لم تكن الخطوة السعودية بالانسحاب من الساحة اللبنانية وليدة ردّة فعل مباشرة على تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، وإن شكّلت الشرارة التي كشفت الغطاء عن تراكمات سياسية ومنهجية لدى القيادة السعودية اعتراضاً على المسار الذي تقول إنّه يأخذ لبنان إلى الخيار الإيراني في مواجهة العمق العربي.
الموقف السعودي الرافض لتزايد نفوذ حليف إيران على الساحة اللبنانية ليس جديداً، وهو اتّبع مساراً تصاعدياً في التعبير عن هذا الرفض، وبشكل أكثر وضوحاً منذ حرب تموز عام 2006. وقد تفاقم الأمر مع الحرب اليمنيّة التي اتّخذ فيها الحزب موقفاً واضحاً إلى جانب جماعة أنصار الله بقيادة عبد الملك الحوثيّ، وعزّزه بالمشاركة في تدريب عناصر هذه الجماعة وتقديم استشارات عسكرية واستراتيجية لهم في القيادة والتخطيط للمعارك العسكرية التي خاضوها ضدّ قوات التحالف العربي وقوات رئيس الجمهورية عبد ربّه منصور هادي. وهو مسار كان من الطبيعي أن يدفع القيادة السعودية إلى إدراج حزب الله على لائحة المنظمات الإرهابية، بعدما تحوّل إلى منظمة إقليمية تعمل انطلاقاً من لبنان في الحفاظ على مصالح إيران داخل مناطق نفوذها بين اليمن والعراق وسوريا وفلسطين.
الموقف السعودي الرافض لتزايد نفوذ حليف إيران على الساحة اللبنانية ليس جديداً، وهو اتّبع مساراً تصاعدياً في التعبير عن هذا الرفض، وبشكل أكثر وضوحاً منذ حرب تموز عام 2006
لم يترك حزب الله مناسبةً أو موقفاً إلا واستغلّهما لتوجيه الانتقاد والهجوم على القيادة السعودية، فانتقد عودة دورها السياسي على الساحة العراقية، وجهود إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، واتّهمها بدعم وتبنّي الجماعات التكفيرية في العراق وسوريا، خصوصاً تنظيم داعش، وبتمويل الاشتباك الذي وقع في منطقة الطيّونة في لبنان والتخطيط له ودعمه، وحمَّل المسؤولية لرئيس حزب القوات اللبنانية باعتباره، حسب توصيف قيادة الحزب، أداةً لتنفيذ المشروع السعودي في لبنان الذي يهدف إلى إضعاف موقع الحزب في التركيبة اللبنانية، ولاحقاً محاصرة دوره في المنطقة. إلا أنّ الحزب فوجئ بالانتفاضة السعودية التي وضعته مع حليفه الإيراني في موقف حرج ودقيق في لحظة كان يراهن خلالها على تطوّرات دولية قد تسمح له بترجمة رؤيته للمنطقة بأقلّ الخسائر الممكنة.
لبنان والتوتر السعودي الإيراني
لا يمكن فصل التصعيد، الذي لجأ إليه حزب الله على الساحة اللبنانية ضدّ الدور السعودي، عن المسار التصعيدي الذي بدأت خيوطه تتجمّع نتيجة عودة التوتّر على خطّ الحوار السعودي الإيراني. خصوصاً أنّ الأجواء الإيرانية في الأسابيع الأخيرة تحوّلت إلى مواقف متوتّرة نتيجة تصلّب وتشدّد سعوديّيْن في الاستجابة للدعوات الإيرانية إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإعادة افتتاح القنصليّتيْن الإيرانية في جدّة والسعوديّة في مشهد. وذلك من دون أن ترى طهران نفسها ملزمة بالتعامل الإيجابي مع المخاوف السعودية في الأزمة اليمنية ومع مطالبة المملكة الجانب الإيراني بالضغط على حليفه الحوثي لقبول دعوة وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة حوار يمنيّة. وقد تبنّت إيران في هذا الملفّ الموقف الذي سبق أن أعلنه الحوثيون بعدم قبول الحوار مع حكومة غير موجودة، والتمسّك بالحوار المباشر مع السعوديّة.
رمي الكرة اليمنيّة في الملعب السعودي، وسحب طهران يدها من عمليّة تسهيل الحوار اليمنيّ، وقطع الطريق على حصول تطوّرات قد تعقّد المشهد السياسي، كلّ هذا كشف عن انتقال إيران إلى خيار التصعيد مع اقتراب موعد العودة إلى طاولة التفاوض مع واشنطن لإعادة إحياء الاتفاق النووي. ويبدو أنّ هدف إيران هو حسم الملفّات الإقليمية والإرباكات، التي حدثت في بعض الساحات، لتصل إلى طاولة التفاوض وهي ممسكة بكلّ تفاصيل ملفّاتها الإقليمية لكي تكون عاملاً مساعداً في مفاوضاتها مع الإدارة الأميركية. وإذا ما كانت تقترب من دائرة الإمساك بالملفّ اليمني من بوّابة المعركة العسكرية التي يخوضها الحوثيون في مدينة مأرب، فإنّ الخطوة السعوديّة على الساحة اللبنانية وضعتها أمام حقيقة تحمّلها مع حليفها اللبناني مسؤولية تحديد موقع لبنان وعلاقاته مع محيطه، بحيث أربكت حسابات طهران التي كانت تراهن على التسوية التي أنتجتها الحكومة اللبنانية الجديدة لتمرير هذه المرحلة وصولاً إلى طاولة فيينا.
