تركيا: عثمان كفالا.. لماذا كلّ هذا الضجيج؟

مدة القراءة 8 د

دعا سفراء 10 دول غربيّة، في بيان مشترك، أنقرة إلى الإفراج الفوريّ عن رجل الأعمال والناشط السياسيّ التركيّ عثمان كفالا التزاماً بقرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة. أغضبت هذه الخطوة القيادات التركيّة، ودفعت الرئيس رجب طيب إردوغان إلى توجيه تعليماته بإعلانهم أشخاصاً غير مرغوب بهم تمهيداً لسحب اعتماداتهم الدبلوماسية وترحيلهم إلى بلدانهم بسبب إقحام أنفسهم في مسألة داخلية. لو لم تنجح الدبلوماسية في آخر لحظة في قطع الطريق على تفاعل هذه الأزمة، لكانت العلاقات التركية الغربية في ذروة توتّرها واحتدامها اليوم، ولكنّا نتابع قرارات ترحيل السفراء في الجانبين تتطاير من حولنا.

كانت الخيارات التي أعلنتها أنقرة محدّدة ومحدودة في الوقت نفسه: إمّا التراجع عن البيان والاعتذار، أو توضيح المقصود في النصّ المنشور بالطريقة التي تناسب تركيا، أو حزم الحقائب والمغادرة

هل انتهت أزمة كفالا أم الذي تمّ تجميده هو التوتّر التركي الغربي بانتظار توقيت جديد واختيار ساحة مواجهة أخرى؟ لماذا كفالا تحديداً؟ فيما الآلاف من الأشخاص في سجون بلدان المجلس الأوروبي الـ47 يُحاكمون أو ينتظرون انتهاء محاكماتهم منذ سنوات؟ ما الذي سيجري الآن على جبهتيْ كفالا والعلاقات التركية الغربية؟

 صحيح أنّ العلاقات الدبلوماسية لم تكن ستُقطع، لكنّ الأزمة كانت ستتفاقم وتتفاعل وتتحوّل إلى اصطفاف أوروبيّ غربيّ أكبر، وتصبح أكبر أزمة دبلوماسية في العلاقات الدولية في التاريخ المعاصر.

كان سيُقابل ترحيل 10 سفراء أجانب ترحيل 10 آخرين أتراك يعملون في عواصم هذه الدول.

مصطلح “شخص غير مرغوب به” (Persona non grata)

هو مصطلح لا يُستخدم في اللغة الدبلوماسية إلا في الحالات النادرة، وبعد توتّر وصدام سياسيَّيْن كبيرين بين الدول. ما كان سيجري بين تركيا و10 دول غربية هو أبعد من طرد سفير، بل طرد سفراء هذه الدول بالجملة ومرّة واحدة ليصبح المصطلح، بلغة الجمع هذه المرّة: Personae non gratae.

وكانت الأزمة ستتحوّل عندئذٍ من أشخاص غير مرغوب بهم إلى دول غير مرغوب بها.

اختار إردوغان الذهاب إلى الصولد دفعة واحدة: تراجعوا عن بيانكم أو احزموا حقائبكم وارحلوا. لا تحذير ولا تشاور ولا رغبة في الذهاب نحو طاولة حوار وتهدئة. فخرج علينا السفير الأميركي بأنقرة بتغريدة تهدّىء الأجواء. كنّا في طريقنا إلى المواجهة الكبرى في العلاقات التركية الغربية، فاكتفينا بالمواجهة الصغرى هذه المرّة.

بين التهم الموجّهة إلى كفالا المشاركة في التخطيط للانقلاب على الحكومة الشرعية عام 2016، ودعم تحرّكات “غزي بارك” في إسطنبول عام 2013، وتسريب معلومات سرّيّة تتعلّق بالأمن القومي التركي، والتنسيق مع الدبلوماسي الأميركي هنري باركي في التآمر على تركيا، وحصوله على تمويل أجنبي يمسّ أمن البلاد واستقرارها، إلى جانب تهمة خرق الدستور التركي.

