كان لقرار بريطانيا أخيراً بحظر حركة حماس، بشقّيها السياسي والعسكري، وقع صاعق على الحركة، التي بدأت تتأهّب لاعتراف غربي بها، بعد سلسلة إشارات ولقاءات مع الجانب الأوروبي، وخصوصاً مع تواتر الحديث عن أنّ سيناريو أفغانستان من الممكن تكراره في الضفّة الغربية، وأنّ دولة قطر ستلعب دور الوسيط في إقناع الولايات المتحدة والغرب بقبول حركة حماس جزءاً من التسوية الشاملة في الشرق الأوسط، وليس فقط على مستوى بقاء حركة حماس متحكّمة بالقطاع، ومع الاستعدادات التي تجري على قدم وساق من أجل التوصّل إلى هدنة طويلة الأمد بين تل أبيب وحركة حماس برعاية مصرية.
قبل ذلك، علّقت حركة “حماس” آمالاً كبيرة على أن تؤدّي إعادة تعريفها لنفسها بأنّها حركة وطنية فلسطينية إسلامية، في وثيقتها في عام 2017، إلى أن يقبلها الغرب فيعتبرها حركة معتدلة وقادرة على الانخراط في مشاريع التسوية.
كانت كلّ المؤشّرات تقول إنّ الأولويّة عند “حماس” هي تطوير علاقتها مع المجتمع الدولي، وليس ترميم علاقاتها الداخلية فلسطينياً، في محاولة لتوظيف هذا التطوّر في العلاقات الخارجية للضغط على الحالة الفلسطينية وتعميق الانقسام
وبدت حركة حماس في وثيقتها الجديدة وكأنّها تتوسّل إقراراً دوليّاً بدورها السياسي ومكانتها القانونية وسلطتها الشرعية على غزّة، ولاحقاً على الضفّة، وخصوصاً أنّ حركة حماس كانت منخرطة في طرح نفسها بديلاً عن حركة فتح ومنظمة التحرير أو كياناً موازياً في الشرعية والقانونية.
وكانت كلّ المؤشّرات تقول إنّ الأولويّة عند “حماس” هي تطوير علاقتها مع المجتمع الدولي، وليس ترميم علاقاتها الداخلية فلسطينياً، في محاولة لتوظيف هذا التطوّر في العلاقات الخارجية للضغط على الحالة الفلسطينية وتعميق الانقسام، وإنّ حركة “حماس” ذاهبة في خيار دويلة غزة إلى أقصى مكان.
لقد أظهرت المنصّة السياسية الجديدة لـ”حماس” أنّ الحركة استوعبت متطلّبات العمل السياسي وشروطه وأدواته، وشكّلت الوثيقة تطوّراً نوعيّاً، مقارنة بميثاق الحركة الصادر عام 1988، لجهة الفكر والمقاربة واللغة والصياغة. فقد بدت “حماس” في وثيقتها لعام 2017 وكأنّها تخرج من النصّ الديني الغارق في السرد الإنشائي إلى فضاء السياسة والعلاقات الدولية والتحالفات، في أقرب ما يكون إلى مشهد إعلان انتهاء الأيديولوجيا الدينية عن أن تكون محرّكاً أساسيّاً للدول والجماعات والأحزاب، تماماً كما أعلنت وثيقة الاستقلال الفلسطينية عام 1988 نهاية الأيديولوجيا القومية.
فقد تمّ استبدال التوصيفات والمصطلحات الدينية بمصطلحات سياسية، فبدلاً من الجهاد والدول الصليبيّة والمجتمع المسلم، ترد في الوثيقة الجديدة مصطلحات المقاومة، والغرب، والشعب الفلسطيني. والأبرز الذي حملته الوثيقة هو إعادة تعريف الصراع “من المعركة ضدّ اليهود أحفاد القردة والخنازير” إلى “الصراع ضدّ المشروع الصهيوني”.
لقد حاولت حركة حماس في الوثيقة الانتصار لنفسها، بعد انهيار جبل المدّ الإخواني، وفكّ الطوق عنها عبر توطين الحركة الإسلامية، بين البطولات العسكرية والإنجازات السياسية، وهي بذلك تعزف على وتر مقولة السياسي النمساوي الشهير “مترنيخ” أثناء غزو نابليون لأوروبا واضطراره إلى مهادنته في بادئ الأمر: “إنّ شعرة رفيعة تفصل بين البطولة والتخاذل”.
ولكنّ قرار وزيرة داخلية بريطانيا بريتي باتيل تصنيف حركة حماس إرهابيةً، بدا للحركة وكأنّه عزف خارج النوتة. وبدت غزة، التي فقدت توازنها منذ خمسة عشر عاماً، بفعل انقلاب حماس على النظام السياسي الفلسطيني، تتلقّى ضربة جديدة من بريطانيا بتصنيف “حماس” منظمة إرهابية. ووفق قرار وزيرة الداخلية فإنّ الأجهزة البريطانية ستلاحق قضائياً كلّ المؤسسات التي تتعامل مع حركة حماس على أراضيها.
