طرابلس: دماءٌ في طوابير “الإنترنت”

مدة القراءة 5 د

سوق سوداء، طوابير، إشكالات، دماء، مطالبات شعبية برفع الدعم. هذا هو درب الجلجلة، الذي يُعتبر السياسة الحكومية الوحيدة، ولا يوجد غيرها، بقصد دفع الشعب إلى أن يطالب بنفسه برفع الدعم. حدث ذلك سابقاً في الموادّ الغذائية، ثمّ المشتقّات النفطية، والأدوية، واليوم الاتصالات والإنترنت، وغداً الخبز.

ففي اليوم الأوّل لعودة موظّفي شركتيْ “ألفا” و”تاتش” إلى العمل بعد إضرابهم لتسعة أيّام، صُودِف مروري أمام فرعٍ لشركة “تاتش”، فوجدت ازدحاماً كبيراً، ظننت لوهلة أنّه أمر طبيعي بعد عطلة قسرية لقطاع حيويّ. لكنّني سريعاً ما تبيّنت أنّني مخطئ، فمن الزِّحام خرج أحد الأشخاص الذين أعرفهم، وتوجّه إليّ طالباً منّي شراء بطاقات شحن مُسبقة الدفع من أجله، لأنّه حصل على الحدّ الأعلى المسموح به لكلّ فرد من قبل الشركة. أجبته بأنّني لست بصدد دخول الشركة، وعندما سألته عن سبب شرائه كلّ هذا العدد، وهل هو للتجارة، ردّ بالإيجاب مُردفاً بأنّ العمل ليس عيباً.

بات كلّ اللبنانيين يدركون أنّ ما يجري في قطاع الاتصالات هو المخاض الأخير قبل تعديل أسعار الصرف لخدمات هذا القطاع، الذي كان قبل الانهيار يُطلق عليه تسمية: “نفط لبنان”

لا يُلام هذا الرجل على تجارته ببطاقات الشحن الهاتفية، فهو أساساً عاملٌ بسيطٌ في مغسل يعمل بالأجرة اليوميّة. مَن يُلام هو مَن يُتيح الفرصة لخَلْقِ سوقٍ سوداءَ متنقّلة من قطاعٍ لآخر، أي الدولة ومؤسّساتها.

وإذا كانت بعض التيّارات الحاكمة قد قامت بشراء آلاف بطاقات الشحن الهاتفية مُبكراً قبل أن يرتفع سعرها، وخزّنتها بقصد استعمالها وقت الانتخابات، فلماذا يُعاب على المواطن، أيّ مواطن، قيامه بما فعله مَن سيترشّحون للانتخابات النيابية، حاملين شعار الإنقاذ من الانهيار؟

الثقة المفقودة

علاوة على ذلك، بات كلّ اللبنانيين يدركون أنّ ما يجري في قطاع الاتصالات هو المخاض الأخير قبل تعديل أسعار الصرف لخدمات هذا القطاع، الذي كان قبل الانهيار يُطلق عليه تسمية: “نفط لبنان”.

لذا يُسارع البعض إلى الحصول على ما تيسّر من تلك البطاقات، إمّا بهدف التجارة، وإمّا لتخزين الرصيد الأبيض لليوم الأسود، يوم يُرْفع الدعم عن القطاع. يوم أسود يبدو أنّه آتٍ بسرعة، وعبثاً يحاول وزير الاتصالات وباقي المسؤولين طمْأنة اللبنانيين، لأنّ الثقة معدومة.

قيل للّبنانيين سابقاً إنّ الليرة بخير، ومذ قيلت هذه الجملة والليرة والخير مُصطلحان متوازيان، لا يلتقيان أبداً. ولم تتوقّف الليرة أبداً عن تسطير أرقام تاريخية واحداً تلو آخر، في الانهيار طبعاً. وأيضاً قيل لهم إنّ الدواء موجود ومدعوم، فطار الدعم واختفى الدواء، فكيف سيصدّق اللبنانيون ما يقوله المسؤولون؟

أدبيّات السوق السوداء

لعلّ السوق السوداء هي الحقيقة الوحيدة في كلّ ما يحدث، ويمكن اعتبارها الجملة المفتاحية في “أدبيّات” الانهيار اللبناني، من الموادّ الغذائية المدعومة، إلى البنزين والمازوت، إلى إخراجات القيد وسائر المُعاملات الرسمية، وصولاً إلى بطاقات الشحن الهاتفية، من دون أنْ ننسى الخبز.

