في أوائل كانون الثاني 2019 كان من المفترض أن تتلقّى سوسن، وهي شابّة في عقدها الثالث، رسالة من زوجها بلال محمد (33 عاماً) الذي انطلق مع ثلاثة ركاب سوريين في قارب خشبي دفعوا ثمنه آلافاً من الدولارات مقابل نقلهم إلى قبرص، المحطة الأولى في رحلتهم من شواطىء لبنان عبر البحر المتوسط إلى عمق الاتحاد الأوروبي.
انتظرت السيدة حتى المساء، لكن من دون جدوى. وفي ساعة متأخّرة من مساء ذلك اليوم، وصل قارب صيد لبناني وعلى متنه شاب ثلاثيني، تمّت تسميته وقتها بـ”الناجي الوحيد”، إلى الساحل الشمالي لمحافظة عكار، نقطة الانطلاق.
بعد أيّام أقامت العائلة في سوريا مجلس عزاء لابنهم الشاب بلال، وهو أب لطفلين وينحدر من ريف إدلب في شمال سوريا، فيما بقيت سوسن تتردّد لأسابيع إلى الساحل الشمالي بانتظار أيّ خبر عن زوجها أو اللاجئين الغرقى.
أصبح البحر المتوسط وجهة الكثير من السوريين أو اللاجئين الراغبين في اللجوء إلى أوروبا، وذلك بعد تشديد دول الاتحاد الأوروبي الإجراءات على حدودها البرية، وعقدها اتفاقيات من شأنها الحدّ من تدفّق اللاجئين
وعلى الرغم من مرور حوالي ثلاث سنوات على الحادثة وعودة السيدة مع أولادها من لبنان إلى الشمال السوري إلا أنّها لا تتقبّل غرق زوجها بلال، وتقول في اتصال هاتفي مع “أساس” إنّ أشدّ ما يؤلمها هو عدم معرفة تفاصيل حادثة الغرق، وتضيف: “أريد الجثّة لدفنها في مقبرة البلدة بدلاً من ذلك البحر الذي اختفى فيه بلال إلى الأبد. هذه هي الطريقة الوحيدة لأتمكّن من تصديق أنّه مات”.
تؤكّد السيدة أنّ ما لديها من معلومات حصلت عليه من الشاب الذي تمّ إنقاذه من قارب الصيد، مشيرة إلى أنّ زوجها بلال ومَن معه على متن القارب لم يتمكّنوا من الوصول إلى السواحل القبرصية، وأنّ سفينة تابعة لخفر السواحل القبرصية اعترضت طريقهم في المياه الدولية في البحر المتوسط، ومنعتهم من عبور المياه الإقليمية من خلال التهديد بالأسلحة، والتحويم حولهم بسرعة لغمر القارب الخشبي أو قلبه.
وتصف ما حصل بالقول: “أجبرتهم السفينة القبرصية على العودة مباشرة إلى لبنان بعد دخولهم المياه الإقليمية، وبعد ساعات بدأ قاربهم في الغرق، ونجا من تلك الحادثة شخص واحد فقط، وأخبرنا بما حدث. لقد تاهوا في البحر وغرقوا”.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة من نوعها، إذ سبقها عدد من عمليات التهريب إلى قبرص التي تبعد حوالي 172 كلم عن السواحل اللبنانية.
حديث الصورة: نقطة انطلاق اللاجئين من الساحل الشمالي في لبنان عبر قوارب خشبيّة ومطاطيّة باتّجاه قبرص (خرائط غوغل).
أصبح البحر المتوسط وجهة الكثير من السوريين أو اللاجئين الراغبين في اللجوء إلى أوروبا، وذلك بعد تشديد دول الاتحاد الأوروبي الإجراءات على حدودها البرية، وعقدها اتفاقيات من شأنها الحدّ من تدفّق اللاجئين.
ونتيجة التدهور المستمرّ في وضع لبنان الاقتصادي، منذ أكثر من عامين، تضاعف عدد المهاجرين الذين يحاولون الفرار بحراً، حيث تتكرّر محاولات لاجئين سوريين أو مواطنين لبنانيين السفر بطرق غير شرعية من لبنان، وسط أزمة اقتصادية خانقة برزت ملامحها مع ظهور أزمة المصارف عام 2019، وتفاقمت إثر انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، واستقالة الحكومة اللبنانية، وتعيين حكومة جديدة.