مشكلة السفراء العشرة هي أنّهم تطوّعوا للقيام بمهمّة المجلس الأوروبي المعنيّ الأوّل والمباشر بملفّ أزمة كفالا، والذي يعدّ نفسه في نهاية شهر تشرين الثاني المقبل لبحث مسألة عدم التزام أنقرة بتنفيذ قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية الداعي إلى الإفراج عن السجين بعد حرمانه من حقوقه الفرديّة وعدم ثبوت التهم ضدّه على الرغم من مرور 4 سنوات على توقيفه وحبسه، كما تقول المحكمة في ستراسبورغ.

كانت الخيارات التي أعلنتها أنقرة محدّدة ومحدودة في الوقت نفسه: إمّا التراجع عن البيان والاعتذار، أو توضيح المقصود في النصّ المنشور بالطريقة التي تناسب تركيا، أو حزم الحقائب والمغادرة.

ما أغضب أنقرة هو اعتبار ما جرى خطة مدبّرة مقصودة لتوتير العلاقات معها على هذا النحو بقرار أميركي، كما يُقال.

وما أزعجها أيضاً هو أن يتحرّك السفراء للقيام بهذه الخطوة من داخل العاصمة التركية من دون ترك حكوماتهم ووزاراتهم تدخل على الخطّ. سفراء، حسب معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961، يمثّلون رؤساء بلادهم في تركيا، ويتحمّلون هذه المسؤولية، يوقّعون بياناً يتعلّق بالدعوة إلى الإفراج عن أحد المواطنين الأتراك في مسألة تُناقش داخليّاً أولاً، ثمّ هي نقطة خلاف بين تركيا ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية ثانياً. الإجماع في تركيا كان على لعب السفراء دور 47 دولة في المجلس الأوروبي، وعدم ترك مسار الأمور لمحكمة حقوق الإنسان والهيئات السياسية والبرلمانية لتتعامل مع الملفّ.

وصف الإعلام المقرّب من الحزب الحاكم ما جرى بأنّه “وان ميونيت ” ثانية مشابهة للتوتر التركي الإسرائيلي قبل عقد بين إردوغان وشيمون بيريز. يومها استخدم الرئيس التركي هذه العبارة، وها هو يكرّرها اليوم مع العواصم الغربية وليس مع تل أبيب هذه المرّة.

تقوية أردوغان

في المقابل مَن يقول إنّ ما فعله السفراء هذه المرّة هو توحيد الشارع السياسي والشعبي مرّة أخرى وراء إردوغان وحزب العدالة الذي تتراجع أصواته بشكل ملحوظ حسب استطلاعات الرأي. لكنّ الرئيس التركي السابق عبد الله غول يذكِّر أنّ تركيا هي بين الأعضاء المؤسّسين للمجلس الأوروبي عام 1949، وأنّ مولود شاووش أوغلو رأس البرلمان الأوروبي مرّتين، وأنّ أنقرة قبلت العقود والاتفاقيّات مع هذه المؤسسات بدستورها وقوانينها. لا بل إنّ رئيس حزب السعادة الإسلامي تمل قره مولا أوغلو يذكِّر إردوغان أنّ الغرب والعواصم الأوروبية هما مَن وقفا إلى جانبه عندما سُجِن بسبب قراءته لأبيات من الشعر في التسعينيّات، فلماذا اعتراضه على دعوة السفراء إلى تنفيذ قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في ملف كفالا الذي لم يتمكّن القضاء من العثور على أدلّة تدينه بعد مرور كلّ هذه السنوات؟

ربّما ما أغضب أنقرة كان القلق من المطالبة بالحريّة لكفالا اليوم، ثمّ الاستمرار مع صلاح الدين دميرطاش الرئيس المشترك الأسبق لحزب الشعوب الديمقراطية المسجون منذ أعوام، ثم المطالبة بإطلاق سراح قيادات وكوادر الكيان الموازي المحسوبة على جماعة غولن من السجون التركية، وهي القيادات التي لم يُعطِ العديد من العواصم الغربية لأنقرة ما تريده في توصيفها وتصنيفها.

الاحتمال الآخر أن يكون السفراء استمدّوا قوّتهم من إطلاق سراح الراهب الأميركي برنسون والإعلامي الألماني من أصل تركي دنيز يوجال، اللذين كانا يُحاكَمان في تركيا بتهم التجسّس والمسّ بالأمن القومي التركي، ونجحت واشنطن وبرلين في استردادهما قبل سنوات على الرغم من كل التصعيد والتصلّب من قبل قيادات حزب العدالة والتنمية.

