بعد ثلاثة عشر شهراً من الانهيار الوطني في كل القطاعات، وغياب الحكومة أو السلطة التنفيذية أو الإجرائية، تشكّلت أخيراً الحكومة العتيدة، وقد تبيّن بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الأمور ما عادت كالسابق. فعلى مدى تاريخ لبنان الحديث كان الجميع يبحث عن العامل الخارجي في اختيار رئيس الجمهورية. أمّا الآن فرئيس الحكومة، بل وتشكيلتها الداخلية، تتحدّد في الخارج. فالإيرانيون هم الذين اختاروا الجنرال عون لرئاسة الجمهورية عام 2016، وهو الذي كان حسن نصر الله قد رشّحه للمنصب منذ عام 2006. في حين انصرف سمير جعجع وسعد الحريري إلى التصارع يومذاك على مَن هو صاحب الفضل الأوّل منهما في ذلك الاختيار العظيم!
أمّا في الحكومة التي أُعلنت قبل أربعة أيام فإنّ الفرنسيين هم الذين سمَّوا رئيسها، ووافق الإيرانيون وحزبهم في لبنان بسبب ماضي ميقاتي معهم في حكومة اللون الواحد عام 2011، والمكاسب التي تعتقد إيران أنّها حقّقتها. أمّا الأنصبة بداخلها، بغضّ النظر عن طوائف الوزراء، فقد توزّعت بين الخارج والداخل، فحتى النظام السوري له وزراء فيها، إضافةً إلى الفرنسي والأميركي، وحتى الحزب القومي السوري باعتباره جهةً دوليةً مهمّة (!)، أمّا جبران باسيل فهو موزَّع في جبروته بين القارات الخمس، ولذلك كثر عدد الموظّفين باسمه في الحكومة العتيدة.
تحرّكات الشارع اللبناني عام 2019 دفعت حزب الله إلى التفكير مثلما فكّر عام 2008 بتغيير وجهة لبنان وهويّته قبل أن يتعاظم التحدّي
السياسيون اللبنانيون، وهم في ذروة انهيارهم وتبعيّتهم، يحرصون، حفظ المولى هيبتهم السامية والسيادية، على الشكل. ولذلك ظلّ الجنرال الرئيس شهوراً طويلةً يجادل في الأثلاث وفي الأسماء، وينسب ذلك إلى تفاسير “الجرصة” للدستور باعتبار الرئيس شريكاً كاملاً في العمليّة. أمّا السُنّة، ومنهم الرؤساء الأربعة وبقية الشخصيات المستقلّة والوجهاء، فقد انهمكوا في النواح على دور السُنّة وحصّتهم. ثمّ استطردوا وكتبوا واستكتبوا خبراء دستوريين لإثبات حقّ الرئيس المكلّف من مجلس النواب حصراً في التشكيل، وفي عدم شرعيّة الثلث المعطِّل وحصّة رئيس الجمهورية في الحكومة. ويبلغ من تقديس الشكل الصراعي وتقديره (الدستوري والديموقراطي بالطبع!) اعتبار الباسيل أنّ تشكيل الحكومة كما جرى أثبت صحّة قراءته للدستور الذي كان دائماً بالطبع شديد الاحترام له. أمّا المشاركون بحماسة في دعوى صناعة الشكل، فهم رؤساء الحكومة السابقون الذين رشّحوا الرئيس نجيب ميقاتي في بيان شعري عرمرميّ أنشده الرئيس فؤاد السنيورة من دارة سعد الحريري قبل شهرٍ ونصف.
هكذا أدَّى كلّ فريقٍ دوره الذي أُوكِل إليه: حسن نصر الله المعهود إليه بالتعطيل إلى أن تقبض إيران الثمن المُراد من الدوليين. والجنرال عون وصهره اللذان انصرفا بحماسة محمومة في الوقت الضائع إلى التدقيق، كما زعما، في حقوق المسيحيين، بدءاً من صلاحيّات الرئيس إلى كُتّاب العدل، ومأموري الأحراش، ومسيحيّة مرفأ بيروت المنفجر، ومنافسة القوات اللبنانية في الحرص على حقوق المسيحيين، واتّهام ضحايا محرقة “التليل” في عكار بالتشدّد والخروج على الدولة.