وعقب تلك المحاولات، تحرّكت الدبلوماسية القبرصية، وأبرمت اتفاقاً مع الدولة اللبنانية للحدّ من انطلاق تلك القوارب من سواحلها.
بحر يوثّق غرقاه
تشير مزنة كحالة، وهي ناشطة حقوقية تعيش في شمال لبنان، في حديث مع “أساس” إلى أنّ أهمّ الأسباب التي تدفع اللاجئين السوريين وغيرهم إلى عبور البحر هو الوضع الاقتصادي والخوف من ترحيلهم إلى سوريا، في ظلّ تصاعد الخطاب الرسمي اللبناني الذي يطالب بترحيل اللاجئين السوريين، وعددهم مليون تقريباً، إلى ما يسمّى بـ”المناطق الآمنة” في سوريا.
وشهد لبنان أزمة محروقات واجهتها حكومة تصريف الأعمال برفع متكرّر في الأسعار، بالإضافة إلى أزمة كهرباء ودواء وغذاء، جعلت لبنان إحدى 20 دولة مهدّدة بانعدام الأمن الغذائي، بحسب تقرير نشرته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو).
حديث الصورة: دوريّة لليونيفيل تنقذ أحد القوارب في المياه الدولية قبالة لبنان.
وأعلنت منظمة الهجرة الدولية وفاة أكثر من 4470 مهاجراً على طول طرق الهجرة المختلفة في جميع أنحاء العالم خلال العام 2021، مقارنة بـ4236 مهاجراً في عام 2020، ليصل بذلك إجمالي حالات الوفاة المسجّلة بين المهاجرين منذ العام 2014 إلى أكثر من 45 ألفاً و400 حالة وفاة.
وقد توّج البابا فرنسيس هذه الأرقام خلال زيارته إلى جزيرة ليسبوس اليونانية قبل أسبوعين، بوصفه البحر الأبيض المتوسّط بأنّه “أصبح مقبرة باردة بدون الحجارة التذكارية على القبور. هذا الحوض الكبير من المياه مهد العديد من الحضارات، يبدو الآن مرآة للموت. من فضلكم، لنوقف غرق الحضارة هذا”.
لبنان يغرق وسط تقاعس متعمَّد
يعاني لبنان من كساد اقتصادي حادّ ومزمن. ووفقاً لتقرير “مرصد الاقتصاد اللبناني” الصادر عن “البنك الدولي”، تُصنّف هذه الأزمة الاقتصادية والمالية ضمن أشدّ عشر أزمات، وربّما إحدى أشدّ ثلاث أزمات، على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر (1850). وفي مواجهة هذه التحدّيات الهائلة، يهدّد التقاعس المستمرّ عن تنفيذ السياسات الإنقاذية، في غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردّية أصلاً والسلام الاجتماعي الهشّ، ولا تلوح في الأفق أيّ نقطة تحوّل واضحة.
تقاطع هذا التقرير مع ما عبّر عنه اللاجئون السوريون، الذين حاولوا مغادرة لبنان أخيراً، من يأس مشابه من مشاكلهم الاقتصادية، لكنّهم غالباً ما تحدّثوا أيضاً عن مشاكل متجذّرة في التمييز ضدّ وجودهم. إذ قال نور، وهو لاجئ سوري، إنّه ينتظر أن تسنح له الفرصة لعبور البحر هرباً من لبنان.
وكانت الأمم المتحدة أصدرت تقريراً حول التدهور السريع لأوضاع اللاجئين السوريين في لبنان، في ظلّ الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي تشهدها البلاد.
وبحسب التقرير، فقد أعربت “المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين” و”برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة – يونيسف”، عن قلقهما البالغ إزاء أوضاع اللاجئين السوريين الذين “باتوا عاجزين عن توفير الحدّ الأدنى من الإنفاق اللازم لضمان البقاء على قيد الحياة”.
وقال التقرير إنّ الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي يشهدها لبنان أثّرت بشكل خاص على العائلات اللبنانية واللاجئة الأكثر فقراً، إذ كشفت النتائج الأوّلية لتقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان لعام 2021، “عن وضع بائس يُرثى له”.