كلّ سوق سوداء تعني مباشرة وجود “طوابير ذلّ”. وفي تلك الطوابير تحدث العجائب، مثل مزادات تصدّر الطوابير، والإكراميّات والمحسوبيّات وغيرها من السلوكيات التي وصلت حدّ السرقة. ففي طابور انتظارٍ أمام فرع شركة “ألفا” في طرابلس، ثمّة لصوص يسرقون أرقام الانتظار من أيدي الواقفين، وخاصة النساء وكبار السنّ، ويركضون ليختفوا وسط الزحام.

كلّما كان التحرّك الشعبي أسرع لرفع الدعم، والاستجابة الحكومية كذلك، حُقِنت دماء لبنانيين كثيرين، من الهدر العبثيّ، بسبب التسابق على شراء وتخزين بطاقات الشحن الهاتفي

بيد أنّ ذلك يبقى بسيطاً أمام الأفعال الإجرامية. ففي الطابور نفسه أُشهر شبّان سكاكينهم وهم يتقاتلون على أفضليّة الدور. ودارت معركة بالسلاح الأبيض أدّت إلى سقوط جريحين. وطالما لم يسقط قتلى فلا أهميّة للحدث. لا سيّما أنّ الاختناق الحاصل أمام أبواب المصارف للحصول على خمسين دولاراً “طازجة” بعد تعميم مصرف لبنان خطف الأضواء من كلّ ما عداه.

إبداع في زمن الانهيار

“لسنا الوحيدين في هذا المجال، لكنّنا الأفضل”، هي عبارة كثيراً ما تستعملها المؤسسات والمحالّ التجارية، وهي أكثر ما تنطبق اليوم على الانهيار اللبناني وتجلّياته. لسنا أوّل بلد ينهار، ولن نكون الأخير حتماً، لكنّ لبنان تفوّق بشكلٍ مُذهلٍ في ما يخصّ كلّ الظواهر المُصاحبة للانهيار على مَن سبقه، وغالباً على مَن سيلحَقُه.

ما حصل أمام شركة “ألفا” ليس جديداً، وسيتكرّر أمام أبواب فروع “ألفا” و”تاتش” أيضاً، وفي كلّ المناطق طبعاً. وكم من جريمة اُرتُكبت قبلاً لأجل البنزين والمازوت. تُرى هل هناك إحصاء رسمي لعدد القتلى الذين قضوا بسبب تلك الموادّ الملتهبة التي أحرقت أفئدة أمّهات كُثُر؟.

في المقابل، لا أمل يُرجى من أيّ إجراءات حكومية ترقيعية، فبطاقات الشحن ستصبح بسعر صرف الدولار في السوق الموازية، مثلما حدث في كلّ القطاعات الأخرى.

الشعب يريد

لذا فإنّ الإشكالات وما يصاحبها من إهراق دماء من أجل بطاقات تشريج الهواتف هو أمر يُتوقَّع أن يزداد حدّةً في قادم الأيام، إلى أن يأخذ الناس المبادرة ويطالبون بأنفسهم الدولة برفع الدعم، للخلاص من المهلكة ونزف الدماء. وبالطبع لا بدّ للحكومة أن تستجيب لطلبات شعبها.

إقرأ أيضاً: دولار 2022 الرسمي: بين 3 و 6 آلاف ليرة

أليس هذا مظهراً من أرقى مظاهر الديموقراطية؟ وهل هناك “فرادة” لبنانية أكثر إبهاراً من ذلك؟

وكلّما كان التحرّك الشعبي أسرع لرفع الدعم، والاستجابة الحكومية كذلك، حُقِنت دماء لبنانيين كثيرين، من الهدر العبثيّ، بسبب التسابق على شراء وتخزين بطاقات الشحن الهاتفي.

هذه هي المعادلة الوحيدة التي وُضِعَ اللبنانيون بين شقّيْ رَحاها: الاختيار بين دعم سلعة أو خدمة، مع فقدانها من الأسواق، وبَذْلِ الدماء للحصول عليها مهما كان قدرها عالياً أو تافهاً، وبين طلب رفع الدعم مع التحمّل الإكراهيّ لنتائجه، وعندها تتوافر السلعة أو الخدمة وتُحقن دماء اللبنانيين.

مواضيع ذات صلة

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…