“الجدار الذكي” والغباء الإسرائيليّ

مدة القراءة 5 د

عندما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتخيّل إقامة جدار عازل على طول الحدود مع المكسيك لوقف تسلّل المهاجرين إلى الولايات المتحدة، قام البنتاغون بإرسال ضباط أميركيين إلى إسرائيل للاستعانة بالتجربة الإسرائيلية التي تراكمت خلال إقامة ما تسمّيه تل أبيب “العازل الذكي” على طول الحدود مع قطاع غزة، وسابقاً جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية بطول 400 كلم، الذي حوّل الضفة إلى معازل وكانتونات تشبه جدار الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والجدار الذي بناه نتانياهو بطول 200 كلم على طول الحدود مع سيناء المصرية لمنع تسلّل الأفارقة إلى إسرائيل من أجل العمل فيها.

لكنّ ترامب رحل، وبقي مشروع العائق التحت – أرضي حول غزّة، الذي اكتمل أخيراً بعد ثلاث سنوات ونصف من البدء بتنفيذه، وبتكلفة فاقت مليار دولار.

خدعة “الجدار الذكي” لا تعيها فقط حركة حماس، بل هناك أوساط في إسرائيل تطرح علامات استفهام كبيرة عن مفهوم الأمن، والنصر الذي سيحقّقه الجدار العازل

ضمن “احتفاليّة” لقادة الاحتلال، أعلنت وزارة الأمن الإسرائيلية استكمال العائق البرّي – البحري على الحدود مع القطاع، وإدخاله إلى الخدمة، وهو ما حوّل قطاع غزة ذا المليونيْ نسمة إلى سجن حرفيّاً، فأصبحت غزّة محاصرةً بأسلاك وجدران مزوّدة بالمئات من الكاميرات والمستشعرات والرادارات التي ترصد حركة أهالي القطاع، مع استمرار سيطرة إسرائيل البحرية والجوية والبرّية على غزة، والاستمرار بالسطو على مياهه وثرواته الجوفية والتحكّم في ثروته البحرية، ومنها الغاز قبالة ساحله الغربي.

هكذا تستكمل إسرائيل معادلتها التي أرستها منذ أطلّ الانقسام الفلسطيني برأسه: “احرم الفئران الثائرة من الطعام وهدّد حياتها، ثمّ بعد كلّ إبادة جماعية ضع للمتبقّي منها معونات غذائية و100 دولار، وافتح أمامها مساحة من البحر لا تزيد على 12 ميلاً”.

يعود الحديث عن بناء جدار حول غزّة إلى زمن إتمام الرئيس الإسرائيلي السابق آرييل شارون انسحابه من قطاع غزة بشكل أحادي في 2005، وذلك لحماية المستوطنات المحاذية للقطاع من خطر أيّ تسلّل تقوم به الجماعات المسلّحة. لكنّ القرار الفعلي ببناء جدار ذكي حول غزة اُتُّخذ عقب عملية “الجرف الصامد” في عام 2014 لمجابهة خطر الأنفاق الهجومية حين اكتشف الجيش الإسرائيلي أنّ لدى حماس أنفاقاً هجومية متطوّرة جدّاً ومجهّزة تمكِّن عناصرها من التسلّل إلى داخل إسرائيل والعودة من دون اكتشافهم. وتمّ إطلاق مشروع الجدار لمساندة أنظمة الاعتراض، مثل القبّة الحديدية، التي لم تثبت نجاعتها في جولة القتال الأخيرة.

عناصر “الجدار الذكي”

وفقاً لخبراء عسكريين، فإنّ “الجدار الذكي” يتضمّن خمسة عناصر يكمّل بعضُها بعضاً، وهي:

1- حاجز تحت الأرض يمتدّ لعشرات الأمتار مجهّز بأجهزة استشعار.

2- سياج (ذكي) يزيد ارتفاعه على ستّة أمتار.

3- حاجز بحري يشمل وسائل لكشف التسلّل في البحر.

4- ونظام سلاح يتمّ التحكّم فيه عن بعد.

