نشرت مجلة “الدراسات الفلسطينية” عدداً خاصّاً عن الأسرى بعنوان “كلام الأسرى.. عيون الكلام”، وذلك تزامناً مع عملية الهروب الجماعي البطولية التي نفّذها ستة أسرى من سجن جلبوع شديد الحراسة في شمال إسرائيل، وقهروا من خلالها آلة السجن الإسرائيلية.
بعد افتتاحية رئيس التحرير الكاتب الياس خوري أمس الأوّل، وقصّة “زواج خلف القضبان” كتبها الأسير في سجن النقب سائد سلامة، نبدأ اليوم في نشر 4 حكايات لأربع أسيرات حُرّرن مؤخراً من سجن الدامون المخصّص للأسيرات، اتُّهمن بأنهن “مخربات” و”من دون ترباية”…
يعرض هذا التحقيق المستند إلى حواريّة أُجريت في رام الله في أواخر تموز، قصة أربع أسيرات حُرّرن مؤخراً من سجن الدامون المخصص للأسيرات في جبل الكرمل في حيفا، هن: ميس أبو غوش، وسماح جرادات، وشذى حسن، وإيلياء أبو حجلة. وقد سُجنّ، تباعاً، على خلفية نشاطهن الطلابي في جامعة بيرزيت، واتُّهمن، خلال التحقيق، بأنهن “مخربات” و”من دون ترباية”، وغير ذلك من ألفاظ نابية في محاولة لابتزازهن عن طريق سلخهنّ، نفسياً، عن حاضنتهن الاجتماعية خارج السجن.
نقدم هنا خلاصة للحوارية مع الأسيرات المحررات الأربع استناداً إلى تجربة الاعتقال الخاصة بكل منهن، بما فيها: الاعتقال، والتحقيق أو الاستجواب الذي خضعن لهما، وظروف المحاكمة، والنقل بين السجون بالـ “البوسطة” وغيرها. ثم نخصّص أربعة أبعاد لأهم قضايا الأسيرات، وهي: تجربة سجن “هشارون” (“معبار الشارون”)؛ القضايا الشاغلة في سجن الدامون، ومنها: وسائل تواصل الأسيرات مع أهاليهن؛ التعليم داخل السجن؛ وضعية الأسيرات الأمهات والقاصرات. ونختتم الحوارية بتشخيص الأسيرات العام للوضع السياسي في فلسطين بعد “هبّة القدس” و”سيف القدس”.
تجربة ميس في السجن، مثلما تصفها، انتهت بمرارتها وقسوتها، إلّا إن ظروف التحقيق التي مرت بها وعايشتها انطبعت في الجسد والذاكرة
ميس أبو غوش: “احتضنتُ الفأر، وخفت أن تخنقني العصفورة!”
اعتُقلت الأسيرة المحررة ميس أبو غوش (24 عاماً) من منزلها في مخيم قلندية، بين القدس ورام الله، في فجر 5 أيلول / سبتمبر 2019، وهي طالبة إعلام في جامعة بيرزيت في عامها الدراسي الأخير، ومن عائلة لاجئة من قرية عمواس المهجرة في سنة 1948. خضعت ميس للتفتيش العاري في المنزل من طرف المجندات، وصودر العديد من الأجهزة الإلكترونية الخاصة بها وبالعائلة. وفور الاعتقال، تم تحويلها إلى حاجز قلندية للتفتيش مرة أُخرى والاستجواب، وقد وصفته ميس بأنه “أسوأ من مركز تحقيق المسكوبية”، إذ هُددت بالاغتصاب والضرب والسجن لفترات طويلة، كما جرت مضايقتها من طرف الجنود والمجندات بالسباب والشتائم والتعليقات الساخرة.
أمضت ميس 33 يوماً بين غرف التحقيق والزنزانات الباهتة والضيقة والمعزولة في المسكوبية، ومعتقلَي الرملة وعسقلان حيث تعرضت للتعذيب الجسدي والنفسي الذي اشتمل على ثلاثة أيام من التحقيق العسكري القاسي خضعت فيها لـ “شبح الموزة” والقرفصاء والشبح على الطاولة. وتذكر أن المحققات كنّ يشغّلن الأغاني ويرقصن في أثناء تعذيبها وشبحها، ويتوعدنها بالضرب الشديد. بعد ذلك، نُقلت ميس إلى سجن الدامون حيث بقيت حتى انتهاء محكوميتها التي بلغت 15 شهراً، على خلفية نشاطها الطلابي في جامعة بيرزيت.
