على الرغم من كلّ الغبار الذي أُثير حول احتمال ضلوع الجيش في إيقاع قتلى في أحداث الطيّونة، قدّم الأمين العامّ لحزب الله السيد حسن نصرالله مقاربة “تشطب” أيّ احتمال لفتح مواجهة “سياسيّة” مع المؤسّسة العسكرية، ليس وقتها الآن.
لم يَفعَل نصرالله ذلك في محطّات سابقة، ولا سيّما في عام 2019 حين رَفَع الإصبع خلال إلقائه خطابه في الذكرى الثانية لـ”تحرير الجرود”. يومئذٍ، وأمام عدد من الضبّاط من ممثّلي الأجهزة الأمنيّة، حمّل الجيش والأجهزة بشكل مباشر مسؤوليّة التقصير الأمنيّ في المنطقة لناحية توقيف الخارجين على القانون، وقال: “ومَن ليس مستعدّاً أن يقدّم التضحيات فليعتذر ويقدّم استقالته”.
يحيط الجيش تحقيقاته في أحداث الطيّونة بسرّية تامّة. وحتى داخل المؤسسة العسكرية لامَ البعض وزير الدفاع على تسرّعه حين أكّد “عدم وجود كمين”، فيما التحقيقات التي يجريها الجيش دقيقة جدّاً ومتشعّبة ولم تنتهِ بعد
وتحدّث أيضاً عن “ضبّاط الأمن في مختلف مواقعهم الذين يحمون الزعران، على الرغم من رفع المسؤولين الغطاء عنهم”، متّهماً بعضهم بـ”التآمر”.
في الشكل والمضمون اختلفت مقاربة الحزب هذه المرّة على الرغم من حساسيّة أحداث الطيّونة وجهد أكثر من طرف لـ”تغذية” التجييش على خطّ اليرزة – الضاحية، وصولاً إلى تقصّد جهات القول بأنّ المسؤول عن تسريب شريط فيديو الكاميرا، الذي يُظهر توجيه أحد عناصر الجيش بندقيته باتّجاه متظاهرين، هو الحزب نفسه، وذلك بُعيد تصريحات وزير الدفاع موريس سليم عن أنّ “التدافع والاشتباك أدّيا إلى إطلاق النار بين الطرفين”.
لكنّ المعطيات تفيد بأنّ زاوية الكاميرا التي التقطت هذا المشهد هي من جهة طريق صيدا القديمة، حيث ينتشر العديد من المحالّ التجارية، وأنّ شريط الفيديو، الذي أربك الجيش بتوقيته المتزامن مع فتح تحقيق شامل في القضية، قد تمّ تسريبه من جانب حركة أمل تحديداً، المعنيّة الأولى قبل حزب الله بأحداث الطيّونة.
وقد أظهر الفيديو المُسرَّب حالة “هرب” في صفوف العسكر تؤكِّد وجود قنص كثيف باتّجاههم. وهنا تفيد معطيات لـ”أساس” أنّ “الطلقة الأولى أُطلِقت عند الساعة العاشرة و50 دقيقة من جهة بدارو – عين الرمّانة، فيما الفيديو المسرَّب حدثت وقائعه عند الواحدة تقريباً، أي بعد إصدار الجيش بيانه عن إطلاقه النار على أيّ شخص يحمل سلاحاً”.
وفي خطابه الأخير، أعاد نصرالله تصويب الإشكاليّات التي طُرِحت في شأن أحداث الطيّونة بعدما “سلّمنا رقابنا للجيش والأجهزة الأمنيّة” لتولّي أمن التظاهرة.
كما كان لافتاً للانتباه تبنّي نصرالله البيان الأوّل الذي صدر عن الجيش، والذي تحدّث عن “تعرّض المحتجّين لرشقات نارية”، قائلاً إنّه “البيان الصحيح”، وآخذاً بكلام وزير الداخلية الذي تحدّث عن “إطلاق نار على الرؤوس”، واستطراداً عدم تبنّي كلام وزير الدفاع.
وأعلن نصرالله أنّ الأجهزة الأمنيّة “أبلغتنا معطياتها بالإجماع بأنّ الشباب الثلاثة الذين كانوا على الأرض قُتِلوا بلا نقاش برصاص القوات اللبنانية”.
كان لافتاً للانتباه تبنّي نصرالله البيان الأوّل الذي صدر عن الجيش، والذي تحدّث عن “تعرّض المحتجّين لرشقات نارية”، قائلاً إنّه “البيان الصحيح”، وآخذاً بكلام وزير الداخلية الذي تحدّث عن “إطلاق نار على الرؤوس”، واستطراداً عدم تبنّي كلام وزير الدفاع
استفزاز من المتظاهرين
وفق المعلومات تقصّد نصرالله تظهير المعطيات الأولى، التي سمعها الحزب بدايةً من الجيش، عن مرور المتظاهرين في شارع فرعي في بدارو – فرن الشبّاك باتجاه العدلية، حيث عمد أنصار القوات إلى توجيه إشارات نابية إليهم ورشقهم بالحجارة بعد استفزاز أوّليّ قد يكون صدر عن المحتّجين أنفسهم (وهو ما لمّح إليه أيضاً نصرالله من احتمال حصول استفزاز من جانب المتظاهرين). ثمّ اندلعت مواجهة بين المجموعتين، وهنا سقطت الضحيّة الأولى، وهو الشاب حسين مشيك الذي أُصيب إصابة مباشرة قنصاً برأسه، ولم يسبق ذلك أيّ رشق ناري، ثمّ ارتفع عدد الضحايا إلى ثلاثة”.