سياسة الثلث المعطِّل بدأها حسن نصر الله بعد اتفاق الدوحة عام 2008 لأنّه أراد تعطيل الحكومة أو إسقاطها إذا لم تعجبه قراراتها، باعتبار أنّ الثلثين الآخرين كان مشكوكاً في ولائهم. وورث هذه السياسة منه وعنه الجنرال (وصهره) حتّى بعدما صار رئيساً للجمهورية، ليُثبت أنّه لا يزال ضدّ دستور الطائف، ولن يهدأ له بال حتى يسقط الدستور ومعه النظام، وهو الأمر الذي بدأ عام 2019 مع ثورة 17 تشرين.
أمّا اليوم، بل ومنذ انتخابات عام 2018، فما عاد أحدٌ بحاجةٍ إلى الثلث المعطِّل إلا على سبيل المماحكة وإظهار الاقتدار، في حين صار حسن نصر الله هو صاحب الولاية الأوحد: ولاية الملاّ المسلَّح. وصار كلّ الآخرين موظّفين يصرفهم حين يشاء.
حزب الله وتغيير النظام
أوّل مَن حاول تغيير النظام، وتجاوُز الدستور: حزب السلاح، وإن قدَّم ظاهراً لحلبة الصراع الجنرال حامل الأوهام لتولّي هذه المهمّة منذ اتّفاق مار مخايل عام 2006. وقد استمرّت اندفاعات نصر الله بهذا الاتجاه منذ احتلال بيروت عام 2008: عبر التنكّر لنتائج انتخابات عام 2009، وإلى إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2011، وإلى تجاهل اتّفاق النأي بالنفس وإرسال آلاف المقاتلين إلى سورية لمساعدة نظام بشّار الأسد، وإلى شنّ الحرب على علاقات لبنان العربية وشنّ الحرب على العرب من ضاحية بيروت الجنوبية ومن سورية ومن اليمن، وإلى تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية أو يُنتخب حليفه الجنرال للرئاسة، وهو الذي حصل، ثمّ الفوز في انتخابات عام 2018 وصيرورة النظام كلّه تابعاً له بدون منازع…إلى أن نشبت تحرّكات الشارع في 17 تشرين الأوّل 2019 التي شكّلت تحدّياً له للمرّة الأولى منذ احتلال بيروت عام 2008.
تحرّكات الشارع اللبناني عام 2019 دفعت حزب الله إلى التفكير مثلما فكّر عام 2008 بتغيير وجهة لبنان وهويّته قبل أن يتعاظم التحدّي. لقد كان صوت جبران باسيل من الارتفاع، وتصرّفات الجنرال وتصرّفات الصهر من الإثارة والعشوائيّة، بحيث لم يتنبّه كثيرون إلى أنّ هذا التأزيم في النظام السياسي الذي اصطنعه هذا الفريق، إنّما يسهِّل على الملّا المسلَّح القيام بانقلابه الثاني أو الثالث. لقد صارت لديه مؤسسات مستقلّة في المال والأعمال والسلاح والتجارة الداخلية والخارجية من خلال الاستيلاء على المرفأ والمطار، والمشاركة في التجارات غير المشروعة في ثلاث قارات أو أربع. وما عاد الجيش الوطني تحدّياً له. حتّى إنّه استطاع منعه من المشاركة فيما صار يُعرف بحرب الجرود، لكي ينفرد بمكافحة الإرهاب، مثلما انفرد بمقاتلة إسرائيل. وبلغ من فساد المتحالفين معه وأتباعه في النظام المالي والاقتصادي والإداري أن دخلت البلاد في أزمة تاريخيّة كرّهت النظام اللبناني كلّه إلى الناس. لكنّ الفئات الوسطى ثارت أخيراً. ثارت بالطبع ضدّ الفساد بعدما أقفلت المصارف أبوابها على أموال المودعين الأوساط والصغار، وقد هرّب كبار السياسيين ورجال الأعمال وأصحاب المصارف أموالهم إلى الخارج. نصر الله أحسّ بالخطر، ولذلك كان تصدّي محازبيه للمتظاهرين بصرخة: شيعة شيعة.
