ذكرى 17 تشرين: الانهيار ثمن الثورة؟

مدة القراءة 6 د

يحلو لبعض القوى السياسيّة أن تربط بين بداية الانهيار الماليّ وبين توقيت اندلاع الاحتجاجات في الشارع في تشرين الأوّل 2019، تماماً كما فعل رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل في آخر خطاب له حين اعتبر أنّ “ثورة السفارات سرّعت انهيار الاقتصاد وسعر الصرف، وأوقفت كلّ مشاريع الدولة النافعة، وشلّت مؤسّسات الدولة، وحرّكت القضاء على حسب شعبويّتها”.

لطالما استفادت نظريّات من هذا النوع من تزامن انكشاف كتلة الخسائر وأزمة السيولة المصرفيّة، مع انفجار الثورة في الشارع، فصوَّرت انهيار المصارف والعملة وكأنّه ثمن من أثمان الثورة، أو كما يقول البعض ساخراً: “ثمن رفض ضريبة الـ6 دولارات على الواتساب”.

في مطلع تشرين الأوّل 2019، كان حجم السيولة المتوافرة بحوزة مصرف لبنان يقارب حدود 30.98 مليار دولار، وهو ما يقلّ عن ربع الالتزامات التي توجّبت على النظام المصرفي للمودعين بالعملة الصعبة في تلك الحقبة

فهل كان الانهيار فعلاً ثمن الثورة؟

جردة سريعة لأبرز المؤشّرات، التي تعكس حجم الانهيار، تكفي لتدلّ على مسألتين:

أوّلاً: ما جرى في 17 تشرين الأوّل لم يخلق أيّ خسائر أو أزمات سيولة جديدة في النظام الماليّ، كما يعتقد البعض، بل انكشفت من الناحية العمليّة خسائر وفجوات كبيرة تراكمت طوال تسع سنوات ما بين 2011 و2019.

ثانياً: كتلة الخسائر الكبرى لم تكُن تلك التي انكشفت بعد 17 تشرين الأوّل 2019 مباشرة، بل كانت تلك التي كبرت ككرة الثلج لاحقاً بعد 2019، طوال السنتين اللاحقتين. في مرحلة حكومة الرئيس حسّان دياب، ومن بعدها حقبة تصريف الأعمال والفراغ الحكومي، فأدّى حرق الوقت إلى تفاقم كلّ مؤشّرات الانهيار الماليّ والنقدي، وهذا تحديداً ما تُظهره الأرقام.

كتلة خسائر مصرف لبنان

في بدايات شهر تشرين الأوّل 2019، أي قبل أسابيع من اندلاع الاحتجاجات في الشارع، كان قد تراكم نحو 35 مليار دولار في ميزانيّة مصرف لبنان في بنديْ “الموجودات الأخرى” و”موجودات من عمليّات قطع”، وهما بندان لا يعكسان أيّ موجودات فعليّة، بل يُخفيان خسائر غير مصرّح عنها. تلك الخسائر كانت قد بدأت بالتراكم منذ سنوات، مع شحّ التحويلات من الخارج واستنزاف سيولة مصرف لبنان في الدفاع عن سعر صرف الليرة، فيما تسارعت وتيرة تراكمها بالتوازي مع قيام المصرف المركزي بـ”الهندسات الماليّة” سنة 2016.

كانت خسائر مصرف لبنان قد بدأت بالتراكم قبل سنوات من الثورة إذاً. لكن، طوال السنتين الماضيتين، أدّى حرق الوقت إلى تعاظم هذه الخسائر بشكل كبير، وهذا ما تُظهره أرقام مصرف لبنان نفسها. فميزانيّات المصرف تُظهر أنّ حجم هذه الخسائر المتراكمة وغير المعترف بها حتى الآن تجاوز حدود 68.6 مليار دولار في نهاية شهر آب 2021، أي أنّ كتلة الخسائر ارتفعت بنحو الضعف خلال السنتين الماضيتين.

 من الواضح أنّ السنتين الماضيتين كبّدتا الاقتصاد اللبناني كلفة باهظة يصعب تجاهلها، ويشهد على ذلك تفاقم جميع المؤشّرات التي تدلّ على حجم الانهيار الذي تعاني منه البلاد

سيولة مصرف لبنان

في مطلع تشرين الأوّل 2019، كان حجم السيولة المتوافرة بحوزة مصرف لبنان يقارب حدود 30.98 مليار دولار، وهو ما يقلّ عن ربع الالتزامات التي توجّبت على النظام المصرفي للمودعين بالعملة الصعبة في تلك الحقبة.