وميّز نصرالله في خطابه بين “الجزء الأوّل الممتدّ إلى حين سقوط الشهداء والجرحى والبلبلة التي حدثت، والجزء الثاني الواقع بعد البلبلة عندما حملت الناس سلاحاً وبدأت بإطلاق النار والعالم مدهوشة، فيما الجيش اللبناني منتشر بكثافة، ومع ذلك استمرّ إطلاق نار على الناس. هنا يوجد التباسات، يجب أن يذكرها التحقيق ويُجيب عنها بشكل واضح وحاسم”.
عمليّاً، لم يُطلق نصرالله أحكاماً مسبقة: “فلننتظر نتائج التحقيق. ونريد محاسبة المسؤولين الذين قتلوا”.
أمّا بالنسبة إلى الفيديو الذي يُظهر أحد الجنود يطلق النار على محتجّين، فقد قال نصرالله إنّ “قيادة الجيش أصدرت بياناً يقول إنّ هذا الجندي هو رهن التحقيق، ويجب أن نعرف إذا تصرّف فردياً أو بأوامر، وفي الحالتين يجب أن يُحاسَب المسؤول عن قتل هؤلاء الشهداء أيّاً كان، كبيراً أو صغيراً، وهذه المسألة لا يوجد تسامح فيها على الإطلاق”.
تلا ذلك قيام نصرالله بمطالعة عن العلاقة مع مؤسّسة الجيش، وخلص إلى أنّها “الضمانة الوحيدة، وصدّقوني لسنا نحن الضمانة الوحيدة. هذا الجيش إذا فرط، البلد يذهب إلى الحرب الأهليّة وإلى التقسيم”.
وقال حرفيّاً: “يجب عدم إيجاد عداء وتحريض واستفزاز، وتصبح هناك مخاوف. فيعمد أحدهم مثلاً إلى استهداف حاجز جيش، أو رمي مفرقعات أو إطلاق نار. هذا الأمر سيّء وممنوع وغير جائز وحرام. وإذا الدولة والجيش والاستخبارات والقضاء لم يتحمّلوا مسؤوليّاتهم، عندها لكلّ حادث حديث”.
بلغ عدد الموقوفين حتى الآن 23 موقوفًا، والعدد مرشّح للارتفاع على ضوء الإفادات واعترافات الشهود أو المتورطين بالأحداث
لكن ماذا في الوقائع ربطاً بمواقف نصرالله الأخيرة؟
يحيط الجيش تحقيقاته في أحداث الطيّونة بسرّية تامّة. وحتى داخل المؤسسة العسكرية لامَ البعض وزير الدفاع على تسرّعه حين أكّد “عدم وجود كمين”، فيما التحقيقات التي يجريها الجيش دقيقة جدّاً ومتشعّبة ولم تنتهِ بعد.
وفيما أثيرت تساؤلات كثيرة عن مغزى صدور بيانين متناقضين عن الجيش، فإنّ المعطيات تؤكّد أنّ مكتب قائد الجيش وافق على الصيغتين، وهما تتكاملان ولا تتعارضان، وذلك ردّاً على مَن حاول الإيحاء بأنّ البيان الأوّل صاغته المخابرات، والثاني مكتب القائد جوزيف عون.
لكن بالتأكيد كان بإمكان الجيش تجنّب ظهوره كما لو أنّه يناقض نفسه وينسف بيانه الأوّل الذي تبنّاه نصرالله علناً، فيما البيان الثاني تحدّث عن “إشكال ثمّ تبادل لإطلاق نار”.
وقد استفسر الحزب عن الأمر، ووصلته تأكيدات أنّ البيانين متكاملان والتحقيقات مستمرّة. وعمليّاً، لم ينقطع التواصل أبداً على خطّ الجيش وأمل وحزب الله منذ ما قبل الإعداد للتحرّك، مروراً بيوم الخميس الأسود، ووصولاً إلى بعض التوضيحات التي طلبها الحزب في شأن الفيديو المسرَّب وكشف مسؤوليّة عناصر القوات في إيقاع قتلى بين المتظاهرين.
وفق المعلومات، لا يزال الجيش في إطار تحليل الكاميرات وأخذ الإفادات وتوقيف متورّطين وكشف ملابسات النهار الطويل. وقد تبيّن أنّ بعض الكاميرات معطّلة ولم يتمّ الاستفادة منها. وهناك كاميرات سلّمتها جهات حزبية وأمنيّة إلى الجيش، بعد الكشف على محتواها. وقد بلغ عدد الموقوفين حتى الآن 23 موقوفًا، والعدد مرشّح للارتفاع على ضوء الإفادات واعترافات الشهود أو المتورطين بالأحداث.
إقرأ أيضاً: انتهى زمن القمصان السود.. أو دخلنا سيّدة النجاة 2؟
وفي ما يتعلّق بالإجراءات الاستباقية التي اتّخذها الجيش عشيّة الحادثة حتى لحظة الاشتباك، وكيفيّة التعاطي مع ما بات موثّقاً عن جهوزيّة بعض عناصر القوات عشيّة التحرّك، فهي تبقى ضمن إطار التحقيقات السرّيّة الداخلية المرتبطة بالأمن العسكريّ. أمّا ملابسات إطلاق الرصاصة الأولى، ومسار المتظاهرين الذي أدّى إلى وقوع الاشتباك، والمسؤول عن إيقاع القتلى، فهي لا تزال رهن تحقيق تقول مصادر مطّلعة إنّه سيكون شفّافاً وسيكشف المسؤوليّات.