بينما كانت القاذفة الأميركيّة B1 تُحلّق برفقة طائرات F-15 إسرائيليّة وأخرى من دول المنطقة في أجواء الخليج العربيّ قبل أيّام، كانت إيران تكشف عن مُراكمتها لـ”أكثر من 100 كيلوغرام من اليورانيوم المُخصّب على درجة 20%”، والأخطر مُراكمتها لـ25 كيلوغراماً من اليورانيوم المُخصّب على درجة 60%.
تعني نسبة الـ60% أنّ امتلاك الجمهوريّة الإسلاميّة لقنبلتها النّوويّة الأولى ليست سوى مسألة أسابيع قليلة. وعليه، فإنّ إيران باتت تقف عند مشارف الخطوط الحمراء، التي طالما قال المسؤولون الإسرائيليّون إنّهم لن يقفوا مُتفرّجين في حال تخطّتها طهران وشارفت على إنتاج السّلاح النّوويّ.
حصل هذا على مسافة أيّام من تاريخ عقد الجلسة السّابعة من مفاوضات فيينا بين إيران والمجموعة الدّوليّة في 29 تشرين الثاني الجاري. وهي الجلسة الأولى بعد تولّي إبراهيم رئيسي مهامّه الرّئاسيّة في طهران.
ما يُعطي إيران الأريحيّة أيضاً في مُمارسة سياسة حافّة الهاوية أنّ الإدارة الأميركيّة الجديدة لم يعُد موضوع إخراج إيران من سوريا من أولويّاتها، على عكس الإدارة السّابقة برئاسة دونالد ترامب
يضيء هذا المشهد على لعبة تمارسها طهران منذ توقّف المفاوضات بعد الجلسة السّادسة في حزيران الماضي. فقد استطاع نظام الملالي أنّ يدفع “طاولة فيينا” ليقف بها على حافّة الهاوية. في لعبته المُفضّلة. وفي الأسابيع الأخيرة، كانت طهران تُمارس هذه الهواية، لكن في ظلّ سكونٍ أميركيّ، أعطاها الأريحيّة المُطلقة بالتّحرّك في المنطقة. وقد تطاولت إيران على كلّ المحاور:
1- سوريا: كانت المحطّة الأولى البارزة قصف قاعدة التّنف الأميركيّة على مُثلّث الحدود السّوريّة – الأردنيّة – العراقيّة بـ8 طائرات مُسيّرة.
2- عُمان: من البرّ انتقلت إيران إلى البحر: في بحر عُمان، كان الحرس الثّوريّ يختطف ناقلة نفطٍ ويسحبها إلى داخل المياه الإقليميّة، عبر عمليّة إنزال جويّ على مرأىً من جنود البحريّة الأميركيّة، موجّهاً لكمات وسط البحر بعد الصّحراء السّوريّة للهيبة العسكريّة الأميركيّة في الشّرق الأوسط.
3- العراق: في بلاد الرّافدين كانت تظاهرات الميليشيات الموالية لإيران تقتحمُ المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد لفرض إرادتها في قلب نتائج الانتخابات النّيابيّة التي أفقدتها الأكثريّة.
بعد التظاهرات الميليشياويّة والمواجهات مع الأجهزة الأمنيّة العراقيّة، جاءَت أوّل رسالةٍ مباشرةٍ مُتفجّرةٍ إلى حليف واشنطن الأوّل في عاصمة الرّشيد، رئيس الوزراء مُصطفى الكاظمي، بقصف مقرّ الاستخبارات العراقيّة، التي كان يرأسها قبل تولّيه رئاسة الوزراء، بصواريخ “الكاتيوشا” التي باتت “ماركة مُسجّلة” للميليشيات الإيرانيّة. وهنا كشَفَ مصدرٌ أمنيّ عراقيّ لـ”أساس” أنّ قصف المبنى جاء مباشرةً بعد انتهاء زيارة قامَ بها رئيس الوزراء مُصطفى الكاظمي لمقرّ الاستخبارات العراقيّة.
لكنّ الرّسالة الأقسى لم تكن في قصف مبنى الاستخبارات، بل كانت في مُحاولة اغتيال الكاظمي في عقر داره بطائرات مُسيّرة مُفخّخة استهدفت مقرّ سكنه في المنطقة الخضراء التي تضمّ السّفارة الأميركيّة أيضاً.
