المجتمع الدوليّ للبنان: مصارفكم نفّذت مؤامرة احتياليّة

مدة القراءة 6 د

لم يكن تفصيلاً بسيطاً ما أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في زيارته الأخيرة للبنان، لجهة اعتباره أنّ ما وراء الانهيار المصرفي كان عمليّة احتياليّة شبيهة بسلسلة بونزي، من خلال عرض فوائد مرتفعة لاستقطاب الأموال، ثمّ استخدام الأموال لدفع قيمة الفوائد. وأشار في نهاية حديثه إلى أنّ المجتمع الدولي لا يملك صلاحيّة ملاحقة الأموال التي تمّ تسريبها أخيراً إلى جيوب النافذين.

لم يكن غوتيريش الشخصيّة البارزة الأولى على المستوى الدولي التي استخدمت مصطلح “سلسلة بونزي”، للإشارة إلى نمط العمليّات المصرفيّة التي أدّت إلى الانهيار، إذ كان قد سبقه إلى ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه، في معرض تحميله المصارف مسؤوليّة جذب الأموال واستخدامها بطرق مشبوهة.

لم يكن تفصيلاً بسيطاً ما أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في زيارته الأخيرة للبنان، لجهة اعتباره أنّ ما وراء الانهيار المصرفي كان عمليّة احتياليّة شبيهة بسلسلة بونزي

والإشارة إلى نموذج البونزي، بالتحديد، تكتسب هنا أهميّة استثنائيّة، خصوصاً إذا جاءت على لسان كبار المؤثّرين على تطوّرات الأزمة اللبنانيّة كالرئيس الفرنسي والأمين العامّ للأمم المتحدة. فهذا التشخيص يعني ببساطة أنّ المجتمع الدولي يشخّص ما جرى في النظام المصرفي بوصفه عمليّة احتياليّة متعمّدة ومركّبة، ومع سابق تصوّر وتصميم، بهدف وضع اليد على أكبر قدر ممكن من أموال المودعين، وليس مجرّد حلقة من الضغوط الماليّة التي أدّت في النهاية إلى انهيار المصارف.

هذا التشخيص يوصّف القرارات المصرفيّة التي سبقت الانهيار، وأثر هذه القرارات على ملاءة وسيولة المصارف، ولا يتعارض بالضرورة مع الاعتراف بباقي العناصر التي أدّت إلى الأزمة، ومنها فساد السلطة السياسيّة وعوامل الخلل في بنية النموذج الاقتصادي اللبناني. وهذا تحديداً ما أشار إليه غوتيريش في التصريح نفسه.

ما هو “البونزي”؟

في بادئ الأمر، ولفهم مغزى الإشارة إلى مصطلح “سلسلة البونزي” عند الحديث عن أسباب الأزمة المصرفيّة، من المفيد العودة إلى تعريف المصطلح نفسه وشكل العمليّات التي يمثّلها، قبل ربطه بنوعيّة القرارات المصرفيّة التي تمّت الإشارة إليها. ففي العادة، يُطلق هذا المصطلح على نمط معيّن من العمليّات الماليّة الاحتياليّة، التي تحدث وفق تخطيط مسبق ومدروس، بحيث يتمّ عرض أرباح خياليّة على المستثمرين أو المساهمين، بهدف إغراء هؤلاء بتوظيف أموالهم لدى الجهة التي تدير هذا المخطّط. وفي العادة، لا تتوازى هذه الأرباح الخياليّة مع أيّ نشاط استثماري فعليّ يفسّر مصدر هذه الأرباح غير المعقولة، الأمر الذي يعطي نمط هذه العمليّات طابعه الاحتيالي المتعمّد منذ البداية.

ومجرّد دخول المستثمرين في سلسلة العمليّات هذه، يبدأ القيّمون على المخطّط بدفع الأرباح الخياليّة للمستثمرين الحاليّين من الاستثمارات الجديدة التي تدخل المخطّط. وبذلك، يدخل نمط العمليّات هذا في فقاعة كبيرة قوامها كتلة من الالتزامات الضخمة للمستثمرين، لا يقابلها أيّ سيولة فعليّة أو استثمارات قادرة على سداد هذه الالتزامات في المستقبل. وفي النهاية، يكون الهدف النهائي لهذا النموذج الاحتيالي وضع اليد على أكبر قدر ممكن من الأموال التي يتمّ توظيفها في هذا النمط الاحتيالي، قبل انهيار الهيكل وانكشاف الحيلة. وبمجرّد انهيار الهيكل، يكتشف الجميع أنّ الأموال تمّ تبديدها بطريقتين: إمّا عبر دفعها كأرباح خياليّة لاستقطاب أموال جديدة، أو عبر عمليّة السطو على الجزء المتبقّي من هذه الأموال، وهي العمليّة التي تمّ إنشاء النموذج لأجلها أساساً.