تجربة ميس في السجن، مثلما تصفها، انتهت بمرارتها وقسوتها، إلّا إن ظروف التحقيق التي مرت بها وعايشتها انطبعت في الجسد والذاكرة. ولعل أبرز الأساليب التي استخدمها الصهيونيون على ميس هو الصدمة النفسية التي سعوا من خلالها لإضعافها جسدياً ونفسياً، كخطوة أولى قبل بدء التحقيق معها. كما جرى استخدام العائلة والأصدقاء كورقة ضغط عليها، وخصوصاً زملاءها وأصدقاءها المعتقلين الذين جعلها المحققون تستمع إلى صراخهم وأصواتهم في أثناء التعذيب. يضاف إلى هذا التهديد المعنوي والوجودي بوضعها في زنزانة قريبة من زنزانات السجناء والسجينات الجنائيين، الأمر الذي جعلها هي ورفيقاتها عرضة لشتائم وتهديد من طرفهم. وتضيف ميس أنه جرى إدخال “عصفورة” (جاسوسة متنكرة) إلى زنزانتها، تحت ادعاء أنها أسيرة معتقلة على خلفية حيازة سلاح.
الحواس في غرف التحقيق مهددة على الدوام، فمثلما تخبر ميس، فإنها كانت تستمع إلى تعذيب أسرى آخرين، لكنها لم تكن لتميز هل هذه أصوات حقيقية أم مسجلة. وتضيف أنه كان يتم عرض “مسرحيات ملفقة” أمامها، كحادثة ضرب لأسرى افتعلوا مشكلات أمام زنزانتها في أثناء التحقيق معها، واستدعاء وحدة القمع “نحشون” لقمعهم وضربهم.
أمّا الزنزانة التي وُضعت فيها ميس خلال جولات التحقيق الطويلة، فتصفها بأنها صفراء وضيقة لا تتسع إلّا لفرشة واحدة، كما أن وضع الحمامات كان مأسوياً، فهي في بعض الزنزانات بلا باب، ومن دون ماء أو مناشف أو أي حاجات أُخرى تحتاج إليها الأسيرة، فضلاً عن الرائحة النتنة المنبعثة منها، والقاذورات التي تملأ الزنزانات، وهذا كله مترافق مع عدم استجابة حراس السجن لتنظيفها أو المساعدة في التخلص من الأوساخ أو منع فيضان مجاري السجن في الزنزانات ومكان النوم، إلى حدّ أن ميس وجدت نفسها مرة تحتضن فأراً كبير الحجم دخل إلى زنزانتها، واستمر في إقلاق نومها بالاقتراب منها. وقد ماطل السجان في الاستجابة لطلبات ميس بالانتقال إلى زنزانة أُخرى أو محاولة إخراج الفأر، الأمر الذي جعلها تشعر بالخوف من أن ينقل إليها عدوى أو حساسية ما.
سماح جرادات: “أخذني وقت لَعْرِفْت إنو كلمة “بو” بالعبري مش بس لمناداة الكلب!”
سماح جرادات (24 عاماً)، خريجة من جامعة بيرزيت، تقيم في رام الله، وتتحدر من عائلة من بلدية سعير في مدينة الخليل، وقد اعتُقلت من بيتها في مدينة البيرة بتاريخ 7 أيلول / سبتمبر 2019، على خلفية عملها ونشاطها الطلابي في جامعة بيرزيت، وحُكمت لـ 9 أشهر. خضعت سماح للاستجواب الأولي في منزلها، ومورست عليها الضغوط النفسية، إذ جرى استغلال مرض والدها في ذلك، فضلاً عن التفتيش الدقيق لها، ثم زُجّت في الجيب العسكري، ورُميت فيه من دون مراعاة لإجلاسها بشكل عادي. نُقلت سماح إلى معسكر “بسيغوت” (المقام على أراضي مدينة البيرة)، ثم إلى مركز تحقيق “عوفر” (في بيتونيا)، وبعد ذلك إلى “المسكوبية” في القدس المحتلة حيث احتُجزت في التحقيق 22 يوماً من دون السماح لها بمقابلة المحامي الخاص بها.
