يواصل موقع “أساس” نشر سلسلة مقاطع من كتاب “أطول أيام الزعيم”، للسياسي الفلسطيني، الوزير السابق والمستشار الرئاسي في السلطة الفلسطينية، نبيل عمرو، الذي عايش الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
اليوم ننشر الحلقة الثامنة بعنوان نبيل عمرو في كتابه “أطول أيام الزعيم”(8): ماذا اشترط الأسد على “أبو عمار”؟
شرح لنا محسن إبراهيم بطريقة ساخرة، كيف كان سيشعر لو اضطر لإخراج عرفات جثة هامدة من تحت أنقاض بناية الصنايع، إلا انه استدرك وقال: كانت بالنسبة لي محلولة. فلم أستبعد أن تنهض واقفاً وأن ترسم علامة النصر على اعتبار أنني واحد من المعجبين.
ضحكنا وقال:
– كم رغبت في أن أستعرض وجوه القادة الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعرب حين شاع نبأ مقتلك.
انفجر ضاحكاً وقال:
- فرجة الله وكيلك.
وأضاف:
- هل تعرف من الذي كان سيحزن؟
فقال أبو عمار ضاحكاً:
– الغلابة اللي زيي وزيك.
كانت جلسة استرخاء هادئة وحميمة، تحولت إلى اجتماع تداول فيه القطبان فيما يتوقعانه بعد الخروج. كان تركيز أبو عمار على الثمن السياسي الذي طالب به محل دعم متحمس من جانب محسن إبراهيم، وقال بلهجته اللبنانية الرشيقة:
- معقول خروج المقاومة من لبنان، وتغيير معادلة القوى في المنطقة، وإزالة صداع عانت منه إسرائيل وأمريكا وأعوانهما، سيتم بلا ثمن، من غير ثمن سياسي مهم ما بتوفي معنا.
انتقل الحديث في جلسة الاسترخاء تلك الى الذكريات، ومحسن إبراهيم سيد الرواة في هذا المجال. تحدث عن صلته بالرئيس جمال عبد الناصر، وقال انه كان يزوره بانتظام حتى انه كان من العرب القلائل الذين دعوا إلى حفل زفاف واحدة من بناته. وتحدث عن توأمه الأكبر كمال جنبلاط، وثقافته ودرايته التفصيلية باللعبة اللبنانية واقطابها والمؤثرين فيها.
كان عرفات يسعى لتفاهم مع الأسد على الأقل لتأجيل اخراج قواته من شمال لبنان حيث النفوذ السوري القوي هناك. ومثلما جاء المجتمعون غادروا
كنت أواصل النظر إلى باب الصالون المغلق حيث كنا نجلس. كانت قد أصابتني فوبيا “المفاجئات”. فالباب المغلق يعني أن وراءه شخصاً ما يحمل خبراً مخيفاً. سمعنا طرقاً على الباب، نهض حكمت محاذراً أن لا يقتحم الجلسة شخص غير مناسب. أغلق الباب وراءه. عاد مكفهر الوجه وكأنه يكتم خبراً سيئاً ويفتش عن وسيلة آمنة لإعلانه.
- خير يا حكمت؟
بادر محسن متسائلاً وبلهفة. فقد اقلقته إشارات الانزعاج التي ظهرت على وجه رفيقه.
– هو خبر مزعج ولكن بسيطة بتنحل.
قال حكمت كأنه يريد تقديم وجبة سيئة على دفعات.
استحثه أبو خالد وبعصبية:
– يا خيي شو عندك، حطمت أعصابنا دخيلك. احكي شو في.
أجاب حكمت:
- عرف الناس بوجود أبو عمار هنا وبدأوا بمغادرة بيوتهم.
نهض القائد العام وقال:
- إذاً لابدّ من مغادرتي فوراً.
أمسك به محسن وأجلسه على المقعد وقال مطمئناً:
-إبقَ هنا حل هذه المشكلة عندي.
على عجل وضع قائد الحركة الوطنية اللبنانية خطة تمويه لإنقاذ الموقف، ووقف هروب الناس من المكان. وقد تفاهم عليها بالنظرات، فهو لا يحتاج مع عرفات إلى شرح طويل لأي أمر.
هبطنا اربعتنا إلى الطابق الأرضي، حيث المدخل المضاء بالكهرباء. كان من تبقى من الناس يسلط نظره على البناية التي عرفوا أن الرجل الخطر يوجد بداخلها.
