“تقطير التنازلات” هو عنوان المرحلة من زاوية الرؤية الإيرانية. ربما وصولاً إلى “التفاوض المباشر”، الذي قد يفاجىء المراقبين. وهناك تنازلان كبيران تمّ تقديمها “على طاولة المفاوضات” وقبل رفع أيّ عقوبات:
1- موافقة إيران على إعادة تركيب كاميرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمراقبة أنشطة منشأة “تسا” النووية في مدينة كرج (40 كلم غرب طهران).
هذا “التنازل” قدّمته إيران قبيل انطلاق المرحلة الثانية من الجولة السابعة لمفاوضات فيينا بين إيران ومجموعة دول 4+1. وقد أعلنه في وقت واحد وزير خارجيّتها حسين أمير عبداللهيان، ورئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية محمد إسلامي، وذلك في 9 كانون الأول الجاري.
2- اعلان فريق الرئيس الجديد ابراهيم رئيسي، صراحةً وقبل العودة إلى طاولة التفاوض في الجولة الجديدة، أنّه على استعداد للتخلّي عن خطوة التخصيب بدرجة 60 في المئة لقطع الطريق على وصول المفاوضات إلى طريق مسدود مع ما في ذلك من تداعيات سلبية على إيران قد لا تقف عند عودة الملف إلى مجلس الأمن الدولي. ويراهن فريق رئيسي على تسويق هذا القرار باعتبار أنّه سمح لإيران “بالاحتفاظ بالتخصيب بمستوى 20 في المئة بعدما كان الاتفاق السابق قد حرمها منه”. للقول إنّ إيران باتت قادرة على متابعة أنشطة التخصيب بهذا المستوى وبمستوى أقلّ بحيث تكون قادرة داخلياً على تطوير عملية إنتاج قضبان الوقود النووي لمحطة بوشهر الكهرونوويّة.
للتذكير، كانت قوى الدولة العميقة والمؤسسة العسكرية قد اتهمت الرئيس السابق حسن روحاني بـ”الخيانة”، لأنّه وافق على التخلّي عن حقّ إيران في تخصيب اليورانيوم بدرجة 20 في المئة من أجل التوصّل إلى اتفاق يُنهي العقوبات الاقتصادية.
و”تقطير التنازلات” يبدو “الخطة ب” في حال فشلت جهود الفريق المفاوض في التملّص منها أو عدم الوصول إليها. وهي تنازلات مهّدت الأرضية لتسهيل وصول الجولة السابعة إلى نتائج إيجابية نسبيّاً ومقبولة من الطرفين. وقد أدّت إلى الحدّ من التصعيد الأوروبي على خلفيّة اتّهام طهران بالمماطلة وعدم وجود نيّة جدّية للتوصّل إلى حلول عمليّة لأزمة ملفّها النووي وإعادة إحياء الاتفاق القديم.
كذلك أعلن رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية محمد إسلامي مرّة أخرى عن تعهّد إيران بعدم التخصيب بمستويات أعلى من درجة 60 في المئة، في موقف ينسجم مع النتائج التي توصّل إليها اجتماع اللجنة المشتركة لمراقبة تنفيذ الاتفاق في 17 كانون الأول. وذلك عشيّة تحديد موعد الجولة الثامنة من المفاوضات اليوم. تزامن ذلك مع ظهور مؤشّرات حول التوصّل إلى نصّ موحّد مع إيران من روحية الأوراق التي تقدّمت بها في الجولة السابقة، والتي تتضمّن الرؤية الإيرانية لحلّ أزمة الأنشطة النووية والعقوبات الاقتصادية، ومؤشّرات أخرى صادرة عن العواصم الأوروبية بإمكانية الذهاب إلى التصعيد في حال عادت إيران إلى سياسة المماطلة وعرقلة الحلول،
أعلن رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية محمد إسلامي مرّة أخرى عن تعهّد إيران بعدم التخصيب بمستويات أعلى من درجة 60 في المئة، في موقف ينسجم مع النتائج التي توصّل إليها اجتماع اللجنة المشتركة لمراقبة تنفيذ الاتفاق في 17 كانون الأول
التنازلات والضغوط