تروي شذى أن من أصعب المحطات في تجربة السجن هي البوسطة التي وصفتها بأنها “قبر متنقل” ضيّق على شكل قفص حديدي يُحبس فيه الأسرى لساعات طويلة في طريق الذهاب إلى المحكمة وفي الإياب منها
كان الجنود والمحققون يتعاملون مع سماح خلال التحقيق بالصراخ عليها بصوت عالٍ وبشكل مستمر، إذ يُعدّ الصراخ أحد الأساليب النفسية الممارسة ضدها، حتى عندما كان الأمر لا يتطلب صراخاً. وعلاوة على تهديدها بهدم منزل عائلتها، وبأنها ستمضي مدة طويلة في السجن، والضغط عليها عن طريق استغلال زملائها من جامعة بيرزيت ممّن جرى اعتقالهم أيضاً، فقد أسمعها المحققون صراخ زملائها وهم يخضعون للتحقيق، وجعلوها ترى ذلك عبر شبابيك غرف التحقيق، وهددوها بأن تخضع للتحقيق العسكري. وتضيف سماح أن التحقيق معها كان قاسياً، كما أن المحققات كنّ يقمن بالرقص والغناء أحياناً، والصراخ عليها أحياناً أُخرى. كانوا دائماً يصرخون عليها “بو، بو، بو، بو…..”، وتقول سماح: “أخذني وقت لَعْرِفْت إنو كلمة (بو) بالعبري مش بس لمناداة الكلب.”
وأشارت سماح إلى أن المحقق استغل كونها أنثى للضغط عليها في التحقيق، فحاول مثلاً مساومتها على الملابس النظيفة التي أرسلها إليها الأهل، وهددها بمنعها من الحصول عليها إلّا إذا قدّمت معلومات أو أدلت باعترافات. كما ضُغط عليها عبر استغلال وضعها الاجتماعي كفتاة تنتمي إلى عائلة من مدينة سعير في الخليل، ومن خلال محاولة المحقق تضليلها بادعاء أن عائلتها في سعير ستتبرأ منها، وسترفضها لأنها “مش مربّاية”، في إشارة إلى نشاطها الطلابي في الجامعة، واتهامها بتهم محورها الخروج على القيم الاجتماعية الفلسطينية.
وعن أوضاع العزل المادية في سجن “المسكوبية”، تقول سماح إن هذه الأوضاع كانت تعمل بشكل متكامل مع تكثيف الضغوط النفسية والجسدية عليها، كعزلها أحياناً في زنزانة قريبة من غرف التحقيق، بحيث كانت تسمع بسهولة أصوات ضرب الشباب، وفي أحيان أُخرى كان يتم عزلها في زنزانة بعيدة معزولة، ولم يكن أحد من السجانين يستجيب لندائها وصراخها.
أمّا فيما يتعلق بالعيادة الطبية داخل “المسكوبية” وسجن الدامون، فتتندّر سماح على المعاملة السيئة التي تعرضت لها، كردّ الممرض عليها حين كانت تشكو من ألم ما، بأن تشرب الماء، وكيف أنه في أحسن الأحوال، ومهما يكن العارض الصحي، فإنها كانت تُعطى حبة دواء صفراء (غير معروف نوعها وربما كانت مسكّناً). وفي سجن الدامون كان يتم تأخير مواعيد الفحص الطبي للأسيرات في إهمال كبير ومتعمد لوضعهن الصحي.
شذى حسن: “35 تهمة، وحكم إداري واحد!”