همس محسن في اذن حليفه قائلا:
– سيأخذكم مرافقي بعيدا عن البناية، وسيعود بكم بعد لفة تمويه الى المكان الذي سنعقد فيه الاجتماع. ولكي يطمئن المتخوفين من وجود الرجل الاخطر في حيهم هتف بأعلى صوته:
- مع السلامة يا أبو عمار، دير بالك على الطريق، سلم على الاخوان في الشام.. كلها كم يوم ونحنا لاحقينك.
سحبت مسرحية محسن المرتجلة الذريعة من الهاربين. لم يعد من مبرر لمواصلة الهرب. حشرنا أنفسنا في السيارة الصغيرة وامامنا سيارة الدليل الذي طاف بنا قرابة نصف ساعة في عدد من شوارع بيروت ثم عاد بنا عبر شارع خلفي لنجد أنفسنا امام بناية ضخمة قيد الانشاء قيل لنا انها مشروع مدرسة. خلال جولتنا التمويهية كان حكمت قد امّن طاولات ومقاعد بلاستيكية تكفي وتزيد عن عدد الرجال الذين سيعقدون اجتماعهم الأخير في بيروت، والذين هم في واقع الامر قادة مغامرة توشك على الانتهاء.
كان أبو خالد في انتظارنا والى جواره حكمت، فسأل:
=- كيف امضيت يومك بعد قصة الصنايع؟
نظر ناحيتي وقال:
– اشرح له يا نبيل.
عرضت الوقائع كما لو انني اعقد مؤتمرا صحفيا اشرح فيه النشاط اليومي للقائد العام. بدأت بحكاية الفرن، وعطل السيارة، والتفتيش على القائد العام، الى ان وجدناه في أحد مقرات أبو اياد، وكيف الهم الله أبو عمار حين امر فتحي بتجنب الذهاب الى غرفة العمليات المركزية في الصنايع، والسير في اتجاه آخر ثم …. ثم… ثم. الى غداء خبز الصاج. وما تلاه من وقائع مثيرة في ذلك اليوم الطويل بل والأطول.
ألّف أبو خالد نكتة ولكنها ذات مدلولات سياسية بليغة، فقال:
- كثير من الزعماء يفتشون عن عمل وانت من كثرة العمل تفتش عن مكان.
وأطلق ضحكته المجلجلة
وكما لو أن أبو عمار رغب في سد الثغرات التي لاحظها في روايتي، ذكرني بتفقد خطوط التماس، وباجتماع المستشفى وزيارة البيت الأبيض وطلب شقيقه الملح بنقل الإذاعة التي وصفها بالكابوس، بينما شقيقه دأب على وصفها بأقوى فرقة قتالية في المعركة. قلت:
- ما دمت انت من عدت الى هذه الحكاية فلكي لا تفاجأ ولا تستقبل شكاوى جديدة من الدكتور فتحي، أقول لك بصراحة لن انقل الإذاعة، الا إذا قررت انت ان نعبر هذه المرحلة الحساسة من المعركة السياسية والإعلامية واحتمال تجددها عسكريا بلا صوت.
قال:
-لماذا؟ ألا تستطيعون نقلها في الليل، وسأضع اللجنة العلمية وكل المهندسين والخبراء تحت تصرفك لإنجاز الامر في ساعات.
قلت:
- المسألة ليست هكذا.. ان تلف قطعة واحدة من القطع الحساسة في جهاز الارسال سيوقف البث الى ان نجد بديلا لها ويا عالِم … نجد او لا نجد.
ثم ان التفكيك الذي يستغرق ساعات، سـتأتي بعده عملية التركيب التي لو تضافر كل فنيي ومهندسي الكون لإنجازها فسيستغرق الامر اسبوعا.
اشاح بوجهه عني، هكذا يفعل حين تسد الأبواب امام ما يريد، بدا لي انه يقارن في داخل نفسه بين إرضاء شقيقه الذي يعتبر الإذاعة كابوسا، وبين متطلبات المعركة التي تشكل الإذاعة أحد اعمدتها. لم يقل شيئا، ما يعني انه وافق على رفضي للنقل وأهمل الحاح شقيقه الذي ذهب ادراج الرياح.
ايدني محسن إبراهيم بشدة وقلل من مخاوف شقيق الرئيس قائلا:
- شهران ولم تقصف فكيف ستقصف وأنتم على ظهور البواخر.