كما حذّرت “يونيسف من أن نحو مليون طفل في لبنان معرضون لخطر العنف، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية. وقالت المنظمة في تقرير لها صدر في 17 كانون الأول الجاري، إنّه “فيما تُكافح الأسر لمواجهة الأزمة المتفاقمة في البلاد، فإن طفلًا من بين كل اثنين في لبنان مُعرّض لخطر العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي”. وأضاف التقرير أنّ عدد حالات الاعتداء على الأطفال ارتفع بنحو 44%، من 3913 حالة في تشرين الأوّل 2020 إلى 5621 في ذات الشهر من العام الجاري. كما ارتفع عدد الأطفال الذين يعانون الآن من “فقر متعدد الأبعاد” من 900 ألف طفل في عام 2019، إلى نحو 1.8 مليون طفل في العام الجاري، أي ما يزيد عن 80% من الأطفال في لبنان.
حديث الصورة: قارب يحمل مهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط في تموز 2014.
إعادة خارج القانون لطالبي اللجوء
في شهادات قاسية حول تعرّض المهاجرين للعنف والضرب على يد القوات القبرصية، كشفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير لها عن قيام ضبّاط شرطة في البحرية القبرصية بضرب بعض المهاجرين وتوجيه التهديدات لهم.
وقالت إنّ سفن خفر السواحل حاولت إغراق قوارب المهاجرين “بالدوران حولها بسرعة عالية”، وتركت قارباً في البحر من دون طعام أو وقود.
في إحدى الحالات، أكّدت المنظمة أنّ قوات خفر السواحل القبرصية اعترضت قارباً مطاطياً يواجه محنة، ثمّ تركته ينجرف من دون وقود. وجده قارب صيد لبناني، وأنقذته القوات البحرية اللبنانية بعد ستّة أيام في البحر.
وقال شهود وضحايا، كانوا على متن قاربَيْن تمّت إعادتهما إلى لبنان، إنّ الشرطة البحرية القبرصية كبّلت وضربت الأفراد الذين قاوموا محاولات إرجاعهم. وقال باسم (47 عاماً)، وهو مواطن لبناني، إنّه بدأ يصرخ ليتوقّف القارب عندما رأى رجلاً وزوجته يقفزان منه بعدما أدركا أنّ القارب يعود أدراجه إلى لبنان في 6 أيلول.
وتابع: “صرختُ كي ينقذوا الرجل والمرأة اللذين قفزا في البحر، لكنّهم أخذوا يضربونني، وكبّلوني، وانهالوا عليّ بالعصيّ التي تُستخدم لإحداث صدمات. لا أزال أشعر بالألم وأواجه صعوبة في تحريك أصابعي. فقدت الوعي وأُصبت بنوبة، وكانت رغوة بيضاء تخرج من فمي. كانت معهم طبيبة صرخت على الشرطة كي ينزعوا الأصفاد لتتمكّن من معالجتي”.
حديث الصورة: الجيش اللبناني ينقذ أشخاصاً سوريين من الغرق أثناء محاولتهم عبور البحر في 30 تشرين الأول 2021.
ويفرض القانون البحري الدولي واجباً واضحاً على جميع السفن في البحر بإنقاذ الأشخاص المعرّضين للخطر، سواء في المياه الإقليمية أو الدولية، إلا أنّ الشهادات تؤكّد أنّ حرس السواحل أو البحرية القبرصيّين واجها عدداً من الزوارق المطاطية من نوع زودياك، وتركا تلك القوارب تنجرف بلا وقود وسط البحر.
إقرأ أيضاً: سوريون ولبنانيون يموتون برداً وجوعاً في أوروبا
ويقدّر لبنان وجود مليون ونصف مليون لاجئ سوري، نحو مليون منهم مسجّلون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ويشكل السوريون النسبة الكبرى من المهاجرين المغادرين عبر البحر، فهم، فضلاً عن ظروف اللجوء السيّئة التي يمرون بها، يُعتبرون من الفئات الأكثر تضرّراً من الأزمات التي عصفت بلبنان أخيراً، وفقاً للعديد من المنظمات الإغاثية، ولذلك قد تشكّل الهجرة فرصتهم شبه الوحيدة للهرب من هذا الواقع.