هذا التطوّر اللبناني، والموقف السعودي الواضح في التصدّي للاستحواذ الإيراني على الإقليم، قد يدفعان إيران إلى إعادة ترتيب الساحة العراقية التي لا تزال تشكّل منطقة تداخل بينها وبين السعودية، خصوصاً في ظلّ الحكومة القائمة التي تحاول الموازنة بين علاقات الجوار الإيراني وضرورة العودة إلى العمق العربي بما يساعد في إبعاد العراق عن الصراعات الإقليمية أو الدولية بالحدّ الأدنى.
لم تكن الخطوة السعودية بالانسحاب من الساحة اللبنانية وليدة ردّة فعل مباشرة على تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، وإن شكّلت الشرارة التي كشفت الغطاء عن تراكمات سياسية ومنهجية لدى القيادة السعودية
بغداد مقابل بيروت
وقد جاءت التحرّكات التي قامت بها الفصائل المسلّحة الموالية لإيران، والتظاهرات أمام مداخل المنطقة الخضراء في بغداد اعتراضاً على نتائج الانتخابات البرلمانية، ردّاً على الموقف السعودي من لبنان، وللقول بأنّ مساعي إخراج إيران من الساحة اللبنانية سيكون ثمنه إخراج أو استبعاد أيّ دور سعودي على الساحة العراقية. من هنا كانت التحرّكات التي قامت بها الفصائل الموالية لإيران منضبطة تحت السقف الذي حدّدته طهران. إذ شدّدت الأخيرة على ضرورة الالتزام بالسقف القانوني وعدم اللجوء إلى استخدام العنف، فضلاً عن أنّها لعبت دوراً واضحاً في تقسيم الأدوار بين جناحيْ القوى السياسية التي تمثّل هذه الفصائل والأحزاب المؤيّدة لها. فأوكلت إلى الإطار التنسيقي مهمّة المواجهة السياسية، في حين تولّت فصائل “المقاومة” مهمّة التصعيد في الشارع، بهدف محاصرة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وتحميله مسؤوليّة ما تقول إنّه تلاعب في نتائج الانتخابات، ثمّ إخراجه من دائرة المنافسين على موقع رئاسة الوزراء أو الحصول على ولاية جديدة في هذا الموقع.
اعتقدت قوى الإطار التنسيقي في عملها السياسي، والفصائل في لجوئها إلى الشارع، حتى مساء يوم الجمعة الفائت، الذي شهد مواجهات أدّت إلى سقوط قتلى من المتظاهرين على أيدي القوات الأمنيّة، أنّها حقّقت تقدّماً في ترجمة هدف استبعاد الكاظمي عن رئاسة الوزراء، والتخلّص ممّا تسمّيه “الوديعة السعودية الأميركية” في السلطة، والاستفراد بهذه الساحة وإعادة رسمها بما يخدم الأهداف التي تريدها في الإقليم، خاصة ما يتعلّق بموقفها من محاصرة أيّ دور سعوديّ فيه.
لكنّ التطوّر الأمنيّ باستهداف طائرة مسيّرة منزل الكاظمي فجر الأحد الفائت، قد يعزّز اعتقاد هذه الفصائل بنهائيّة خروج الكاظمي من السلطة، وحسم النقاش حول إمكانيّة عودته. إلا أنّ أسئلة كثيرة ومتشعّبة تُطرَح حول مستقبل العراق والعملية السياسية واستقراره وأمنه في المرحلة المقبلة. خصوصاً أنّ المعلومات المسرّبة عن الجولة غير المكتملة التي قام بها مقتدى الصدر في بغداد، والتي تزامنت مع المواجهات بين متظاهري الفصائل والقوات الأمنيّة، واللقاءات التي عقدها مع بعض القيادات في الإطار التنسيقي، مثل عمّار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، لم تكن إيجابية، ولم تصبّ في إطار جهود الصدر لنسج تحالفات تساعده في تشكيل الحكومة المقبلة، وتضعه في موقف أقرب إلى الخاسر سياسياً على الساحة الشيعية، إلى جانب الكاظمي في المعادلات السياسية. ولذلك قد يطرح التطوّر الأمني ضدّ الكاظمي سيناريوهات معقّدة حول مستقبل العراق:
– فإمّا استسلام الحكومة لإرادة الفصائل وإعلان وفاة العملية السياسية، وإمّا الدفع إلى وضع العراق تحت الوصاية الدولية.
– وإمّا الدفع نحو إعلان حالة طوارئ أمنيّة يتولّى فيها الكاظمي بصفته القائد العامّ للقوات المسلّحة مهمّة إدارتها، مدعوماً من مقتدى الصدر والجناح العسكري التابع له “سرايا السلام”. وهو توجّه بدا واضحاً في بيان القوات الأمنيّة بعد اجتماع اللجنة الوزارية للأمن الوطني، وأكثر وضوحاً في التغريدة الأخيرة للصدر تعليقاً على الاعتداء على منزل الكاظمي: “على جيشنا الباسل والقوى الأمنيّة البطلة الأخذ بزمام الأمور على عاتقها حتى يتعافى العراق ويعود قويّاً”.
إقرأ أيضاً: باريس للرياض: أصبتم وأخطأنا في لبنان
هي خيارات تضع الدولة العراقية ومؤسّساتها الأمنيّة في مواجهة مع الفصائل والقوى السياسية المعارضة للكاظمي والصدر، وتفتح الباب أمام احتمالات الدم والفوضى الأمنيّة والحرب الأهليّة والمعارك المتنقّلة.
حمى الله العراق.