5- ومجموعة من الرادارات والكاميرات وغرف القيادة والتحكّم.

وفوق الأرض، يتكوّن الجدار من بناءٍ خراسانيّ بارتفاع ستّة أمتار، وبطول 65 كيلومتراً. وسيستخدم مشروع “الحدود الذكيّة” دوريات رصد مكوّنة من عشرات الطائرات المسيّرة والروبوتات على الأرض.

مشكلة إسرائيل تكمن في أنّها لا تؤمن بالجيران، بل بالجدران والعوازل

وكان ادّعى وزير الحرب بيني غانتس أنّ الجدار “يحرم حماس من إحدى القدرات التي حاولت تطويرها، ويضع حاجزاً حديدياً وأجهزة استشعار وخرسانة بين المنظّمة وسكّان الجنوب”. لكنّ حركة حماس ردّت بأنّه في الوقت المناسب ستكتشف دولة الاحتلال أنّ جيشها كان يمارس عليها أكبر خديعة، وأنّ مهندسي الحركة استطاعوا ابتكار وسائل عمليّة للتشويش على المجسّات تحت أرضية، التي زرعتها إسرائيل، والتي تهدف إلى سماع أصوات حفر الأنفاق، وتمكّنوا من اختراق الجدار الذكي، وجعل العائق من غير ذي جدوى خلال المعارك العسكرية، حيث إنّ جزءاً كبيراً من الحاجز يمتدّ إلى باطن الأرض بما بين 30 و40 متراً، إلّا أنّ الحفر أسفل هذا العمق ليس أمراً صعباً على حركة حماس.

خدعة “الجدار الذكي” لا تعيها فقط حركة حماس، بل هناك أوساط في إسرائيل تطرح علامات استفهام كبيرة عن مفهوم الأمن، والنصر الذي سيحقّقه الجدار العازل. فقد انتقد الكاتب الإسرائيلي إيتامار فليشمان احتفال الجيش الإسرائيلي بـ”العازل الذكي”، وقال الكاتب: “لا اعتراض على الاحتفال بهذا الإنجاز التكنولوجي، لكن منذ متى كان مفهوم النصر هو الدفاع بالأسوار والتحصينات بدلاً من عبورها لضرب العدوّ؟”.

وأضاف الكاتب: “ما هو واضح حقيقة أنّه في عام 2021 يجلس المسؤولون عن أمن الدولة اليهودية وينتظرون متى سيضربهم العدو، بدلاً من إجبار العدو على الارتعاش خوفاً من احتمال قيامنا بضربهم أوّلاً”.

طبعاً يمتلك الجيش الإسرائيلي تفوّقاً عسكرياً فاقعاً على التشكيلات العسكرية في غزة، لكن بحسب محلّلين، فإنّ القوة أحياناً تعدّ مصدراً لنقطة الضعف، إذ أصبحت إسرائيل مع تفوّقها العسكري حسّاسة أكثر للخسائر البشرية، وأقلّ استعداداً للمخاطرة. ومنذ سنوات تسير الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على خط واحد، وهو تجنّب شنّ حملة بريّة في قطاع غزة. وتشير زيادة الاعتماد على التكنولوجيا العسكرية في الجيش الإسرائيلي إلى ثغرة في الطاقة البشرية للجيش الذي عجز عن تثبيت جنود يقاتلون على الحدود.

إقرأ أيضاً: إسرائيل كحليف موضوعي لحماس

وفي المحصّلة، فإنّ مشكلة إسرائيل تكمن في أنّها لا تؤمن بالجيران، بل بالجدران والعوازل. فما زالت تل أبيب مسكونة بعقدة الغيتو، وتعتقد أنّ الحصون والدروع، وأيضاً القوة العسكرية، هي ما تحقّق لها الأمن، وليس السلام العادل. وترفض أن تقرّ بأنّ احتلالها للأرض وظلمها للشعب الفلسطيني هما السبب وراء جولات المعارك المتكرّرة وفقدانها الإحساس بالأمان.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…