في ذلك الوقت، كان الفارق الشاسع ما بين الالتزامات المتوجّبة لمصلحة المودعين بالعملة الأجنبيّة وما تبقّى من هذه الأموال بحوزة المصارف ومصرف لبنان، أحد أبرز أسباب أزمة السيولة التي ضربت القطاع المصرفي. يُشار إلى أنّ هذه الفجوة تكوّنت نتيجة تبديد جزء وازن من أموال المودعين في الدفاع عن سعر صرف الليرة، طوال السنوات التي سبقت 2019.

في كلّ الحالات، وطوال السنتين اللاحقتين، اعتمدت البلاد على هذه الاحتياطات المتبقّية في مصرف لبنان لتمويل استيراد السلع الأساسيّة والموادّ الغذائيّة، في ما عُرِف لاحقاً بـ”دعم الاستيراد”. وقد استمرّ هذا النمط من العمليّات بغياب أيّ خطّة واضحة لتوحيد أسعار الصرف، أو تعويم سعر صرف الليرة بشكل مستقرّ ومضبوط. ولهذا السبب، بالتحديد، وخلال السنتين الماضيتين، بدّد مصرف لبنان أكثر من نصف الاحتياطات التي كانت موجودة بحوزته في تشرين الأول 2019، ليقتصر حجم هذه الاحتياطات اليوم على نحو 14.2 مليار دولار فقط.

سيولة المصارف

في تشرين الأوّل 2019، كانت سيولة المصارف اللبنانيّة المودعة في المصارف المراسلة في الخارج بالكاد تتجاوز حدود 8.43 مليارات دولار، بعدما تمّ استنزاف جزء منها لتمويل تحويلات بعض المودعين إلى خارج النظام المصرفي. وقد كان استنزاف سيولة المصارف في الخارج أحد أوجه الأزمة التي مرّ بها النظام المصرفي لاحقاً، والتي انعكست على شكل عجز في قدرته على تلبية طلبات السحب النقدي والتحويلات من قبل المودعين.

عمليّاً، وطوال السنتين الماضيتين، ومع استمرار الأزمة المصرفيّة، تراجعت سيولة النظام المصرفي اللبناني المودعة في الخارج لتبلغ حدود 5.14 مليارات دولار فقط في آب 2021. في المقابل، بات يترتّب على المصارف اللبنانيّة التزامات لمصلحة المصارف المراسلة نفسها في الخارج بحدود 5.28 مليارات دولار، ولذا يمكن القول إنّ المصارف اللبنانيّة هي في حالة عجز اليوم من ناحية موجوداتها والتزاماتها في المصارف الأجنبيّة المراسلة.

تدلّ كلّ هذه التطوّرات على أنّ مسار إعادة الرسملة الذي عمل عليه مصرف لبنان طوال الأشهر الماضية، والذي استهدف في جزء منه إعادة تعويم سيولة المصارف، لم ينجح في التخلّص من العجز الذي تعاني منه المصارف في حساباتها الخارجيّة.

إقرأ أيضاً: 17 تشرين: صناعة الاستبداد في “مزرعة الحيوان”

في الخلاصة، من الواضح أنّ السنتين الماضيتين كبّدتا الاقتصاد اللبناني كلفة باهظة يصعب تجاهلها، ويشهد على ذلك تفاقم جميع المؤشّرات التي تدلّ على حجم الانهيار الذي تعاني منه البلاد. ومن الواضح أيضاً، وبحسب كلّ هذه المؤشّرات، أنّ ما انفجر في تشرين الأوّل 2019 لم يكن أزمة ماليّة ناتجة عن تظاهرات في الشارع، بل انهيار مهّدت له تراكمات كبيرة ولفترة طويلة من الزمن. ولذلك لا يمكن النظر إلى الخطابات، التي تربط الثورة بما جرى في المشهد الماليّ، إلا بوصفها محاولة للتملّص من المسؤوليّة السياسيّة التي يُفترَض أن يتحمّلها كلّ مَن شارك في السلطة في فترتيْ ما قبل 17 تشرين الأوّل 2019 وما بعدها.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…