يصدف أنّ في العراق (أيضاً) مليارديراً سنّيّاً يرأس تيّاراً اسمه “عزم”، وأعطته الانتخابات الأخيرة ثاني أكبر كتلة سنّيّة. اسمه ليس نجيب ميقاتي بل خميس الخنجر.
تشابه اسميْ تيّاريْ الزعيمين محض صدفة على الأرجح، لكنّ تشابه المسار السياسي بين لبنان والعراق ليس كذلك.
في بغداد اليوم تكهّنات بسعي نوري المالكي، الزعيم القديم الجديد للقوى الموالية لإيران، إلى ضمّ تحالف “عزم” (15 نائباً) إلى ائتلاف جديد فضفاض لتجميع “كتلة كبرى” في مجلس النواب، ليستحوذ على رئاسة الوزراء، على نحو ما فعل في 2010.
قدّمت العشرية الإيرانية نموذجاً فاعلاً في العسكر والأمن والاغتيالات، لكنّها لم تقدّم أيّ نموذج في الاقتصاد والتنمية والإدارة الحكومية، اللهمّ إلا بواخر المازوت المهرّب خلسة إلى سوريا ولبنان
للتاريخ مفارقاته. فلنتذكّر كيف سقطت حكومة سعد الحريري عام 2010 ودخل نجيب ميقاتي على أنقاضها إلى السراي. كانت تلك حلقة من سلسلة أحداثٍ تتابعت بعد الانتخابات البرلمانية العراقية في ذلك العام. حينها فازت “القائمة العراقية” بزعامة إيّاد علّاوي بالكتلة الكبرى في البرلمان، برافعة سنّيّة حاسمة محلّيّاً، وبمناخ إقليمي مؤاتٍ في ظلّ تفاهم الـ”سين- سين” (السعودية وسوريا). تفاهم ظلّل قبل ذلك تشكيل حكومة “الوحدة الوطنية” برئاسة سعد الحريري بعد انتخابات 2009 في لبنان، وزيارته سوريا. لكنّ نتائج الانتخابات العراقية استنفرت إيران حينها، فسارع قاسم سليماني إلى توحيد الكتلتين الشيعيّتين الأخريَيْن، ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي والائتلاف الوطني العراقي بزعامة إبراهيم الجعفري المتحالف مع التيار الصدري، وألقت بكلّ ثقلها لإبقاء المالكي في رئاسة الوزراء.
في اللحظة الحاسمة، انقلب بشار الأسد على الـ”سين – سين”. زار المالكي دمشق بعدما كان يتّهمها بصريح اللسان بإرسال الانتحاريين إلى العراق، فتشكّلت حكومة اللون الواحد في بغداد، وتبعتها حكومة من اللون نفسه في لبنان، برئاسة ميقاتي. بدا سقوط حكومة الـ”سين – سين” في بيروت تحصيل حاصل.
دخل شمال المشرق العربي منذ ذلك الحين “العشريّة الإيرانية”.
بعد انتخابات 10 تشرين الأول 2021، يبدو العراق على مشارف شيء مختلف. التيار الصدري (سائرون) حصل وحده على 73 مقعداً، أي ما يقارب ضعف المقاعد الـ 37 التي حصل عليها المالكي، والأهمّ أنّ فصائل “الحشد الشعبي” الموالية لإيران تلقّت ضربة قاصمة. فائتلاف “الفتح”، الذي يضمّ منظمة بدر بزعامة هادي العامري، و”عصائب أهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي، انخفض عدد مقاعده من 48 إلى 14، وفشلت حركة “حقوق”، وهي الذراع السياسي لكتائب حزب الله، فشلاً ذريعاً في تحقيق أيّ اختراق في المشهد السياسي، إذ لم تحصل إلا على مقعد واحد في 36 دائرة. وهذا يعني أنّ مجموع مقاعد كتل الفصائل الولائية والأحزاب الموالية لإيران أقلّ من أن يتفوّق على الكتلة الصدرية، ما لم تتوسّع التحالفات لتشمل كتلاً عربيّة سنّيّة أو كرديّة أو حتى كلدانيّة.
إلا أنّ المختلف هذه المرّة أنّ الانتخابات جرت في غياب قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، ولا يبدو القائد البديل لفيلق القدس إسماعيل قاآني قادراً على لعب دور سلفه في جمع شتات الفصائل المتنافسة، وتوحيد البيت الشيعي، وضبط إيقاع لعبة التحالفات خارجه.
