلى التعثّر.

إقرأ أيضاً: الإنترنت والاتّصالات: الانهيار في آذار؟

الآن، وقد اقترب وقت الحساب، هناك من يحذّر من موجات تعثّر تشبه ما حدث في أميركا اللاتينية في الثمانينيّات أو أزمة اليونان أو تعثّرات الأرجنتين المتلاحقة. والخشية أن تكون فرصة مهمّة قد فاتت لإعادة هيكلة الديون اللبنانية وتأهيل البلاد للعودة إلى أسواق رأس المال، فيما كان أركان الحكم في لبنان يتجادلون في جنس الخسائر.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…