بالفعل، جاءت كلمة جبران باسيل شرحاً مفصّلاً للتوطئة التي تولّى تقديمها رئيس الجمهورية ميشال عون في خطابه الأخير. طرح الأوّل عناوين عامّة انطلاقاً من موقعه رئيساً للجمهورية، وعمل الثاني على تشريحها وتفنيدها وتقديمها بنبرة حادّة، عالية السقف، ليطرحها ضمن سلسلة بنود:
– مهاجمة رئيس مجلس النواب نبيه بري على نحو واضح وصريح، متّهماً إيّاه بأنّه رأس المنظومة الحاكمة وحاميها الأساسي… والحاجز الأصعب أمام قيام دولة المؤسسات والقانون، خصوصاً أنّ باسيل يحمّل برّي مسؤولية الـ”لا قرار” الذي اتّخذه المجلس الدستوري بحقّ الطعن المقدّم من التيار الوطني الحرّ، الأمر الذي زاد من منسوب “العدائيّة” في خطاب رئيس “التيار” اتجاه رئيس المجلس.
الأكيد أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” في أسوأ أيامه، يتخبّط في أزماته الداخلية، سواء على الصعيد الحزبي أو المسيحي، حيث يعاني من تراجعات كبيرة من شأنها أن تهدّد مستقبله السياسي بعدما صارت رئاسة الجمهورية وراءه بفعل العقوبات
– الإعلان صراحةً أنّ “تفاهم مار مخايل” استنفد نفسه، أو بالأحرى “خدم عسكريّته”، وصار لا بدّ من تطوير إلزاميّ له، وهو ما يعني أنّ التفاهم أمام مفترق طرق مصيري، لأنّه “ما منقدر نخسر الدولة كرمال المقاومة”، بعدما تولّى باسيل تقديم نفسه “ضحيةً” لهذا التفاهم، سواء من خلال تعرّضه لاغتيال معنوي تولّته انتفاضة 17 تشرين الثاني أو من خلال إدراجه على لائحة العقوبات الأميركية لرفضه تمزيق التفاهم.
– تحميل “حزب الله” مسؤولية النتائج التي قد تترتّب على أيّ خيار أو قرار يتّخذه “التيار الوطني الحر” بشأن التفاهم: “أنا ما عم إستجدي عطف، أنا عم نبّه من عواقب هالسياسات يلّي رح ندفع كلّنا ثمنها، وما بينجى منها حدا… القضيّة صار بدها حوار عميق وإلاّ ما فينا نكمّل هيك! التفاهم بيضلّ جيّد ببنوده، ولكن صرنا بحاجة لشي جديد يلبّي حاجات اللبنانيين ويردّ على مخاوفهم. وإذا ما في استعداد فعليّ لهالشي، بيكون القرار هو قراركم أنتم”.
– اعترف بأنّ النظام السياسي معطّل، فطَرَح اللامركزية الإدارية والماليّة الموسّعة على الطاولة، واقترح الذهاب نحو الإدارات الذاتية بعد فشل كلّ محاولات بناء الدولة المركزية الإصلاحية.
– الإصرار على تعديل قانون الانتخابات، ولو أنّ المهل القانونية لم تعد تسمح بذلك، إذ يقول “رح نبقى نقاتل لما نحصر المنتشرين بـ128 نائب بس بدوائرهم بلبنان ونحرمهم من 6 نواب زيادة بيمثلوهم مباشرةً بالانتشار. (الحقيقة هي انو يكون عندهم اختيار 134 نائب بدل 128، ومش 6 نواب بدل 128 متل ما عم يشيّعوا). كمان رح نكمّل نقاتل للميغاسنتر ليقدروا اللبنانيين المقيمين خارج مناطقهم ينتخبوا وين ما بيريدوا”.
– الهجوم على دول الخليج، والمملكة العربية السعودية تحديداً، من دون تسميتها، حين اتّهم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بأنّه “مطلوب منه الفتنة بلبنان، والطيّونة إجته شحمة على فطيرة (متل قصّة الحريري بالـ2017)”.