هل يمكن اعتبار النتائج تغييراً في المشهد السياسي العراقي؟ هي كذلك بلا شكّ، ليس فقط لأنّ زعيم التيار الصدري يسلك طريقاً مستقلّاً عن إيران، بل لأنّ التصويت العقابي لحلفاء إيران أتى بعد حراك شعبي عارم فرض تغييراً حكومياً وانتخابات مبكرة، ولأنّ الحراك التشريني حدث في قلب البيت الشيعي على تسعة مقاعد (حركة “امتداد”)، عدا الوجوه التشرينية الفائزة بمقاعد مستقلّة أو ضمن قوائم الأحزاب التقليدية.
وهي كذلك لأنّها تأتي بعد تجربة مختلفة في الحكم قدّمتها حكومة مصطفى الكاظمي، بانفتاحها على المحيط العربي، وتقديمها أجندة المصالح الاقتصادية على الخطاب الأيديولوجي.
في العراق، كما في سوريا ولبنان واليمن، خلّفت العشرية الإيرانية نسيجاً اجتماعياً ممزّقاً، ودولاً ينخرها الفساد والعجز عن توفير الخدمات الأساسية، وأبسطها الكهرباء، ويُذلّ مواطنوها للحصول على المحروقات والدواء والغاز المنزلي، ويبحث شبابها عن أيّ باب للهجرة
قيمة هذا التغيير أنّ مَن يقوده هم شيعة العراق، وهذا يعطي صورة عمّا يريده هؤلاء بعد 18 عاماً من سقوط صدام حسين ونظامه. إنّهم يريدون ما لم تقدّمه “العشرية الإيرانية”. تلك العشرية فرضت سطوتها العسكرية والأمنيّة، بإدارة سياسية وعسكرية مباشرة من قاسم سليماني. حَكَم السلاح لبنان تحت لافتة “المقاومة”، ثمّ اجترح شرعية جديدة باسم محاربة الإرهاب، فتح باسمها المعابر بين ساحات الهيمنة، الأنبار ونينوى وصلاح الدين في العراق، إلى حمص وأرياف حلب ودمشق في سوريا، إلى جرود عرسال وضواحي صيدا، وزواريب المدن التي تتحرّك فيها “سرايا المقاومة”.
هيمنت “العشرية الإيرانية” على القرار السياسي، وضربت الديموغرافيا “المزعجة” تحت شعار محاربة الإرهاب، من جرف الصخر ومثلها الكثير في العراق، إلى جوبر والقصير ومثلها الكثير في سوريا. لكنّها في النهاية سقطت في استحقاق الحكم.
في العراق، كما في سوريا ولبنان واليمن، خلّفت العشرية الإيرانية نسيجاً اجتماعياً ممزّقاً، ودولاً ينخرها الفساد والعجز عن توفير الخدمات الأساسية، وأبسطها الكهرباء، ويُذلّ مواطنوها للحصول على المحروقات والدواء والغاز المنزلي، ويبحث شبابها عن أيّ باب للهجرة.
قدّمت العشرية الإيرانية نموذجاً فاعلاً في العسكر والأمن والاغتيالات، لكنّها لم تقدّم أيّ نموذج في الاقتصاد والتنمية والإدارة الحكومية، اللهمّ إلا بواخر المازوت المهرّب خلسة إلى سوريا ولبنان.
ويصدف أن يتزامن هذا الفشل مع صعود النماذج التنموية الناجحة في المنطقة. فالسعودية أمضت سنة حافلة في رئاسة مجموعة العشرين العام الماضي، واكتسبت سمعة دولية هائلة لاقتصادها وسوقها الماليّة منذ إطلاق “رؤية 2030″، وخصوصاً بعد إطلاق العديد من المشاريع العملاقة مثل “نيوم” و”البحر الأحمر” و”القدية”، والطرح العام لشركة “أرامكو”. وفي الإمارات مركزان عالميّان للأعمال والطيران والسياحة، اختزل “إكسبو 2020” الكثير من شواهد إبهارهما. وفي مصر معدّلات نموّ من بين الأقوى في الأسواق الناشئة، بفضل الإصلاحات ومشاريع البنية التحتية.
إقرأ أيضاً: إيران: هل تعلن الحرب في القوقاز؟
في لبنان وهج أكبر للنموذج الإيراني الفاعل في العسكر والأمن، مستمدّ من وهج محاربة إسرائيل في ماضي العقود، وذاك وهج تقوم عليه رمزية وتقديس يقاوم غياب النموذج الاقتصادي والإداري. لكنّ تجارب العقد الماضي، على الأقلّ، تقول إنّ ما يبدأ في العراق يمتدّ إلى بيروت.