أضاف مؤتمر “وعد الآخرة” إلى رصيد المخاوف الإسرائيلية المزعومة المتعلّقة بالخطر الوجودي، وساعد إسرائيل على تسويق ذلك لدى الغرب تحت شعار معاداة السامية والرغبة في القضاء عليها
لا شكّ أنّ القرار البريطاني يحمل في طيّاته بصمات إسرائيلية، وجاء منسّقاً مع حكومة الاحتلال، إثر جهود مكثّفة بذلتها دوائر المؤسسة الأمنيّة الإسرائيلية بعدما أدهشها خروج عشرات الآلاف من البريطانيين في شوارع لندن يهتفون لفلسطين. وقد تداولت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية دور “رونين بار” رئيس الشاباك الجديد في بلورة القرار وإعلانه.
وأشارت وزيرة الداخلية باتيل إلى مبرّرات قرارها في منشور لها ذكرت فيه أنّ لدى “حماس قدرات كبيرة، من بينها الوصول إلى أسلحة متطوّرة ومرافق تدريب الإرهابيين”، وأنّ معاداة السامية “شرّ دائم لن أتحمّله أبداً”، وأنّ قرارها يشكّل خطوة حيويّة نحو حماية الجالية اليهودية، حيث إنّ حماس “معادية للسامية بشكل أساسي ومسعور”.
لقد أمدّت حركة حماس إسرائيل بما يكفي من الوقود لإيقاعها من خلال تصريحات قادتها التي تنادي بإبادة إسرائيل. ومن المؤكّد أنّ قادة تل أبيب زوّدوا باتيل والمسؤولين البريطانيين بتسجيلاتٍ لِما قيل في مؤتمر “وعد الآخرة” الاستراتيجي الاستشرافي، الذي جرى عقده في غزة بعد معركة سيف القدس، والذي تحدّث عن اقتراب محو إسرائيل، ولم يكن له وظيفة سوى النفخ في بالون انتصار المقاومة في معركة سيف القدس، بعدما تقلّصت نتائجه إلى حدودها الدنيا، لكنّ المستوى الأيديولوجي لحركة حماس أراد أن يواصل ويعزّز انتصار “سيف القدس” بانتصار متخيَّل بل حاسم.
في المحصّلة، أضاف مؤتمر “وعد الآخرة” إلى رصيد المخاوف الإسرائيلية المزعومة المتعلّقة بالخطر الوجودي، وساعد إسرائيل على تسويق ذلك لدى الغرب تحت شعار معاداة السامية والرغبة في القضاء عليها.
في الواقع، لا يتعلّق قرار بريطانيا بحماس فقط، وإنّما بكلّ الحالة الفلسطينية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، والأسوأ أنّه لا يلقي بأيّ لوم على إسرائيل التي تمارس يومياً الاحتلال بأبشع صوره.
ويأتي القرار البريطاني في خضمّ تصنيف تل أبيب لستّ مؤسّسات من المجتمع المدني الفلسطيني، ووسمها بالإرهاب.
ويترافق ذلك مع استمرار محاولات تدجين الحركتين الرئيسيّتين “فتح” و”حماس” لخدمة الاستراتيجية الإسرائيلية، بحيث لا يكون أيٌّ منهما قادراً على إعادة بناء الكيانية الوطنية. فهناك أزمة في الضفّة، وأزمات في غزة، وتخوّفات باتت تسكن الحكم الفلسطيني في المنطقتين.
لقد تحوّلت السلطة في رام الله إلى إدارة ذاتية، وأصبحت حبيسة أزمة الثقة الشعبية بها بفعل تأجيل الانتخابات. أمّا في قطاع غزة فتوجد إدارة محليّة تديرها حركة حماس لا تستطيع توفير مقوّمات الحياة لسكّان غزة. وليس صدفة أن يترافق هذا القرار مع جهود تفاوضية حثيثة لبلورة ما يُسمّى هدنة طويلة الأمد بين حركة حماس وتل أبيب تحمل في ثناياها محاولة إسرائيلية لفصل قطاع غزة عن باقي الكيانية الفلسطينية، وترسيخ حكم حماس فيه وفق المواصفات والشروط الإسرائيلية. فالاحتلال الإسرائيلي، ومع تحريضه بريطانيا على إصدار قرار حظر حركة حماس، ليس في وارد إنهاء حكم حماس، فهو مَن يشرف على إدخال الأموال إليها، والبحث عن تمويل لها.
إقرأ أيضاً: حماس عائدة إلى سوريا… بمساعي “السيّد”
ما تريده إسرائيل من حماس هو أن تعيش هذه الأخيرة تحت سيف التخويف، وأن تبقى في غزة وتستجيب للشروط الإسرائيلية. فإسرائيل لديها مشروعها الذي يقوم على إخراج غزّة عن الوطنية الفلسطينية وفصلها عنها. وهي تطهو مشروعها على نار هادئة وقودها معاناة الناس وآلامهم.
فيما الرياح العاتية تتقاذف المركب الفلسطيني المثقوب بفعل صراع أبنائه على وهم السلطة في دولة تحت الاحتلال، انتهى الأمر بقضية ملأت الكون إلى أن يصبح شغلها الشاغل السعي لتوفير الرواتب. ويبقى أن تدرك حركة حماس أنّ حماية شرعيّتها تتمّ فقط في إطار الوحدة الوطنية والحقوق الوطنية وليس على أنقاضهما.