اعتُقلت شذى (23 عاماً) من بيتها في حيّ عين مصباح في رام الله، في فجر 12 كانون الأول / ديسمبر 2019، وحُكمت حكماً إدارياً لـ 5 أشهر و10 أيام، وكانت عند اعتقالها طالبة في جامعة بيرزيت، تتخصص بعلم النفس كتخصص أساسي، وبعلم الاجتماع كتخصص فرعي (تخرجت في الفصل الثاني من العام الدراسي 2020 / 2021). وكانت شذى تسكن في مدينة رام الله، وتتحدر عائلتها من قرية دير السودان (رام الله)، وقد عملت منسقة لأعمال مؤتمر مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت. ومثلما تسرد شذى، فإن أصعب لحظات الاعتقال هي الساعات الأولى بجميع تفصيلاتها، بدءاً من المفاجأة بأن الاعتقال لها وليس لأحد أفراد أسرتها كما جرت العادة، وهذه الصدمة الأولى، في رأيها، تترك أثرها على الأسيرة. وطبعاً، هناك المعاملة السيئة من طرف المجندات والجنود بما يختصر أعظم الانتهاكات لحرية الإنسان، من تقييد المعصمَين، ووضع العصبة على العينين، والزجّ بالأسيرة في الجيب الحديدي والذهاب إلى المجهول.
في حديثها عن التجربة، تروي شذى أن من أصعب المحطات في تجربة السجن هي البوسطة التي وصفتها بأنها “قبر متنقل” ضيّق على شكل قفص حديدي يُحبس فيه الأسرى لساعات طويلة في طريق الذهاب إلى المحكمة وفي الإياب منها، وأنه قفص بارد جداً في الشتاء لطبيعته الحديدية ولظروف عزل الأسرى فيه… ومع أن زيارتها في البوسطة لم تكن رحلة، إلّا إن شذى تعاملت معها كوسيلة للتجوال البصري في الطبيعة الخلابة لأعالي الجليل، متناسية ولو لوهلة بسيطة، وجود السجن والسجان.
إيلياء أبو حجلة: “هذا أبوي وهو صغير، هذا أبوي وهو كبير!”
إيلياء أبو حجلة (21 عاماً)، طالبة في جامعة بيرزيت، وتسكن مدينة رام الله، ومن عائلة تتحدر من قرية دير إستيا، جنوبي غربي نابلس، اعتُقلت من منزلها في حيّ الطيرة، في فجر 1 تموز / يوليو 2020، بعد أن حضرت قوات كبيرة من الجيش الصهيوني وعلى رأسهم “كابتن” منطقة الطيرة وعين قينيا، و”كابتن” جامعة بيرزيت، وقد جرى اعتقالها بُعيد اعتقال زميلتها حنين نصار. ومنذ اللحظات الأولى للاعتقال، تسرد إيلياء أن الضابط المسؤول عن ملف جامعة بيرزيت أخبرها أن اعتقالها جاء على خلفية نشاطها الطلابي في الجامعة، وقد ترافق ذلك مع تخويفه إياها بأنها ستمضي في السجن أعواماً طويلة بعيدة عن عائلتها عامة، ووالدتها خاصة، مستغلاً الظرف الإنساني لإيلياء بوفاة والدها. أُفرج عن إيلياء في 10 أيار / مايو 2021 بعد أن أمضت 11 شهراً في سجن الدامون، منها 14 يوماً في سجن “هشارون”.
إقرأ أيضاً: كلام الأسرى الفلسطينيين (2): زواج.. خلف القضبان
ولعل من اللحظات الساخرة التي أشارت إليها إيلياء، أنه خلال مداهمة منزلها، سأل ضابط الاحتلال عن الصور التي تعلقها إيلياء على حائط غرفتها، وهي صور لشهداء ومناضلين وغيرهم… فحين سألها الضابط عن صورة الشهيد نديم نوّارة، في محاولة لابتزازها واستخدام ذلك ضدها في التحقيق، أجابت: “هذا أبوي وهو صغير!”، وعندما سألها عن صورة الحكيم جورج حبش، أجابت: “هذا أبوي وهو كبير!”. كما تصف إيلياء، ومن دون أن تخفي غبطتها، هلع الجنود وهستيريتهم في الرد بإطلاق النار وقنابل الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت على الفتية والشباب الذين أمطروا مركبات الاحتلال، بما فيها الجيب الذي كانت فيه، بالحجارة… مع أنها لم تكن متفائلة بأن الشباب سيقومون بتحريرها قبل الوصول إلى مركز التحقيق!
*مرشحة دكتوراه في برنامج العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت، فلسطين.