وضع القائد العام وحليفه محسن إبراهيم خطة تمويه ثانية تحوطا من اكتشاف مكان الاجتماع. أكثر من ثلاثين قائدا يفترض حضورهم لاتخاذ القرار النهائي. كانت الخطة ان لا يأتوا عشوائيا اذ لا ضمانة من ان يكون بعضهم مراقبا بحيث يستدل من حركته على الهدف الكبير الذي لو تمكن الخصوم منه لانتهى ذلك الشيء المسمى بالثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
تولى فتحي ومرافق أبو خالد ابلاغ القادة بكيفية الوصول الى مكان الاجتماع وباختصار … فلان وفلان وفلان يتجمعون في لوبي فندق ستراند مثلا، ويتولى فلان احضارهم، وهكذا تم تحديد أماكن لمجموعات قيادية من الصف الأول، لا تزيد الواحدة عن أربعة، ويتعين على كل مجموعة ان تنتظر في المكان المحدد الى ان يأتي من يقلها الى مكان الاجتماع ذلك بعد رحلة تمويه طويلة.
امتلأت المقاعد البلاستيكية بالقادة. كان عرفات يفضل وهو على رأس أي اجتماع ان يعطي الكلمة الافتتاحية لواحد من الكبار. وفي اجتماع كهذا فضّل عرفات ان يكون المفتتح هو محسن إبراهيم. كان الثنائي أبو اياد وأبو جهاد غائبين.
بدأ قائد الحركة الوطنية مداخلته مشيرا الى ان الجميع في انتظار العميد سعد صايل الذي سيتحدث في تفاصيل الخروج المقترحة من قبل السيد فيليب حبيب، وقال:
– الى ان يأتي العميد فلنناقش الرسالة القادمة من سورية عن طريق المبعوث الأميركي.
قال: الرئيس حافظ الأسد الذي كان مستعدا لاستقبال عدد محدود من القادة والمقاتلين قد غير رأيه وابلغ حبيب بأن سورية مستعدة لاستقبال أي عدد يغادر بيروت دون تحفظ على أحد، وشرط الرئيس السوري ان يتلقى رسالة خطية موقعة من الرئيس عرفات يطلب فيها منه استقبال المقاتلين والقادة. وعقب محسن إبراهيم على نفسه حين قال:
– معه حق … الرجل يخاطب التاريخ ولا يريد صيغة لاستقبال المقاتلين الفلسطينيين في سورية يفهم منها انه هو من شجع ذلك او تواطأ على ذلك لهذا. ونظر ناحية أبو عمار، اذا لنساعد الرجل الذي سيساعدنا ولنرسل له رسالة شكر واعتراف بالجميل موقعة باسمك ولكنها في واقع الامر باسمنا جميعا.
قال أبو عمار:
- سأفعل.. وسأشكره على مبادرته. فلم يعد لدينا مساحة لان نتردد في الخروج. واسترسل في عرض موقفه الذي لم يمل من تكراره بأنه ينتظر ثمنا سياسيا أمريكيا لقاء الخروج.
اشتبك الجالسون في نقاش لا جديد فيه وعرضت مواقف كل فصيل او تشكيل من الخروج او البقاء.
ساد صمت غير مألوف عن الاجتماعات الفلسطينية اللبنانية المشتركة، حين وصل العميد أبو الوليد وتحت ابطه ملف، فتحه وراح يقرأ منه. أيقن الجميع ان المغادرة ستبدأ قريبا وان آخر العقبات اللوجستية التي كانت تعترضها قد حلت بنفس الطريقة التي حلت بها عقد كثيرة، ذلك ان الحصول على المواقف المبكرة المرحبة بمغادرة الفلسطينيين الى الدول التي استعدت لاستقبالهم كانت بفعل جولة قام بها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب الى تلك الدول.
لم يهمل أبو خالد اغراء تأليف طرفة حول سطوة الأمريكيين على النظم الثورية التي هي اقوى من سطوة السوفيات على من يدعون التحالف معهم وقال:
– لو ان الرفيق برجنيف طلب من الرفيق اللي بيني وبينكم -وكان يعني الأسد- باستقبال الاف الفلسطينيين الخارجين من بيروت لما استجيب له، غير ان الامر مختلف حين يفعل الامريكيون ذلك.