الأموال تمّ تبديدها بطريقتين: إمّا عبر دفعها كأرباح خياليّة لاستقطاب أموال جديدة، أو عبر عمليّة السطو على الجزء المتبقّي من هذه الأموال، وهي العمليّة التي تمّ إنشاء النموذج لأجلها أساساً

ربط المصطلح بكتلة الخسائر التي ضربت القطاع المصرفي في لبنان يعيدنا إلى العام 2016 تحديداً، أولى السنوات التي شهدت هندسات مصرف لبنان الماليّة، والتي حقّقت بعض نماذجها ربحاً فوريّاً بلغت نسبته 39% من أيّ مبالغ تقوم المصارف بتوظيفها بالدولار لدى مصرف لبنان. وللتمكّن من استقطاب الدولارات الكفيلة بتحقيق هذا الربح، شرعت المصارف منذ تلك السنة في زيادة معدّلات الفوائد التي تعرضها على المودعين، وخصوصاً أولئك الذين يتمكّنون من استقطاب “ودائع طازجة” من الخارج إلى النظام المصرفي.

ومنذ ذلك الوقت، كانت توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان باستخدام أموال المودعين تتراكم، لترتفع من 37.5 مليار دولار سنة 2015 (قبل إجراء هذه الهندسات)، إلى نحو 86 مليار دولار في أيلول 2019، بعد نحو ثلاث سنوات من القيام بهذا النوع من الهندسات الماليّة والعمليّات الاستثنائيّة. ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ المصارف قامت أيضاً بتحويل أموالها من المصارف المراسلة إلى مصرف لبنان، للاشتراك في هذا النوع من العمليّات المربحة.

تراكم الالتزامات على مصرف لبنان لمصلحة المصارف، كان يتوازى مع استنزاف مستمرّ في الدولارات الموجودة لدى المصرف المركزي، والمتأتّية أساساً من أموال المودعين الموجودة في النظام المصرفي. بل وتظهر الأرقام أنّ جزءاً أساسيّاً من هذا الاستنزاف في دولارات مصرف لبنان تمثّل في استفادة كبار المودعين والمساهمين في القطاع المصرفي من أرباح الفوائد والتوظيفات الخياليّة، وتحويل هذه الأموال إلى الخارج قبل حصول الانهيار المالي الكبير.

امتصاص الدولارات

وبحسب ما تُظهر دراسة أعدّها توفيق كاسبار بعد حصول الانهيار، تنامى الفارق بين التزامات مصرف لبنان وما تبقّى من موجوداته (وهو ما يُعرف بصافي احتياط النقد الأجنبي) من 1.9 مليار دولار سنة 2015، إلى 55.5 مليار دولار سنة 2019. ببساطة: كان مصرف لبنان يمتصّ دولارات المصارف، ثمّ يبدّدها في هذا النمط من العمليّات، وهو ما أنتج هذه الفجوة.

وهكذا كانت تتكامل كلّ عناصر سلسلة البونزي: من العوائد غير المنطقيّة التي تمّ عرضها مقابل استقطاب دولارات المودعين إلى النظام المصرفي، وتراكم الخسائر وتبديد هذه الدولارات في النموذج العبثيّ، وصولاً إلى وضع اليد على ما تبقّى من سيولة في النظام المصرفي وتحويلها إلى الخارج قبل انكشاف كتلة الخسائر وانهيار الهيكل على الجميع. وككلّ نموذج بونزي: لم يبقَ عند انكشاف كتلة الخسائر سوى القليل من السيولة، التي لا تكفي إلا لسداد نسبة صغيرة جدّاً من الالتزامات للمودعين.

إقرأ أيضاً: ماذا يعني رفع الدولار الرسميّ إلى 3 أو 6 آلاف؟

تشرح هذه الصورة طريقة تكوّن فجوة العملات الصعبة داخل النظام المالي، أي الفارق الموجود حاليّاً بين التزامات المصارف للمودعين بالعملات الأجنبيّة، والدولارات الموجودة حاليّاً في النظام المصرفي. ويُضاف إلى هذا المسار عوامل أخرى ساهمت في دفع البلاد إلى الأزمة الحاليّة، منها سياسة تثبيت سعر صرف التي أمعنت في تبديد دولارات مصرف لبنان خلال سنوات ما قبل الانهيار، وتعاظم معدّلات الدين العام والعجز في الميزانيّة العامّة، بالإضافة إلى الهدر والفساد التاريخيّين. ومن الناحية العمليّة، تضافرت جميع هذه العوامل لإنتاج الانهيار الشامل كما رأيناه، لكنّ “نموذج البونزي” مثّل أبرز الأسباب المتّصلة بخسائر القطاع المصرفي بالتحديد.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…