كانت جلسة اللجان النيابيّة المشتركة الأخيرة مناسبةً لتستعرض بعض الكتل النيابيّة معارضتها لمسوّدة مشروع قانون الكابيتال كونترول التي طرحتها الحكومة، وصولاً إلى ادّعاء إسقاط هذه المسوّدة من باب الحفاظ على حقوق المودعين ورفض الإجحاف الذي سيطولهم من هذا القانون. لكنّ ما أسقط المسودّة، في واقع الأمر، لم يكن سوى ملاحظات صندوق النقد الدولي، الذي لم يعطِ مصادقته على المقاربة التي ذهبت إليها حكومة ميقاتي، وهو ما أفضى إلى إحجام عدّة كتل نيابيّة عن المصادقة على هذه المسوّدة بانتظار استحصال الحكومة على موافقة الصندوق.
يكفي الاطّلاع على نسخة مسرّبة من تعليقات صندوق النقد على مسوّدة مشروع قانون الكابيتال كونترول الأخيرة، ليكتشف المرء أنّ ما منع سعادة الشامي من الحصول على موافقة الصندوق لم يكن عدم إنجاز الخطّة الماليّة الشاملة
في هذه المرحلة من الأزمة الماليّة، فَقَد الكابيتال كونترول دوره الوظيفي الأوّل، الذي يفترض أن يكون حماية المودعين من استنسابيّة المصارف في إجراء التحويلات، وفرض المساواة بين المودعين في القيود على التحويلات والسحوبات، بعدما تمّ استنزاف سيولة المصارف ومصرف لبنان طوال سنتين وشهرين من الأزمة بغياب هذا القانون. ولهذا السبب بالتحديد، بات وجود القانون اليوم يرتبط، من وجهة نظر السلطة، بهدفين:
1- توفير الغطاء القانوني للمصارف التجاريّة، وخصوصاً بالنسبة إلى الدعاوى القائمة في المحاكم الأجنبيّة التي اقترب بعضها من مرحلة البتّ. هذا ويُعتبر أنّ قرار القضاء البريطاني الأخير، الذي منح المحاكم البريطانيّة صلاحيّة الفصل في دعاوى المودعين بوجه المصارف اللبنانيّة، دقّ ناقوس الخطر بالنسبة إلى المصارف اللبنانيّة، خصوصاً لجهة إمكانيّة المسّ بأموالها وأصولها الموجودة في الخارج في حال صدور قرارات قضائيّة بحقّها.
2- إعطاء ضمانة لصندوق النقد الدولي، قبل الحصول على أيّ قرض منه، بأنّه توجد ضوابط على السيولة ستمنع إساءة استعمال أموال القرض، وتحول دون تهريبها إلى خارج النظام المصرفي عبر تحويلات مشبوهة.
بدا واضحاً أنّ تزايد مخاطر الدعاوى القضائيّة في الخارج على المصارف اللبنانيّة، واقتراب صدور أحكام قضائيّة بحقّ المصارف في المحاكم الأوروبيّة، هما ما دفعا النائب نقولا نحّاس ونائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إلى تقديم مسوّدة مشروع القانون بهذا الشكل، واستعجال طرحها أمام اللجان المشتركة على الرغم من عدم استحصالهما على موافقة صندوق النقد على هذه الصيغة. لا بل كان من الواضح أيضاً أنّ مضمون المسوّدة المقترح ذهب بعيداً في التشديد على الغطاء القانوني الممنوح للمصارف أمام المحاكم المحليّة والأجنبيّة على حدٍّ سواء، في مقابل عدم تضمينه أيّاً من آليّات الضوابط على السيولة التي يصرّ عليها في العادة صندوق النقد.
كيف رفض الصندوق؟
قبيل جلسة اللجان المشتركة يوم الإثنين الماضي، وخلال مناقشات اللجان الفرعيّة التي سبقت الجلسة، طُلب من نحاس والشامي الاستحصال على موافقة صندوق النقد على الصيغة المطروحة من قبلهما، قبل بتّها وإحالتها إلى الهيئة العامّة. أمّا الهدف من ذلك فكان التأكّد من أنّ هذه الصيغة ستعطي الدولة اللبنانيّة ما تحتاج إليه من القانون، من حيث تحقيق شروط الصندوق، بدل أن يقتصر مفعول القانون على إعطاء الغطاء القانوني الذي تحتاج إليه المصارف محليّاً ودوليّاً. وخلال تلك المناقشات، كان من الواضح أنّ الحصول على صكّ موافقة الصندوق كفيل وحده بتمرير المسوّدة، بمعزل عن جميع الالتباسات والإشكاليّات التقنيّة التي أُثيرت في المناقشات.