كيف أراد نصر الله تغيير النظام هذه المرّة؟
ستحاول الحكومة التماس المساعدات، لكنّها لن تستطيع التعرّض للاقتصاد الموازي. وقد تنجح في بعض ذلك
ليس بالسلاح كما في عام 2008، بل بالقضاء على الرأسمالية. لقد أمر رئيس وزرائه (السابق) الذكي، حسّان دياب، بعدم دفع فوائد الدين، وبتسليط الغوغاء لتخريب المصارف والتعسكر أمام البنك المركزي، والكلام عن الاقتصاد الشرقي. لا بدّ لهذا الاقتصاد الإجراميّ العملاق من الخروج على النظام المالي العالمي، وإثبات فشل الدولة القائمة من كلّ الوجوه، ونجاح اقتصاده هو الذي لا يضاهيه في النجاح غير الاقتصاديْن الإيراني والسوري.
وفي حين قال إنّه يريد كسْر الدولار، وقطع العلائق به، تبيّن أنّه لم تبقَ كتلة نقدية دولارية معتبرة إلّا في خزائنه وخزائن صرّافيه. قال إنّه لا بدّ من قطع العلائق مع المؤسسات المالية الدولية، وعدم التوجّه إليها للمساعدة. وحين تبيّن عجز حكومته عن التصرّف بعد تفجير المرفأ دفعها إلى الاستقالة، وعَهِد إلى الجنرال المتطوّع في كلّ مصيبة إخلاء منصب رئيس الحكومة حتى يسقط النظام علناً أمام الشعب المتّجه إلى جهنّم، كما قال الجنرال الرئيس ذات مرّة.
.. وتدخّل الفرنسيون، وكانوا هم طليعة الأوروبيين الذين قبلوا الاعتراف بالاحتلال الإيراني باعتباره قوّة أمرٍ واقع. وكما في كلّ مرّةٍ وحال، فإنّ الإيرانيين يسعون إلى اعترافٍ أميركي. وحزب الله الذي صنعه الإيرانيون ورعوه حتى صار قوّتهم الضاربة في المنطقة العربية، يضغطون من خلاله، كما يضغطون بوسائلهم الأخرى. أَوَلم يشكروه حتى عند اتّفاقهم مع الأميركيين في الملف النووي عام 2015 باعتباره مسهماً في ذاك الإنجاز؟
لكنّ الأميركيين لم يقبلوا هذه المرّة التدخّل لإنقاذ “النظام الرأسمالي” الذي يرعونه عالميّاً. وذلك إمّا لاستخفافهم بضياع لبنان كما ضاعت سورية والعراق، وإمّا لانسحابيّتهم البادية في كلّ تصرّفاتهم من منطقة الشرق الأوسط. فحتّى العودة إلى الاتّفاق النووي لا تستحقّ الاستماتة، وإلاّ فإنّ ضياع أفغانستان أفظع من امتلاك إيران سلاحاً نوويّاً تمتلكه حليفتهم إسرائيل منذ سبعين عاماً. الأوروبيون مهمومون اليوم أكثر ومعنيّون بالخطر النووي، والصواريخ الباليستية، وحشود المهاجرين إلى القارة العجوز بالملايين.