– الإعلان عن استعداده لإجراء زيارة علنية رسمية لسوريا، للمساهمة في “استنهاض المشرقية، التي يجب أن تتعزّز اقتصادياً لإعادة إعمار سوريا والعراق، واستنهاض لبنان”.
لعب باسيل أمس دور “المظلوم” الذي تعرّض لاغتيال سياسي من الجميع، في الداخل والخارج، وطلب من المسيحيين أن ينتخبوه، باعتباره ممثّلاً لمصالحهم في الدولة وثائراً يريد استرجاع بعض صلاحيّاتهم ووجودهم فيها
لكن وراء هذه المواقف التصعيدية، لا بدّ من البحث في الخلفيّات التي أمْلَت على جبران باسيل فتح النار في كلّ الاتجاهات، ولنعرف ما الذي يريده؟
الأكيد أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” في أسوأ أيامه، يتخبّط في أزماته الداخلية، سواء على الصعيد الحزبي أو المسيحي، حيث يعاني من تراجعات كبيرة من شأنها أن تهدّد مستقبله السياسي بعدما صارت رئاسة الجمهورية وراءه بفعل العقوبات (يردّد بعض المسؤولين العونيين أمام قواعدهم نقلاً عن رئيس الحزب: “نحن مقبلون على أربع سنوات صعبة مع الجلوس على مقاعد المعارضة)، وهو الذي ورث زعامة تاريخية قلّ نظيرها، وقد لا يبقى منها أكثر من عشرة نواب يمثّلون هذا الفريق. إضافةً إلى ما يحكى عن أنّ مشاركة المغتربين في انتخابات الـ128 نائباً، قد تعرّضه لخسارة مقعده النيابي في البترون.
وبناءً عليه يمكن وضع تصعيد باسيل في أكثر من خانة توظيفية:
– هو بمنزلة هروب إلى الأمام نظراً للتخبّط الذي يواجهه في السنة الأخيرة من عهد الرئيس ميشال عون، خصوصاً أنّ هذا الخطاب سيحرم العونيين أصوات حركة “أمل” بالكامل، حتى لو قرّر “حزب الله” دعمه في بعض الدوائر المشتركة، لكنّ منسوب الخطر صار أعلى، فضلاً عن أنّ خيار عدم خوض باسيل الانتخابات في البترون صار جدّيّاً.
– الضغط على “حزب الله” بغية تحقيق سلّة مطالب تحت عنوان “تطوير تفاهم مار مخايل”، في ضوء سؤال بديهي يتبادر إلى الأذهان: “إذا كان باسيل مقتنعاً بمشروع اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، فلماذا انتظر خمس سنوات من عهد الرئيس عون ليضعه على الطاولة؟ ألم يكن من الأجدى أن يكون أول مشاريع العهد حين كان لا يزال في عزّ قوّته؟”.
من الواضح أنّ باسيل لعب “صولد وأكبر” في كلمته أمس. ذهب مع حزب الله إلى حافّة الهاوية في موضوع أنّ الدولة يجب أن تكون فوق المقاومة. ذهب مع برّي إلى قطيعة نهائية يصعب الرجوع عنها بتصويره شيطان النظام وحارس هيكل فساده. وذهب مع جعجع إلى النهاية في اتّهامه بالعمالة لإسرائيل وأميركا، وبأنّه ينفّذ طلباً خليجياً (تلميحاً وليس تصريحاً) بـ”الفتنة”. وذهب مع العرب والسعودية إلى النهاية أيضاً بهذا الاتّهام. فلم يبقَ له غير ناخبيه، على قلّتهم، وحزب الله، على القليل المتبادل بينهما.
إقرأ أيضاً: عون وباسيل: الفدرالية … آخر المعارك
لعب باسيل أمس دور “المظلوم” الذي تعرّض لاغتيال سياسي من الجميع، في الداخل والخارج، وطلب من المسيحيين أن ينتخبوه، باعتباره ممثّلاً لمصالحهم في الدولة وثائراً يريد استرجاع بعض صلاحيّاتهم ووجودهم فيها.
هذه لعبة “ربّيحة”، لكن هل ينسى المسيحيون أنّه “حصان طروادة” في بيئتهم؟