وصف البعض في تركيا تغريدة السفراء عن التزامهم باتفاقيّات فيينا بأنّها تراجع عن مواقفهم، لكنّ الناطق باسم الخارجية الأميركية يقول إنّ بيان السفراء المعلَن لا يتعارض مع روح هذه الاتفاقيّة وبنودها، فمن الذي يكون قد تراجع هنا أنقرة أم السفراء؟

يصف إردوغان كفالا بأنّه “فرع سوروس في تركيا”، في إشارة إلى الملياردير الأميركي من أصول مجريّة جورج سوروس. لكن في صفوف المعارضة التركيّة مَن يصرّ على اعتبار كفالا الرجل الديموقراطي الليبرالي المعارض الذي يأخذ مكانه بين أبرز شخصيّات المجتمع المدني.

اعتُقل كفالا عام 2017 بتهم دعم “الكيان الموازي” التي نفّذت المحاولة الانقلابية في العام 2016. وفي العام 2020، تمّت تبرئته من العديد من التهم، لكنّ المدّعي العامّ طالب باستمرار سجنه بسبب تهم جديدة على الرغم من دعوة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية إلى الإفراج عنه لعدم ثبوت الأدلّة

فمن هو كفالا؟

كفالا رجل أعمال تسلّم باكراً إدارة شركات والده، لكنّه اعتباراً من العام 2002 بدأ الانتقال التدريجيّ نحو مسار مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات البحثية والفكرية التي كان أبرزها مؤسسة المجتمع المفتوح التي أنشأها سوروس.

اعتُقل عام 2017 بتهم دعم “الكيان الموازي” المحسوب على جماعة فتح الله غولن التي نفّذت المحاولة الانقلابية في العام 2016. وفي العام 2020، تمّت تبرئته من العديد من التهم، لكنّ المدّعي العامّ طالب باستمرار سجنه بسبب تهم جديدة على الرغم من دعوة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية إلى الإفراج عنه لعدم ثبوت الأدلّة، وبسبب إطالة المحاكمات وفترة اعتقاله.

لقد كان خطأ السفراء وبلدانهم هو وضع أنفسهم في موقع الحَكَم والحاكم في الوقت نفسه في التعامل مع ملفّ كفالا، وتجاهل أنّ المسألة تعني محكمة حقوق الإنسان الأوروبية. ولم تكن أنقرة تريد أن تستعدي الغرب بهذا الشكل الجماعي لتجنّب ارتدادات الأزمة على مصالحها الاقتصادية والتجارية والسياحية مع هذه الدول، ولهذا ذهب الجميع نحو التهدئة.

هناك من يتمسّك بحقيقة أنّ الأمور لم تُحسَم بعد، وأنّه ستكون جولات جديدة من المواجهة. مراكز القرار في الغرب غاضبة من استقلاليّة القرار التركي الإقليميّ السياسي والعسكري والاقتصادي، وهي ستبحث دائماً عن فرص التصعيد مع تركيا كي تتصلّب وتتشدّد أكثر فأكثر في مواقفها، وتذهب بالأمور نحو القطيعة مع محاولة رمي الكرة في الملعب التركي وتحميل أنقرة مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد.

يردّد الداخل التركي معلومات مفادها أنّ واشنطن هي التي رسمت الخطة، وأشرفت على تنفيذها.

إقرأ أيضاً: الشروط التركية على طالبان…

فهل الهدف هو عرقلة القمّة التركية الأميركية المرتقبة على هامش أعمال قمّة الدول العشرين أو خلال قمّة المناخ أم إضعاف أوراق إردوغان خلال مفاوضاته مع نظيره بايدن؟

ستُعقَد الجلسة المقبلة في ملفّ قضية كفالا في 26 تشرين الثاني المقبل. وقد أعلن المجلس الأوروبي أنّه سيبدأ في مطلع كانون الأول “اتّخاذ إجراءات تتعلّق بتجاوزات تركيا” إن لم تحسم موضوع كفالا.

لقد باتت الكرة في ملعب القضاء التركي ليقول ما عنده ويحدّد مسار الأمور.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…