هذا الإعلان الإيراني لا يمكن أن يوضع إلّا في خانة التنازلات، أو في أحسن الأحوال وأفضل الظنون، في سياق مساعي إيران لتفكيك دائرة الضغوط التي تتعرّض لها في الأيام الأخيرة، والخوف من خروج الأمور عن الخطوط الإيرانية المرسومة للعملية التفاوضية وأهدافها. خاصة أنّ الخطاب الإيراني طرأ عليه الكثير من التغيير المصحوب بالليونة في ما يتعلّق بالموقف من العقوبات الاقتصادية. فقد قدّم عبد اللهيان تنازلاً آخر، عندما تحدّث عن تمسّك بلاده بإلغاء جميع العقوبات التي نصّ عليها الاتفاق النووي بالكامل، بعدما كان السقف الإيراني قد ذهب إلى المطالبة بإلغاء جميع العقوبات وبمختلف مسمّياتها منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وصولاً إلى عهد الرئيس جو بايدن، مروراً بعهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
على الرغم من هذه التطوّرات، وما تحمله من علامات تنازل قبل العودة إلى طاولة المفاوضات، فإنّ الخطوة الأهمّ في هذا السياق، التي لا بدّ لطهران من القيام بها، هي التجاوب مع الرغبة الأميركية بالجلوس إلى طاولة واحدة، والبدء بالتفاوض المباشر الذي يؤسّس لتفاهمات أكثر جدّية على مختلف القضايا العالقة بينهما، ويؤسّس أيضاً لمرحلة لاحقة من التفاوض حول الملفّات الأخرى.
وإذا كان إصرار إيران على وصف الخطوات التي تقوم بها بأنّها نوع من إبداء حسن النوايا ورغبة جدّية في التوصّل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي، فهي أيضاً تدخل في إطار بحث طهران عن مخارج لأزماتها مع المجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. ما سيؤدّي إلى النزول عن شجرة الشعارات المثالية التي رفعها التيار المحافظ بوجه الفريق المفاوض السابق، والاقتراب من الواقعية السياسية التي لا تقوم على مساعي إثبات الحقّ القانوني والاقتصادي من خلال محاولة إدانة الطرف الآخر الذي أخلّ بالتزاماته أو أعلن الانسحاب من الاتفاق النووي، بل على اعتماد الأسلوب العملاني أو البراغماتي، من أجل الوصول إلى الهدف، وهو أسلوب لا مجال فيه ولا مكان للشعارات الأيديولوجية أو الطوباوية.
من هنا يمكن التوقّف عند الحفاوة الكبيرة التي لاقتها زيارة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين لطهران في الأيام الماضية، والسكوت الإيراني الواضح، لا بل الترحيب والإيجابية اللذين تمّ التعامل بهما مع الموقف الصريح والمباشر الذي أعلنه حول ضرورة التفاوض المباشر بين طهران وواشنطن لِما فيه من مصلحة للطرفين أولاً، وللدول الإقليمية ثانياً.
إقرأ أيضاً: “القنبلة النّوويّة الشّيعيّة” تُسابق طاولة فيينا
يبدو أنّ طهران الرسمية، بما تمثّله من دولة عميقة ونظام وسلطة، غير منزعجة من دعوة الوزير العراقي، لا بل وضعتها في خانة الوساطة العراقية بينها وبين واشنطن و”بطلب أميركي”، وهو موقف قد يشكّل المدخل الذي يسمح للنظام بالتعاطي مع هذه الدعوة بالكثير من الإيجابية وكأنّه ملاقاة للرغبات الإقليمية ومساعي دولة العراق “الشقيقة” لتقريب وجهات النظر، خاصة أنّ الأرضية لمثل هذه الخطوة التي تمّت بوساطة عراقية قد تكون أقرب إلى الترجمة بعد بدء واشنطن بسحب قواتها القتالية من هذا البلد. فضلاً عن الدور المحوري الذي لعبته بغداد في الحوار الإيراني السعودي، وقد تعود إلى تفعيل هذا الدور من جديد بما يُنهي الجدل حول مؤشّرات عراقية وإيرانية تحدّثت سابقاً عن نقل هذا الحوار إلى دولة أخرى.