على كلّ حال حدث أمران في الوقت نفسه: التدخّل الفرنسي، وعجز نصر الله عن استبدال النظام اللبناني. وحدث الأمران خلال عامٍ واحد. عون مهتمّ بأمور متعدّدة: الصلاحيّات، وعزل حاكم المصرف المركزي، ومأموري الأحراش، ومستقبل صهره. وحسن نصر الله حاول تدارك الوضع بالقرض الحسن، وبالسوبرماركات الرخيصة وبالأدوية الإيرانية، وبالاستمرار في دفع مرتّبات جماعته بالدولار، وبالتهريب إلى سورية، وببواخر المازوت. لكنّ اللبنانيين، ومن بينهم البيئة الشيعية، جاعوا وعطشوا إلى المحروقات وإلى الدواء والغذاء. وحزب الله وحده في الواجهة، وليس جبران باسيل. فحتى الرئيس بري حنّ إلى النظام القديم وعاد للتذكير بالطائف. وهكذا وما دام العلاج صار ضرورياً حتى لإنقاذ “سمعة” احتلال الحزب المسلَّح للدولة، فلا بأس بالنظر في السماح للفرنسيين الظرفاء موقّتاً برعاية بلاد الأرز بإشراف المسلّحين، وتستفيد من ذلك إيران في إظهار سيطرتها على قرار لبنان، وفي قبول دخول الغاز والكهرباء إليه من مصر والأردن عبر سورية الشقيقة، وبغضّ نظرٍ من الأميركيين يمكن أن يتطوّر، فمَن يدري؟
إذن وسط الارتباك والعجز يبدو في الأفق “انتصارٌ” وإنجازٌ للحزب المسلَّح بالسماح للآخرين، الفرنسيين والعرب هذه المرّة، بمساعدة إحدى العواصم العربية الأربع التي قال الإيرانيون منذ سنوات إنّهم يسيطرون عليها.
ولنعُد بعد هذا التجوال الواسع إلى الحكومة الجديدة. ما دامت البلاد تحت الاحتلال، فالوزراء حزبيّاتهم غير مهمّة. وربّما يكون بعضهم اختصاصيين، وبعضهم أولاد حلال مثل وزير التربية، وبعضهم ناجحاً مثل وزير الصحّة، وبعضهم جميل المنظر دون المخبر مثل وزير الاقتصاد، وبعضٌ خامسٌ سخيفاً مثل وزير الشؤون الاجتماعية، وبعضٌ سادسٌ ثقيل الدم كبير الدعوى مثل وزير الإعلام، وبعضٌ سابعٌ يقول إنّه يمثّل طائفته التي تنكر انتماءه إليها. فكلّ ذلك غير مهمّ. لماذا؟ لأنّ هؤلاء ما جيء بهم لأنّهم اختصاصيون، كما كان يقول سعد الحريري، ولا الحكومة التي أُدخلوا إليها هي “تكنوسياسية”، كما ردَّد رئيسها من قبل. إنّما السؤال الأهمّ: ما دامت أطراف التشكيل الخارجية والداخلية هي إيّاها، كما يقول الكسائي النحوي، فلماذا انتظرنا ثلاثة عشر شهراً؟ وأنت يا سيّد حسن الذي عارضت التوجّه إلى صندوق النقد الدولي، ماذا ستفعل الآن، وماذا ستقول للمواطنين الذين جرّعتُهم السُمَّ أنت وربيبك الباسل على مدى شهور طويلة؟ هل تتقزّم ثورتك التحريرية إلى حدود استبدال اليورو بالدولار في اقتصادك العملاق؟ وأنتم أيّها الشبان المدنيون الأشاوس الذين راهنتم على ماكرون والفرنسيين، ماذا ستقولون وقد شكّل رئيسكم الفولتيريّ حكومةً مع الملّا المسلَّح؟!
البلاد تحت الاحتلال الإيراني. وكذلك حكومتها. وسنستمرّ في خسارة عيشنا وأسلوب حياتنا، لأنّنا خسرنا استقلالنا وحرّية قرارنا.
إقرأ أيضاً: نجيب ميقاتي ضاحكاً على الجميع
ما هي التوقّعات في بلدٍ تحت الاحتلال؟
ستحاول الحكومة التماس المساعدات، لكنّها لن تستطيع التعرّض للاقتصاد الموازي. وقد تنجح في بعض ذلك. لكنّ الأمور كما يقول المثل المصري: “جيتك يا عبد المعين تعيني، لقيتك يا عبد المعين عايز تتعان”.
بلدنا تحت الاحتلال الإيراني. والتصدّي للهلاك والإهلاك ضروريّ بالطبع، لكنّ ذلك كلّه يبقى غير ممكن ومؤقّت الصلاحية والنجاح، مع وجود الاحتلال، والملّا المسلَّح. ونقطة على السطر.