ما يُعطي إيران الأريحيّة أيضاً في مُمارسة سياسة حافّة الهاوية أنّ الإدارة الأميركيّة الجديدة لم يعُد موضوع إخراج إيران من سوريا من أولويّاتها، على عكس الإدارة السّابقة برئاسة دونالد ترامب. ولذلك باتت طهران مُطمئنّة بالكامل إلى تراخي إدارة بايدن اتّجاهها.
هكذا فإنّ امتناع الإدارة الأميركيّة عن الرّدّ على الاستفزازات والهجمات الإيرانيّة، جعل رسالة قاذفة الـB1 تمرّ عند الإيرانيين وكأنّها لم تكن أساساً، وذلك يقيناً من القائمين على القرار في عاصمة الفرس أنّ إدارة الرّئيس جو بايدن لن تردّ على الاستفزازات الإيرانيّة قبل موعد المُفاوضات المُقبلة في فيينا في 29 الجاري.
وتُدركُ طهران أيضاً أنّ إدارة الرّئيس الأميركيّ جو بايدن لا تمرّ بأحسن أيّامها. إذ تُشير الاستطلاعات الأميركيّة إلى تراجع شعبيّة الرّئيس الأميركيّ الذي لم يُكمل عامه الأوّل في الحكم بعد. تتعدّد الأسباب بين داخليّة، مثل أزمة كورونا وارتفاع سعر الوقود ومؤشّرات التّضخّم، وخارجيّة مثل مشهد الانسحاب الكارثيّ من أفغانستان.
وهنا يسأل مُراقبون إن كانت إيران تسعى إلى تقديم “خدمة انتخابيّة” لبايدن والدّيموقراطيين قبل الانتخابات النّصفيّة، على عكس ما فعلت مع الرّئيس السّابق جيمي كارتر سنة 1980 بتأخيرها الإفراج عن رهائن السّفارة الأميركيّة في طهران إلى ما بعد الانتخابات، فكانت خسارته أمام منافسه الجمهوريّ رونالد ريغان.
مهما كانت التّحليلات مُصيبة أو مُخطئة في هذا الإطار، إلّا أنّ القطار الذي يسير في تل أبيب على سكّة مُنفصلة باتت محطّته الأخيرة واضحة لا ريْبَ فيها، وهي تعطيل مشروع القنبلة النّوويّة الإيرانيّة.
متى يتلقّى بايدن “الاتصال”؟
هذا ما عبّر عنه السّيناتور الأميركي الجمهوريّ البارز جيم ريش الذي قال إنّه نصح البيت الأبيض بالاستعداد عندما يتلقّى “الاتصال”، في إشارة إلى لجوء إسرائيل إلى عمل عسكريّ ضد البرنامج النووي الإيراني.
وقال: “لقد قلت لهم: ماذا ستفعلون عند تلقّي الاتصال؟ هل ستقفون وراء إسرائيل متفرّجين؟ أم ستدعمونهم في المعركة؟ الكونغرس بحزبيْه ملتزم بدعم إسرائيل، ويجب أن تحذو الإدارة حذوه”.
بعد كلام السّيناتور ريش، كشَفت تقارير إسرائيليّة أنّ أعضاءً في الكونغرس الأميركيّ قالوا لزوّارهم الإسرائيليين في الأسابيع الأخيرة: “لا تعتمدوا على دعم أميركيّ، افعلوا ما تعتقدون أنّ عليكم فعله”.
في هذا الإطار، كان الإسرائيليّون يأخذون بالنّصائح “الجمهوريّة” الآتية من عاصمة القرار. وأقرّ مجلس الوزراء الإسرائيليّ ميزانيّة قُدّرت بأكثر من مليار دولار أميركيّ لـ”تعزيز قدرة الجيش الإسرائيلي على تعطيل البرنامج النّوويّ الإيرانيّ”.
ومع تصاعد الاندفاع الحكومي الإسرائيليّ لشنّ ضربةٍ ضدّ إيران، مدعوماً بتصاريح أقوى الأحزاب المُعارِضَة “الليكود”، كان المبعوث الأميركيّ إلى إيران روبرت مالي يحطّ رحاله في تل أبيب.
