بعد الخطاب “اليائس” الذي ألقاه الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة، وصل إلى رام الله المبعوث الرسميّ السيد هادي عمرو، وفق تقدير أميركي أنّ التقاط الصور مع عباس هو أقصى ما يمكن أن يعدّل المزاج، ويُظهر أنّ خطاب عباس لم يكن صرخةً في واد.
فها هي أميركا، عرّابة التسوية الفلسطينية الإسرائيلية في زمن ازدهارها وانهيارها، ترسل مبعوثاً رسميّاً وكأنّها تعلن بشكل متكرّر أنّ إدارة بايدن وإن كانت ترى أنّ الوقت غير مناسب لإطلاق مبادرة سياسية، ولا حتى تجاوز خطّ الترتيبات الإسعافية الاقتصادية، إلا أنّها تُسند السلطة الواقفة على حافّة الإفلاس السياسي، وحتى الجماهيري.
الفلسطينيون يركضون وراء ما لا يستطيعون فعله، وهو تحريك المسار السياسي المتجمّد، ويتجاهلون الشيء الوحيد الذي يستطيعونه، وهو معالجة وضعهم الداخلي الذي هو أساس الصعود والهبوط في حال قضيّتهم
هذا أقصى ما يمكن لواشنطن أن تقدّمه، ولكي يشعر الفلسطينيون بوجود شيء ما ذي طابع سياسي يجري الحديث بنبرة منخفضة عن أنّ الإدارة طلبت من إسرائيل تقليص الاستيطان، وعدم القيام بإجراءات أحاديّة الجانب، كي لا تُفسِد إمكانية ولادة دولة فلسطينية يمكن أن تُقام على المدى البعيد.
ما تفعله الإدارة لم يُقنِع الجمهور الفلسطيني بجدوى السياسة الأميركية على أيّ صعيد، وما ظلّ عالقاً في أذهان الناس هو خطاب اليأس الذي فُسِّر سياسياً على أنّه تهديد بتحوّلٍ من الصعب إلى المستحيل، أي من صعوبة حلّ الدولتين إلى استحالة حلّ الدولة الواحدة.
وبينما جاء هادي عمرو إلى رام الله ليعيد أقواله المتكرّرة، رفعت مصر من مستوى جهدها من أجل معالجة الوضع في غزة، فاستضافت اجتماعاً للمكتب السياسي لحركة حماس بتشكيلته الجديدة، وهو ما أنعش التوقّعات بحتميّة إنجاز ملفّ التبادل وإعادة الإعمار وتخفيف الحصار. وعلى الرغم من عدم رؤية دخان أبيض يتصاعد من القاهرة ينبئ بنجاح في الملفّات الثلاثة أو واحد منها، إلا أنّ المشترك بين الطبقة السياسية في الضفة وغزة هو العودة إلى المرجعيّات الثابتة وبأسقفها المعروفة، أي بتعليق الآمال على الأميركيين بالنسبة إلى أهل التسوية، وعلى المصريين بالنسبة إلى أهل المقاومة، وفي كلتا الحالتين لا مردود سياسياً على صعيد القضية الفلسطينية يمكن أن يُعوَّل عليه.
الفلسطينيون، وأعني أهل الحلّ والعقد، يركضون وراء ما لا يستطيعون فعله، وهو تحريك المسار السياسي المتجمّد، ويتجاهلون الشيء الوحيد الذي يستطيعونه، وهو معالجة وضعهم الداخلي الذي هو أساس الصعود والهبوط في حال قضيّتهم. ومن الخطأ الفادح اعتبار أنّ الانقسام المتكرّس والمتعمّق هو القضية الوحيدة التي تحتاج إلى معالجة، إذ إنّها على أهمّيّتها فقد فرّخت عشرات القضايا الفرعيّة التي تزداد تعقيداً مع كلّ يوم يمرّ. فهناك الانتخابات العامّة التي جرى الهروب منها إلى الانتخابات المحلّيّة، مع أنّ العائق، الذي بُرِّر به منع العامّة من أن تُنجَز، هو العائق نفسه الذي يُفترض أن يعترض المحلّيّة.
إضافةً إلى الانتخابات، يبرز التراجع حدّ التلاشي لدور المؤسسات التي كانت في زمن المنفى أقوى بكثير منها في زمن الوطن. ويظهر أيضاً تراجع مكانة السلطة بعد تدهور حال المنظّمة، كما تُظهر الاستطلاعات المحايدة ويلمس العالم كلّه. وهناك ضعف القضاء المدني الذي حلّ محلّه في كثير من القضايا الكبرى القضاء العشائري، ناهيك عن القضية التي تتفاقم يوماً بعد يوم، وهي تردّي الوضع المالي للسلطة الذي يجعل ملايين الفلسطينيين يضعون أيديهم على قلوبهم كل آخر شهر خوفاً من أن لا يصل الراتب، أو أن يُقتطَع منه ما لا يحتمله الموظّف وأهله، فلا يعود الراتب كافياً لسدّ الحدّ الأدنى من حاجاتهم الحياتية.
كلّ هذه القضايا، وهي كلّ ما في الحياة، تُعالَج باللغة، وكأنّ العالم يسمع ولا يرى. ففي لغة الإعلام الساذج، كلّ شيء على ما يرام. فها هو هادي عمرو يزورنا، وقبله رئيس البنك الدولي، وبينهما موفدون، لكن على عاتقهم الشخصي، من معتدلي الحكومة الإسرائيلية. أمّا المجتمع المدني فهو في أفضل حالاته، والأداء الإداري بألف خير، والقضاء يعمل، وكورونا تُحارَب، فلِمَ القلق إذاً؟!
إقرأ أيضاً: ميركل: هكذا فشلت في فلسطين
هذا هو واقع الحال، ولكي لا يكون قدراً داهماً وحالةً ميؤوساً منها، فإنّ الشرط الوحيد هو تغيير الأولويّات. فبدل توجيه الجهد كلّه إلى ما يمكن أن يأتي أو لا يأتي من الخارج، ينبغي أن يتّجه كلّ الجهد إلى ما يُعمَل فلسطينياً في الداخل. ومن دون ذلك التغيير، ستظلّ الرهانات السياسية بوضعها الحالي مجرّد سرابٍ نراه ماء.
* كاتب وسياسيّ فلسطينيّ، وعضو اتّحاد الكتّاب والصحافيّين الفلسطينيّين.