أبرز أسباب تحفّظات الصندوق فهي تشديده على أن يكون موضوع القانون أوسع بكثير من المسوّدة المطروحة، بحيث يشمل تنظيم عمليات القطع وشراء العملة الصعبة وتعويم الليرة، وربطها بالقيود على السيولة الموجودة في النظام المالي
في النتيجة، جاء نحّاس والشامي إلى جلسة الإثنين من دون موافقة الصندوق معهما، بذريعة أنّ الحصول على هذه الموافقة متعذّر قبل التفاهم مع الصندوق على الخطة الماليّة الشاملة التي يُفترض أن تأتي الضوابط على السيولة من ضمن مندرجاتها. وما إن تبيّن ذلك في مطلع الجلسة، حتى انتقل النقاش مباشرةً إلى تفاصيل المسوّدة التقنيّة، وتحفّظات النوّاب على بنودها وطريقة إسقاطها على المجلس النيابي، وصولاً إلى تأجيل بتّها لمدّة أسبوع بانتظار إعادة طرحها من ضمن تفاهم مع صندوق النقد على الصيغة المناسبة، وفي ضوء أرقام ومعطيات المصرف المركزي والمصارف التجاريّة.
باختصار، كان المطلوب من الصيغة المطروحة إنقاذ المصارف من ورطة قضائيّة داهمة في المحاكم الأجنبيّة، وهو ما يفسّر المسارعة إلى حشر جلسة اللجان المشتركة يوم الإثنين، قبل يوم واحد من جلسة الهيئة العامّة يوم الثلاثاء، لتمرير مشروع القانون في اليوم التالي في حال المصادقة عليه في اللجان المشتركة. لكنّ تحفّظات صندوق النقد وعدم حماسة العديد من الكتل لتمرير القانون قبل مواءمته مع شروط صندوق النقد، هي التي أطاحت بهذه المحاولة، وليس حرص النوّاب المعترضين على حقوق المودعين.
لماذا أسقطه صندوق النقد؟
في كل الحالات، يكفي الاطّلاع على نسخة مسرّبة من تعليقات صندوق النقد على مسوّدة مشروع قانون الكابيتال كونترول الأخيرة، ليكتشف المرء أنّ ما منع سعادة الشامي من الحصول على موافقة الصندوق لم يكن عدم إنجاز الخطّة الماليّة الشاملة، كما صرّح داخل المجلس النيابي، بل في الواقع امتلك صندوق النقد مجموعة واسعة من التحفّظات على جوهر المسوّدة وطريقة مقاربتها لمسألة الكابيتال كونترول، وصولاً إلى توصيته بعدم الموافقة على مشروع القانون هذا نظراً لأثره السيّئ على توازنات النظام المالي.
إقرأ أيضاً: متحوّر الـ”100$ البيضاء”.. يضرب اللبنانيين
أمّا أبرز أسباب تحفّظات الصندوق فهي تشديده على أن يكون موضوع القانون أوسع بكثير من المسوّدة المطروحة، بحيث يشمل تنظيم عمليات القطع وشراء العملة الصعبة وتعويم الليرة، وربطها بالقيود على السيولة الموجودة في النظام المالي. ومن ضمن هذا القانون الشامل، يمكن وضع البنود المتعلّقة بالسحوبات والتحويلات، وليس العكس. ويعتبر الصندوق أنّ ثغرات كبيرة تعتري تنظيم وضعيّة الأموال الطازجة، والمعاملات بالعملات الأجنبيّة على المستوى الاقتصادي العامّ، بالإضافة إلى أبواب التحايل العديدة التي يسمح بها القانون.
باختصار، لا يعتبر الصندوق أنّ ما هو مطروح اليوم هو بالفعل “كابيتال كونترول” مكتمل الأوصاف، بل تشريع فحسب يعطي المصارف الأداة التي تحتاج إليها لقوننة عمليّة “حبس” السيولة التي تمارسها على المودعين. ولذلك من المستبعد أن تتمكّن الحكومة من الحصول على موافقته على أيّ صيغة لهذا القانون في مهلة أسبوع واحد، كما طلب المجلس النيابي، خصوصاً أنّ ما يطلبه الصندوق أكثر تعقيداً من أن يتمّ إعداده خلال مهلة قصيرة كهذه.