لم تكن زيارة مالي لعاصمة الكيان العبريّ إيجابيّة. أبرز ما يعبّر عن سلبيّتها امتناع رئيس الوزراء الإسرائيليّ نفتالي بينيت عن استقباله. وهذا الامتناع ليسَ تفصيلاً، إذ إنّ مُهمّة مالي المُعلنة في تل أبيب وغيرها من عواصم دول المنطقة كانت “طمأنة الحلفاء” إلى أنّ واشنطن تأخذ بعين الاعتبار مصالحهم في أيّ اتّفاقٍ نوويٍّ مُحتمل مع طهران.
بكلمات أُخرى، كان هدف مالي الضّغط على تل أبيب لعدم القيام بأيّ عملٍ عسكريّ يقلب الطّاولة مع إيران. والواضح أنّه لم ينجح في هذه المساعي.
وفي معلومات “أساس” من مصدرٍ أميركيٍّ في البيت الأبيض، أنّ مُستشار الأمن القومي جايك سوليفان أجرى اتصالاً بنظيره الإسرائيلي إيال هولتا قبل أيّامٍ عرضَ خلاله المستشار الأميركي إمكانيّة التّوصّل إلى اتفاقٍ مبدئيّ مع إيران قبل إتمام العودة إلى الاتفاق النّوويّ، إلّا أنّ جواب هولتا كان سلبيّاً جدّاً: “لن نقبل بأيّ خطوة من شأنها إعادة إحياء “الاتفاق السيّء” مع إيران، وسنُدافع عن مصلحتنا بالطّرق المُناسبة”.
يقوم “الاتفاق المبدئي” الذي طرحه سوليفان على أن تُجمّد إيران تخصيب اليورانيوم إلى مستوي 60% وتتعهّد بالإمتناع عن التخصيب فوق 3.67%، في مقابل تحرير الأموال الإيرانية المجمدة بفعل العقوبات، واستكمال المفاوضات القائمة للتوصل إلى إتفاق دائم.
وتجدر الإشارة إلى أنّ من اقترح هذه الخطوة على الأميركيين والإيرانيين هو منسّق الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق النوويّ إينريكي مورا.
في هذا الشأن، يقول مُراقبون إنّ إسرائيل قد تلجأ إلى خيارٍ من اثنين لتعطيل البرنامج النّوويّ الإيرانيّ:
الأوّل: أن تشنّ عمليّة جويّة لضرب المفاعلات النّوويّة الإيرانيّة وكبح جماح الطّموحات الإيرانيّة النّوويّة. وهذا الخيار قد يجرّ إلى مواجهةٍ واسعة على امتداد المنطقة من قطاع غزّة إلى الخليج العربيّ، مروراً بلبنان وسوريا والعراق واليمن. وستكون طهران أمام احتماليْن لا ثالث لهما: إمّا الرّدّ على الضّربة وإشعال المنطقة بمواجهة شاملة. وإمّا الامتناع عن الرّدّ، وهو خيار قد يؤدّي إلى انهيار النّظام في طهران بسبب ارتباط المشروع النّوويّ الإيراني بكلّ ما يواجهه الدّاخل من صعوبات اقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة بفعل العقوبات المفروضة على البلاد.
الثّاني: أن تُقدم إسرائيل على عمليّات أمنيّة تخريبيّة للمنشآت النّووية واغتيالات مُكثّفة للعلماء والمسؤولين الإيرانيين على غرار ما حدث في مُنشأة نطنز، واغتيال العالم النّوويّ والمُختصّ بالصّواريخ الباليستيّة مُحسن فخري زاده.
إقرأ أيضاً: إيران: من خطف الشيعة… إلى خطف الموارنة
أسبوعٌ يفصل أطراف الاتفاق النّوويّ قبل موعد الجلسة السّابعة. بين دبلوماسيّة الإدارة الدّيموقراطيّة، وحاجتها إلى اتفاقٍ يُنقذ الحزب الدّيموقراطيّ من كارثة مُحتملة تنتظره في الانتخابات النّصفيّة، وبين الاندفاع الإيرانيّ نحو القنبلة النّوويّة والاستعدادات الإسرائيليّة لتعطيلها عسكريّاً أو أمنيّاً، يقف الشّرق الأوسط برمّته على حافّة هاوية بانتظار مَن سيدفعه إليها أوّلاً، إيران بقنبلتها أم إسرائيل بجيشها وأجهزتها؟