أحد مندوبي النظام السوري في الثورة الفلسطينية انتفض غاضبا وقال:
- هل هذا هو جزاء الرفيق حافظ الأسد الذي فتح أبواب سورية وبلا حدود لكل الخارجين من بيروت؟ هل هذا جزاءه بعد ان أرسل كل سلاح طيرانه للدفاع عنا وخسر ما يزيد عن مائة طائرة؟
شعر عرفات بأن الأمور تسير بمنحى لا يناسبه، تدخل وقال:
- انت عارف يا خويا، اخوك محسن بحب يهزر، وانا في رسالتي التي سأوجهها باسمنا جميعا سأشيد ليس فقط بدور سلاح الجو السوري وقوات الردع السورية التي حشرت معنا في المربع الضيق، بل بالمواقف التاريخية لسورية ورئيسها وقائدها حافظ الأسد.
بدا لي ان الرجل الذي سيغادر الى اليونان كتعبير عن سخطه على دور كل العرب في الحرب الطويلة التي خاضها وكان سلبيا ومحبطا لم يقطع شعرة معاوية مع من لا غنى عنه بعد الخروج.
كان عرفات يسعى لتفاهم مع الأسد على الأقل لتأجيل اخراج قواته من شمال لبنان حيث النفوذ السوري القوي هناك. ومثلما جاء المجتمعون غادروا.
بقينا القائد العام وانا في رحاب محسن إبراهيم وحكمت، وحصلنا على وجبة كانت باذخة بفعل سطوة الجوع الذي داهم امعاءنا الخاوية.
مع محسن إبراهيم لا تحب ان تنتهي الجلسة. بعد مغادرة القادة وبقاء اللبنانيين فقط، حيث كان عرفات يفضلهم في التعامل على القادة الفلسطينيين. سأل اللبنانيون:
-لم تقل لنا هل تمت الموافقة على شروطك بشأن ترتيبات الخروج؟
أجاب بزهو:
– ليه هما بيقدروا يرفضوا واللا بيقدروا يفرضوا علينا شروطهم. لقد وافقوا وستكون المغادرة وفق مراسم احتفالية لجيش منتصر ينتقل من جبهة الى أخرى.
تبادل الجالسون النظرات ووشت لغة الجسد بأنهم يقولون لبعضهم هذا هو ياسر عرفات صاحب موهبة تحويل ما يبدو هزيمة الى نصر. استرسل في وصف المراسم التي أصر على حتمية اجرائها حين مغادرته المحتملة وغير المحسومة حتى اللحظة ميناء بيروت. كانت قد تمت الموافقة على ان يصعد المقاتلون الى ظهور السفن بلباسهم العسكري وسلاحهم الفردي ”الكلاشينكوف” وان يحمل كل مقاتل على ظهره جعبة تتسع لملابسه واشيائه الخاصة فقط، تأكيدا على اننا كما قال لا نخرج محملين بغنائم، واشترط على ان يضع كل مغادر من القوات وسام صمود بيروت على صدره.
كانت هذه الأمور مهمة لعرفات ليس من حيث الشكل، وانما لأنه أراد فعلا ان ينتقل من معركة الى أخرى وان يعطي صموده وصمود رجاله حقه من التبجيل والتكريم .
إقرأ أيضاً: نبيل عمرو في كتابه “أطول أيام الزعيم”(7): هذا ما قاله “أبو عمار” عن محسن إبراهيم
قال لي ونحن نغادر معقل محسن إبراهيم ولكن هذه المرة الى مقر الإذاعة:
لو لم نقاتل كل هذه الفترة الطويلة، ولو لم نوقع خسائر كبيرة ونوعية في القوات الإسرائيلية التي وصل عديدها ثمانية فرق ونصف، ولو استمعنا واذعّنا للذين قالوا لنا في الايام الأولى للحرب اخرجوا كقيادة ونحن نؤمن مغادرتكم، لو استمعنا لهم لما وجدنا ولو قرية عربية واحدة تستقبلنا. ولحلت علينا لعنة امة بأسرها كانت تراهن علينا كبديل للهزائم التي عانى منها العرب. ماذا كنا سنقول لهم بعد ان ينجو القادة ويهلك المقاتلون والناس؟
كان يحب الحديث حول هذا الامر، كان يجاهد من اجل ان لا يعتبر الخروج من بيروت هزيمة.