إنّها الحرب الأهليّة الباردة

مدة القراءة 5 د

وصل لبنان إلى مرحلة الحرب الأهليّة الباردة مع احتمال أن تتحوّل إلى حرب فاترة.

فقد اعتاد اللبنانيون على اهتزازات أمنيّة متواترة مثلما تعوّدوا الإفقار المتزايد والعزلة ودخلوا في عالم منفصل عمّا كانوا عليه أو عن الذي كانوا فيه. عالمهم الجديد يتّصل بأحوال سوريا والعراق وبفضاء الإمبراطوريّة الإيرانية.

من منافع حادثة الطيّونة لحزب الله وللآخرين، عودة اللبنانيين جميعاً إلى أحزابهم وزعمائهم، وهو ما يعني دفن كلّ المشاريع البديلة

ما أعلنه الأمين العامّ لحزب الله حسن نصر الله كان مؤشّراً واضحاً إلى ذلك. وهو يتقاطع مع مواقف جبران باسيل الأخيرة التي ركّز فيها على ضرورة التعاون بين لبنان وسوريا والعراق والأردن، في الإطار “المشرقيّ” الذي يفضّله باسيل، وهو بحدّ ذاته نوع من الالتفاف على عروبة لبنان والعروبة ككلّ، في إحياء مزدوج لِما يُسمّى “تحالف الأقليّات”، أو إحياء مبطّن ومُعدَّل للنظرية “السورية القومية الاجتماعية”. وذلك يتجلّى من خلال مواقف باسيل الواضحة ومواقف نصر الله الأخيرة، التي أشار فيها أكثر من مرّة إلى أنّه عمل على حماية المسيحيّين.

حسم نصر الله السجال اللبناني الكبير حول هويّة البلد والعقيدة السياسية فيه، ويريد أن يحسم صراع الطوائف والمذاهب بغلبة واضحة، مع ادّعاء احترام التعدّد والتنوّع المقرون بالتفوّق الذي على الجميع أن يعترفوا به. لذلك يبدو نصر الله حريصاً على كلّ المكتسبات السياسية والأمنيّة التي حقّقها من خلال النظام القائم وما يشبه السلم الأهليّ. وهو حريص أيضاً على بقاء شكليّات دستورية وميثاقية، انطلاقاً من سياسة القويّ الذي يحمي الضعفاء ويثابر على بقائهم ضعفاء وفي حاجة دائمة إمّا إلى حمايته، أو إلى عدم استفزازه، أو إلى تلبية ما يريد في ما هو أوسع، مقابل سعيهم إلى تحقيق ما هو تفصيليّ في الداخل من مكاسب ومناصب.

لبنان اليوم بإدارة حزب الله يبدو متمايزاً عن مناطق النفوذ الإيرانية وعن إيران نفسها بوصفه عامل إقناع للعالم بأنّ إيران قادرة على التعايش مع قيم الغرب أكثر بكثير من الخليج الذي يتّهمه بالتكفيريّ والوهّابيّ. على هذا الشعار يحاول نصر الله أن يلعب ويكرّس انتصاراته، ولذلك يستحضر دوماً الصراع ضدّ التكفيريّين والمجموعات الإرهابية، مقابل ادّعائه الحفاظ على المؤسسات، والحفاظ على النظام الرأسمالي، والحفاظ على المجتمع بقوله إنّه يسعى إلى حمايته، وكيف استعرض مراحل حمايته المسيحيّين، وهذا ما لم تنجح به إيران لا في سوريا ولا في العراق ولا في اليمن، إنّما هو متوافر بقوّة في لبنان.

اعتاد اللبنانيون على اهتزازات أمنيّة متواترة مثلما تعوّدوا الإفقار المتزايد والعزلة ودخلوا في عالم منفصل عمّا كانوا عليه أو عن الذي كانوا فيه. عالمهم الجديد يتّصل بأحوال سوريا والعراق وبفضاء الإمبراطوريّة الإيرانية

من منافع حادثة الطيّونة لحزب الله وللآخرين، عودة اللبنانيين جميعاً إلى أحزابهم وزعمائهم، وهو ما يعني دفن كلّ المشاريع البديلة. ولكن لا يمكن إغفال وجود الكثير من نقاط الضعف لدى حزب الله، وأهمّها كلفة العزلة الاقتصادية الكبيرة جدّاً في الغربة عن العرب، بالإضافة إلى اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل، وهذه كلفة باهظة تتجلّى في عدم قدرة لبنان على العودة بلداً طبيعيّاً. أمّا العبء الأكبر على حزب الله فهو حالة النظام السوري والأمر الواقع القائم في سوريا الذي يتحوّل إلى مأزق كبير أو مستنقع استنزاف لا حلّ له في المستقبل المنظور. هذه الأعباء تجعل لبنان بلداً بحاجة ماسّة إلى إنعاش اصطناعي لا يمكن لحزب لله القيام به، والدليل على ذلك كميّات المحروقات الإيرانية التي نُقِلت إلى لبنان واعترف نصر الله بنفسه أنّها لن تكون قادرة على حلّ مشكلة وطنية بهذا الحجم، ووضعها في سياق صدقة عابرة في بلد ينهار وفي حالة جوع أو تعطّش دائم إلى مثل هذه الموارد.

أمّا كلفة اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل، المادّية والسياسية، فهي باهظة جدّاً، وستكون على حساب مشاريع الإنماء، خصوصاً في هذه العزلة الكبيرة التي يعيشها لبنان. ففي حرب تموز 2006، كان عاملان أساسيّان وراء الصمود:

– أوّلهما أنّ لبنان واللبنانيين دفعوا ثمن الحرب مقابل دفع الدول العربية التعويضات والتكاليف.

– وثانيهما أنّ الاقتصادا اللبنانيّ كان يوفّر عيشاً رفيهاً، ولا يمكن إغفال أنّ سوريا حينها كانت دولة مستتبّة.

أمّا الاتّفاق الإيراني الأميركي الذي سيكون مربحاً لإيران حتماً، فمن غير المضمون أن يشمل كلّ المكتسبات الإيرانية ومكتسبات الحزب في المنطقة، التي سيكون المدخل إلى الحفاظ عليها هو الانفتاح على العرب، وضمان أمن إسرائيل الذي سيكون بنداً جوهريّاً غير معلن في أيّ اتفاق بين طهران وواشنطن. أمّا العرب، وتحديداً السعوديّة، فحتّى لو أقدمت على تفاهم مع إيران يستحيل أن ينسحب هذا التفاهم على حزب الله.

إقرأ أيضاً: مَن أطلق الرصاصة الأولى في يوم الخميس الأسود؟

هناك عامل ضعف أساسيّ يستند إلى التجربة التاريخية اللبنانية، وهو أنّ الغلبة الطائفية لا يمكن لها أن تدوم طويلاً، انطلاقاً من تركيبة المجتمع اللبناني وأساس صياغة الكيان السياسي للبنان الذي يقوم على مفهوم التوازن. وقد أثبت كسر التوازن في بلد كلبنان فشله من خلال كلّ التجارب منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم. فبعد مرور 12 سنة على 7 أيّار، الذي هو عبارة عن حرب أهليّة مصغّرة، لم يستطع حزب الله تضميد هذا الجرح العميق بين السُنّة والشيعة. وعلى الرغم من كلّ المكابرة، فإنّ المجتمع الشيعيّ يعيش كابوس تراكم الكراهيات له من قبل الطوائف الأخرى. وبمعنى آخر، يقف حزب الله في الداخل اللبناني دائماً ليلاً ونهاراً على “إجر ونص” بسبب نزاعه مع باقي الطوائف. 

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…